1 روحانيّة محامٍ ومحامٍ عن روحانيّته (مهنته)
ذكرنا آنفًا، أنّ نجاح مهنة ورسالة المحاماة، تتطلّب صفات حسنة. وتبقى الحياة الروحيّة للمحامي قيمة إضافيّة لرسالته وعمله المهنيّ، المشبّعة بثقة بالله وعمل الروح القدس. وبالرغم من عزلة الإنسان السلبيّة وفكره العدائيّ وعيش حالة الوهم، لا بدّ من أن يُدرك أهميّة عيش الوحدة مع ذاته والله والآخرين، بإطفاء وإخماد روح العدائيّة، التي يغذّيها على مرّ الأيّام، متناسيًا استقبال السيّد المسيح الخطأة وحثّهم على الصلاة والتوبة لا على الوهم والمظاهر الخارجيّة والابتعاد عن الحقيقة والحقّ.
بالرغم من طغيان علامات “سلبيّات” الحياة اليوميّة: كآبة، وحزن، وآلام، ونزاعات، وغضب، وحقد، تبقى الروحانيّة الملجأ لاستعادة الثقة والفرح والطمأنينة “تحزنون الآن، ولكنّي سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم، وما من أحد يسلبكم هذا الفرح” (يو 16: 22).
يتطلّع المحامي المؤمن بوجود الربّ يسوع في حياته، إلى تمجيده طالبًا منه القوّة والثقة والتميّز والقدرة على الاهتمام بقضايا طالبي العدل والرحمة من خلال التحليل العلميّ الجيّد المبنيّ على الحقيقة. ويطلب أيضًا قوّة الإصغاء لصوت الضمير كما للآخر من أجل إظهار الحقيقة وتثبيت العدالة. يستمدّ المحامي المؤمن بكنيسة السيّد المسيح، روحانيّته من إيمانه العميق والثابت في حقيقة يسوع المسيح، المخلّص والفادي للذين يؤمنون به. ذلك الإيمان المُعبَّر عنه بممارسة الأسرار، والدخول في الصلاة وعمل المحبّة والرحمة. يتوق المحامي المؤمن، من خلال روحانيّته، للاستعداد إلى الدخول في الحياة الأخرى، أي الأبديّة، التي هي أسمى بكثير من السعادة الحاضرة.
جلبت محبّة الله للمؤمنين النعمة. تهب النعمة القدرة على العيش والشعور بالخبرات الإلهيّة وتذوّقها وانتظارها بكلّ رجاء وإيمان. “لقد ظهرت نعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع الناس، وهي تعلّمنا أن ننبذ الكفر وشهوات الدنيا لنعيش في هذا الدهر برزانة وعدل وتقوى، منتظرين السعادة المرجّوة وتجلّي مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح” (طي 2: 11-13). أحبّ السيّد المسيح، خرافه، فبذل نفسه من أجلها، وطلب المحافظة على تلك المحبّة، كما تبادلها مع الآخرين. تبنّى الله الخالق، الإنسان من خلال إرساله ابنه، فأصبحت الخليقة جمعاء أبناء الله من خلال محبّته الكاملة التي تُعطي الطمأنينة والفرح والغبطة. عندما يأخذ المؤمن أسرار المسيح، يكون قد أخذ المسيح ذاته “أولئك الذين أخذوه أعطاهم سلطانًا ليصيروا أبناءً لله الذي يؤمنون باسمه” (يو 1: 12). يدعو المسيح المؤمن، كما المحامي المؤمن إلى الثبات في محبّته، فهكذا يبقى المؤمن في الله والله فيه، أي أن يكون الله معه “الذي يبقى في المحبّة يبقى الله فيه” (1 يو 4: 16).
يدعو الله إلى تطبيق تعاليمه وشرائعه ووصاياه من أجل الحصول على الخلاص. من هنا لا بدّ للمحامي المؤمن أن يطبّق في حياته ناموس الله، فعندئذٍ يعبّر عن حبّه لله كما النفاد والثبات في محبّته. كما يؤكّد خضوعه لإرادة الله ولا يريد غير إرادة ومحبّة ونعمة الله “مَن حفظ وصيّتي يكون فيَّ وأكون أنا فيه” (يو 15: 10). فهكذا يدخل المحامي المؤمن في الحياة الروحيّة التي تجلب السلام والغبطة والأمان، لأنّها نتاج المحبّة الإلهيّة. تساعد تلك المحبّة الإلهيّة، المؤمن للارتباط بالمسيح دون سواه وتقوده نحو تحقيق الخلاص وعيش الحياة الأبديّة بالدخول إلى الملكوت.
إنّ المحامي المؤمن بكلمة الله وقدرته، يحبّ المسيح. وبمحبّته له وخضوعه الطوعيّ، يملك أفكار المسيح دائمًا؛ فتأتي أعماله مطابقة لتعاليمه، لأنّه لا يفعل شيئًا إلاّ بإرادة المسيح، كما أنّ العين لا تستطيع أن ترى بدون النور. يُدرك المحامي المؤمن، أنّ المسيح هو نبع الخبرات، لذا يخضع له كليًّا وبكلّ إرادته، لأنّه يُدرك أنّه نبع الحياة وسبب سعادته وسرّ خلاصه. “مَن لا يبقى فيَّ يُطرح خارجًا كغصن الكرمة الذي يجفّ ويلقونه في النار” (يو 15: 6). إنّ الاقتداء بالمسيح والسير ورائه يتطلّبان خضوع إرادة المؤمن لإرادته. فهذا يقود المؤمن أو المحامي المؤمن إلى الحياة السعيدة، لأنّه وحّد عقله وإرادته بالله. يفكّر العقل بالله. أمّا الإرادة تلتصق به بالمحبّة.
يدخل المحامي المؤمن من خلال الروحانيّة، بحياة المسيح الظاهرة بنور الأعمال الصالحة، أي أعمال الرحمة والمحبّة وذلك من طريق المحبّة. يُدرك المحامي الروحانيّ الذي يدافع عن روحانيّته، أنّ المحبّة للمسيح إتّحاد به وهذه الوحدة تشكّل الحياة الحقيقيّة، كما أنّ الابتعاد عن المسيح يدفع إلى الموت الروحيّ ويسبّبه، لذلك يقول “وصيّتي حياة أبديّة” (يو 14: 16)، وتعني الوصيّة المحبّة، “الكلام الذي كلّمتكم به هو روحٌ وحياة” (يو 6: 63). فإذا كانت الحياة الروحيّة هي محبّة المسيح فمن الواضح أنّ المحبّة هي القوّة الوحيدة التي يجب أن تحرّك المسيحيّ الحقيقيّ وأيضًا المحامي المؤمن. تُسهم روحانيّة المحامي المبنيّة على المحبّة المتّقدة المتأتية من الربّ يسوع، الرغبة في الاتّحاد الدائم به. كما تعطيه الشجاعة والثقة الضروريتين لإعداد طريق الربّ والدعوة إلى المشاركة مع الآخرين، بانتظار يوم الخلاص والفرح الكامل والدائم.
ذكرنا آنفًا، بعض الخطوط الرئيسيّة التي تشكّل روحانيّة المحامي المؤمن بمحبّة المسيح وفاعليّتها، والتي تدعوه للدخول في حياة روحيّة، تخوّله صفة الإنسان الروحانيّ. هي حالة يبنيها المحامي على مراحل وتتطلّب منه أمورًا كثيرة. فعندئذٍ يكتسب حياة روحيّة تسانده في مهنته ورسالته بتحمّل مسؤوليّته، حاملاً الصفات التي تليق به وبعمله الإنسانيّ والرسوليّ. من هنا يرافقه الربّ في عمله اليوميّ من خلال الروح القدس، الذي يُسكب عليه النعم اللازمة ويرافقه في الاستماع جيّدًا للمحتاجين إليه، كما العون على قراءة كلّ مراجعه، بالحضور دومًا معه، وإعطائه عزّة النفس والشهامة لكي لا يضعف أمام الإغراءات الماديّة. كما المحافظة على محبّة عائلته وإبراز لهم الشجاعة والبهجة. زِد على ذلك إعطاءه الصبر والقوّة في إتمام واجباته لكي يكون خادمًا صالحًا للإنسانيّة وللربّ يسوع، متّكلاً على نقاوة القلب والفكر والروح لكي يدخل الله في حياته.
2 ومضات روحيّة
يحتاج المحامي المؤمن الخادم الصالح، إلى ومضات روحيّة، تدفعه إلى عيش حياة مسيحيّة متجذّرة بحياة روحيّة عميقة وفرحة:
- الاعتراف بأنّ الله هو مصدر كلّ صلاح ومن خلال يسوع المسيح وعمل الروح القدس.
- جعل الإيمان سيّد الصلاح، المرجع الأوّل والأخير، لأنّه يدبّر الأمور.
- الاتّكال على السهر وأساليب الصلاة والصبر في التجارب ومواجهة الصعوبات والمشاكل والتحدّيات.
- تفادي الكسل لأنّه يُعيق عمل الصلاح. والاتّكال على الإحسان والصلاة لأنّهما يهبا النشاط والاندفاع نحو عمل المحبّة.
- العمل على إصلاح الذات بطلب المغفرة والقوّة وتنقية الضمير وقبول المشورة والنصيحة.
- الابتعاد عن حبّ الذات والأنانيّة والكبرياء وازدراء الآخرين، بل التقرّب من المحتاج بتواضع وأخوّة.
- التخلّي عن تبرير الذات والتهاون في المسؤوليّة والعمل.
- عدم النسيان بأنّ الله ينظر إلى القلب والنوايا الصادقة.
- التمسّك بقراءة كلمة الله من خلال الكتاب المقدّس، والعمل على تطبيق وصايا الله وكلام الربّ يسوع.
- ازدراء الرذيلة والشرّ والغضب والابتعاد عن المجد الباطل والمديح المزيّف والتعلّق بالسلطة والماديّات والشهوات والأهواء.
- السعيّ إلى تحقيق العدل وإبراز الحقيقة والتصدّي للباطل.
- طلب الحكمة والنعمة الإلهيّة ورحمة الله ومحبّته، لمواجهة الضعف البشريّ والتصدّي للخطيئة.
- العمل على تحقيق السلام الداخليّ، باكتساب الفضائل الإلهيّة: الإيمان والرجاء والمحبّة، من خلال عمل الروح القدس، الذي يقود نحو الخلاص.
- الحفاظ على وصيّة يسوع المسيح “أحبّوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم”.
- نشر ثقافة الحياة والرحمة والعدل، كما العمل على روح التعاون والتعاضد والمساعدة وبذل الذات من أجل إعلان كلمة الله وإحياء الأنجلة الجديدة.
الأب د. نجيب بعقليني
أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة
رئيس جمعيّة عدل ورحمة
المراجع
- الكتاب المقدّس
- افاغريُوس القبطي/مرقس الناسك، فصول في الصلاة والحياة الروحيّة، أباء الكنيسة، منشورات النور، بيروت، 1983.
- نقولا كاباسيلاس، الحياة في المسيح، آباء الكنيسة، منشورات النور، بيروت، 1983.
- الأب هنري نووين، السعي إلى الأعماق، مراحل الحياة الروحيّة الثلاث، دار المشرق، بيروت، 1996.
- الأب أوليفر بُرج أوليفييه، الإرشاد الروحيّ والحياة بالروح، دار المشرق، بيروت، 1997.