Wikipedia.org

الحياة في قلب العنف

واقعنا اليوم كما يظهر لنا نحن اليوم إزاء عالم تتقطع أوصاله من جراء عنف الإنسان، عنف موجّه ضدّ الطبيعة والحضارة وضدّ الإنسان نفسه!وأمام هذا السرطان المستشري في مجتمعاتنا، نشعر بضعفنا وقلّة حيلتنا، ويُسلّم بعضٌ منّا إلى مبدأ مقيت وهو أنّ مصيرنا المحتوم […]

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

واقعنا اليوم كما يظهر لنا

نحن اليوم إزاء عالم تتقطع أوصاله من جراء عنف الإنسان، عنف موجّه ضدّ الطبيعة والحضارة وضدّ الإنسان نفسه!وأمام هذا السرطان المستشري في مجتمعاتنا، نشعر بضعفنا وقلّة حيلتنا، ويُسلّم بعضٌ منّا إلى مبدأ مقيت وهو أنّ مصيرنا المحتوم لهو بين مخالب هذا الشرّ، ينهش حاضرنا ويفتك بمستقبل أولادنا.

وإزاء هذا الواقع المرير، أقف معكم اليوم متأمِّلًا المسيحيّة بتاريخها القديم والحديثفلنتأمّل المسيحيّة ونحن نحتفل في هذه الأيام بسرّ الفداء.

إن المسيحيّة لم تسلم يومًا من العنف، ففي جوهرها نجد يسوع المسيح، كلمة الله المُتجسدة، نجده هو نفسه فريسة عنف الإنسان. وفي هذا الأسبوع المُقدس، نجد أنفسنا أمام صور عديدة ومتنوِّعة من العنف النازلبيسوع: الغشّ، الغدر،الخيانة، النكران، شهادة الزور، الظلم،العنف اللفظيّ والمعنويّ والجسديّ. أمثلة مختلِفة من العنف ما زلنا للأسف نسمع عنها كلّ يوم في واقعنا المُعاصر،أمثلة عاشها يسوع المسيح، ودوّنها الرسل في الأناجيل كي تكون شهادة حيّة على ما شاركنا إيّاه المسيح.

المسيح يُعطي معنىً

دعونا نتوقّف اليوم مليًّا أمام العشاء السريّ. كيف يتصرّف يسوع أمام الأزمة الطاحنة التي تزعزع تاريخه؟ أمام العنف والموت اللذين واجهاه من كلّ حدّب وصوب، من القريب قبل الغريب، من رؤساء الكهنة وحتّى مِن المؤمنين بل ومِن الرسل؟ يتوقّف التاريخ هنا. عند هذه اللحظة، ما من مستقبل… إنّه الموت، لا مفرّ.في تلكاللحظة الّتي يؤسِّس فيها يسوع التاريخ الجديد، يأمر أن “اعملوا هذا لذكريّ” (لو19:22)، ما هذا التناقض الرهيب؟!ما الّذي علينا أن نتذكَّره أيَّها المسيح المُتألم المصلوب؟

بالعودة قليلًا إلى الوراء، نرى أن القدّيس يوحنّا يفتتح مشهد العشاء بجُمل تُلخّص كلّ ما يمكن أن يُقال: ” قد أتَت ساعةُ انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه…وقد ألقى أبليس في قلب يهوذا بن سمعان الإسخريوطيِّ أن يُسلِمه” (يو13/1-2). أي عندما شعر يسوع بالعنف يسيطر على الأجواء، وشعر الجميع بالإنقباض من جرّاء هذا العنف، قام عن العشاء وبدأ بغسل أرجل تلاميذه، الواحد تلو الأخر، دون أن يحكم على أحد، دون أن يستثني أحدًا من محبَّته. فها هو المسيح يُعطي معنىً عميقًاوجديدًالهذه اللحظة الّتي نكاد نظنُّ فيها أنَّ الشر قد انتصر وأنَّ الكلمة الأخيرة تُركت له. ولكن هيهات! قد يكون الشرّ قويًّا إنّما الحياة أقوى! الخير له النُصرة لأنَّه من عند الله. بغسل أرجل تلاميذه، حطَّم يسوع كلّ نظرتنا المشوَّهة إلى السلطتين السياسيّة والدينيّة. فهو السيّد، المُحرِّر المنتظَر، يُحرِّرنا من نظرتنا المحدودة للسلطة السياسيّة لتصبح مرادفة للخدمة، خدمة الخير العامّ، خدمة المُصالحة والحوار. أما السلطة الدينيّة، فأصبحت في خدمة الفقير، النزول عن العروش، والجلوس تحت أقدام هؤلاء الّذين يُعانون من ظلم المُجتمع، وقساوة الحياة. الجلوس تحت أقدامهم والإصغاء إليهم، كما كانت مريم أخت مرثا تُصغي إلى كلمات المسيح وتعاليمه، فالحاجة هنا أيضًا إلى أمر واحد دون سواه.

أمّا على الصليب فقمّة مشاهد العنف. إنّما هنا أيضًا يُعطي يسوع لهذا المشهد معنىً جديدًا. يسوع المعلّق على خشبة، يسوع ضحيّة الانتقام، لا ينتقم، بل يغفر ويصفح. يُشرع الأبواب مُجددًا للحبّ، فيقبل اللص الّذي عن يمينه. يُفجر ينابيع حياة مُتجدِّدة لا تنضب في قلوب من يرونه، ليشهد قائد المئة نفسه بأنَّ يسوع كان حقًّاابن الله.

 

سرّ يسوع…

كيف كان للمسيح أن يفعل ذلك إن لم يكن على علاقة راسخة بالله الآب، فمن الله خرج وإلى الله يَمضي (يو13/3).يسوع هذا الّذي يخرج إلى الصحراء ليُصلّي لله الأب (لو 6/ 12 – مر 6/46 – مر 1/ 35) ، يعتزل ليسجد ويصلي بُحرقة في بستان جتسماني. يشعر يسوع بكآبة كبيرة، ولكن علاقته بالآب تتخطى وتتجاوز جفاف المشاعر. فنراه “يتقدم قليلًا ويسقط على وجهه ويصلّي”ويعود إلى التلاميذ فيجدهم نيامًا، “فيعود أيضًا ويصلّي… ويصلّي ثالثة” (لو 22/ 44 – مت 26/ 42 : 44).إننا مدعوّون اليوم، على غرار هذا المسيح المعذّب، إلى تفعيل هذه العلاقة المُحيية، فبها وحدها نستطيع أن نجد قوّتنا أمام العنف القاسي.هذه العلاقة لا يُمكن أبدًا بأي حال من الأحوال أن تثنينا عن الاعتراف بوجود العنف في واقعنا، لا بل إنّها تساعدنا على أن نُسمّيه باسمه الحقيقيّ، وأن نضعه في مكانه الحقيقيّ. ولكنّها أيضًا تساعدنا على عدم التسليم بأن هذا المأزق هو نهاية المطاف، ليس هو مصدر هذه الحياة وليست له الكلمة الفصل. بالعلاقة مع الله، نستطيع أن نؤكِّد أن جذور هذا الشر هشَّة ضعيفة، أمام الحبّ المُتجسِّد يوميًّا في حياتنا.

صحيح أنّنانتصوّرالعنف غولًاشرسًا ووحشًا كاسرًا يفتك ولا يرحم، لكنه في الحقيقية وحش ضعيف، وحش مهزوم أمام حبّة الحنطة، والتي إن سقطت في الأرض، تموت وتُثمر ثمرًا كثيرًا(يو 12/24). والأمثلة كثيرة على هذا الحبّ الكبير الصغير الذي يولد في قلب هذا الواقع العنيف كلّ صباح، يعيش بهدوء وسط هذا الصخب، ينمو ويكبر.قد لا نشعر به، قد لا نراه من دون هذه علاقة متينة مع الله، لكنّه موجود ونراه بالله وحده.

على خُطى يسوع…

والأب فرانس فاندرلخت اليسوعيّ الّذي اغتيل منذ3 سنوات، لم يمت فعليًّا. ما زال يعيش في كلّ شاب يزور دير الآباء اليسوعييّن في حمص بسورية، باحثًا عمّن يصغي إليه ويحمل معه شيئًا من وجعه من دون أن يحكم. ما زال يعيش في كلّ شاب جاء ليقدّم يد العون وليخدم الإنسانتمامًا كما كان فرانس يعيش حياته.على مثال مُعلِّمه.على مثال الخير والحبّ. وهيئة الإغاثة اليسوعيّة التي تعمل في أكثر المناطق خطرًا، في ظروف لاإنسانيّة بمناطق منكوبة، أليست هي الأخرى ذلك الخير؟ حبّة الحنطة؟ أليس هؤلاء الشباب الذين يعملون في قلب دوّامة العنف ليُعطوا معنًى ورجاءً لكلّ شخص موجوع بغضّ النظر عن جنسه أو دينه بعضًا من هذا الزرع المبارك؟

فلننظر معًا إلىجميع الناشطين والعاملين في الجمعيات الأهلية وأصحاب المُبادرات الشبابيّة التي تسعى جاهدة كي تبني مناخًا صحّيًّا مناسبًاليعيش فيه الإنسان بمعزل عن العنف الدائر حوله، فلننظر إليهم! أليس هؤلاء الذين لا يكفّون عن رفض العنف وحماية الإنسان من براثنه،وجهًا من وجوه التمرّد على ظلمٍ واقعٍ على كاهل الإنسان العاجز؟

فلننظر إليهم بإمعان، فلنتأمّل في هذا الخير الهادئ الذي يعيش حولنا كي نستطيع أن نرى نور الرجاء والملكوت على الأرض. فالله الخالق الذي رأى في النهاية أن جميع ما خلقه حسن، لا يمكن أن يترك الإنسان وحيدًا وسط هذه الفوضى.فهو عمانوئيل الله معنا، وهو الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله.الله معنا. كان وما يزال وسيظلّ دومًا معنا، إلى جانبنا، يمسك بيدنا ويسقي معنا حبّة الحنطة التي تكبر يومًا بعد يوم. تكبر بأعمالنا وقدرتنا على عمل الخير.

فلنأخذ اليوم وقتًا شخصيًا، نتأمل علامات النور والحياة في واقعنا، بالرغم من العنف الذي قد يكون أكثر وضوحًا. ولنشجع أنفسنا أن نكون فاعلين في مُحيطنا، وبُناة سلام وجسور حوار، مع أقرب من هم لدينا، لنكون شهود الحياة والرجاء الّذي فينا.

 

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ماريو بولس

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير