أثيوبيا، حيث الموت يسبق الحياة، والمرضى أكثر من رمل الطرقات، هناك التقيتُ بمنبع الحياة يتجلّى، حيثُ النِعَم تفيض غزارةً على يَدِ راهبات لا يعرفن سوى أن يخدمن: إنّهنّ راهبات مرسلات المحبّة، يكمّلن عمل الأم تيريزا في العالم بقوّة الله وبإلهام روحه القدّوس.
راهبات مرسلات المحبّة، وجهٌ من وجوه الرّحمة الذي يتجلّى في عالم اليوم، إنهنّ كحبّة القمح التي قبلت أن تموت عن نفسها، عن عائلتها ووطنها، عن لغتها، لتأتي بثمارٍ كثيرةٍ في حقلِ الرَّب الخصب حيث العمّال قليلون أمّ الحصاد فكثير. صلواتهنّ شهادة، حضورهنّ شهادة، عملهنّ شهادة، إتكالهنّ على الرّبّ وتسليمهنّ الكامل للروح هما شهادة. إنّهنّ مدرسةٌ في الحب، معلمهنّ يسوع المسيح، دروسهنّ الصلاة، على مثال المؤسِّسة التي التمست أوّلًا عطش المسيح في الفقير: الأم تيريزا.
في مركزِ الراهبات الذي يُدعى “مركز للمرضى والذين يموتون”، حيث المسكّنات ممنوعة والطبابة بسيطة، أدركتُ ما كان مخفيًّا عنّي طوال حياتي: “الإنسان يمتلك جسدًا ولكنّه ليس بجسدٍ، بالمقابل لا يمتلك الحياة لذلك هو حياة!”. لن نمتلك الحياة يومًا فهي التي تتملّكنا وتتخطّانا، فمن التقيتهم بأثيوبيا هم أحياءٌ في قلبي وذهني وصلاتي حتّى ولو خسروا كل ما يملكون، حتّى لو خسروا جسدهم ونبضات قلوبهم، فحياتهم ليست ملكهم بل ملك الحياة، ومن أجل حياتهم تتجلّى نِعَم الرّب يوميًّا في العالم، ففي “مركز الذين يموتون” كانت الحياة تنطبع على وجوه الجميع، ببسمةٍ بسيطةٍ منحوتةٍ إختَبَرَتْ إزميلَ الألم، وبعيونٍ برّاقةٍ سَهِرَتِ الدّموعُ على تنقيتها من ظلم الواقع، وبغمرةٍ مشدودةٍ تَشحنُ طاقةَ حبٍّ في نفوس من لم يختبرها في شوارع الكآبة.
في كلِّ لقاءٍ التقيته مع أحدهم في أثيوبيا، خلال تطبيبب الموجوعين أو التغيير على جراحاتهم، كنت أتذكّر لقاء النّازفة بيسوع، فكنت أمتلىء قوّةً من مجرّد لمستي لهم، ومن النظر في عيونهم. في كلِّ مرّة كنت أساعد في العلاج الفيزيائي وأغمر أرجل المرضى، كنت أتخيّل يوسف الرّامي يغمر جسد المسيح حين أنزله عن الصليب وأمتلىء حياةً. في كلّ لحظة في رسالة أثيوبيا كان قلبي يهتف “وجدتُ المسيح”، فكنت أفهم أكثر وأكثر إنّي لم آتِ لأخلّص بل لأتعرّف على يسوع الذي وحده قادر أن يجعل من الموتِ حياةً ومن الصّليب خلاصًا.
أشكر الله على هذه الفرصة، وأشكر الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة على تنظيمها لنا هذه الرّسالة التي دامت عشرين يومًا في هذا “الملكوت الأرضي”، حيث شعرت بأنّ صرخة “أنا عطشان” كانت صرختي، ولم ترتوِ إلّا عندما صرخت “وجدتُ المسيح… في أثيوبيا”، ففي كلِّ وجهٍ التقيته، شعرتُ بلذّة اللقاء بِيسوع، فانشدتُ لَه التسبيح بكليّتي، فكانت يداي تُنشدان عملًا، ووجهي ابتسامةٌ، وقلبي حُبًّا، وكياني فرحًا، رُغم مرارة الواقع وظلم الحياة…