صار لنا مدّة طويلة غائبين عنكم وعن الكتابة في موقع زينيت، وأحب أن تقبلوا إعتذاري وتقصيري، فسبب التوقّف فجأة هكذا يعودُ إلى أسباب وظروف خاصّة خارجة عن السيطرة. وها نحنُ نعود إليكم في سلسلة مقالات منوّعة عن الحريّة ومفهومها من النواحي الفلسفيّة واللاهوتيّة والإنسانيّة. ومقالات أخرى حول ميلاد يسوع. صلّوا من أجلي ومن أجل الخدمة.
كَثُر الحديثُ عن معنى الحريّة في زماننا. ولربّما سبّب هذا الموضوع مشاكل فكريّة وهزّات وحيرة عند الكثيرين منّا، وخصوصًا لدى الشباب. لأنه موضوعٌ شائك ومحيّر ويخلقُ تساؤلات عديدة. وتُطرَح دائما التساؤلات حول: هل الله خلقنا حقّا أحرارًا؟ ولماذا خلقنا أحرارًا وهو يعرف ضعفاتنا وفشلنا وخيباتنا وقراراتنا المتسرّعة وأخطاءنا … الخ؟؟! ومن مثل هذه الأسئلة كثيرٌ جدّا، سيأتي تباعًا من خلال شرحنا للموضوع.
قالوا عن الحريّة إنّها ” تـــُدغدِغُ أكثر ممّا تـــُغذّي “. تدغدغ مشاعرنا وفكرنا وحياتنا ومفاهيمنا والسبب قد يكونُ أنّ حياتنا متخبّطة يمينًا ويسارًا بين عدّة مفاهيم أخرى، نرى فيها (هذه المفاهيم) إمكانيّة أن نقرّر من ذواتنا كيف يجبُ أن تكون حياتنا وحياة العالم، وبين ما هي الحريّة نفسها وكيف يجبُ علينا تقبّل قانون ٍ ما وممنوع ٍ ما !
على أيّة حالٍ، الموضوع طويل ويحتاجُ إلى دراسة كبيرة. ولهذا فكّرتُ كثيرًا في طرح ِ هكذا موضوع ٍ لكم للفائدة. بعضٌ من الأفكار أخذتها من مراجع متنوّعة وبعضٌ آخر هي من خبرتي الشخصيّة ومن نظرتي للأمور. وفي نهاية الدراسة المبسّطة هذه، سأضعُ المراجع الموثقة.
اللاهوتُ الذي يتطرّق لمفهوم الحريّة في المسيحيّة هو ” اللاهوت الأدبيّ “. ينطلقُ اللاهوت الأدبيّ من أنّ الإنسان كائنٌ حيّ غير مسيّر بغريزته، بل هو مدعوّ إلى بناء ذاته بوعيٍ وحريّة. فالهدف الأخير لحياة الإنسان هو الوصولُ إلى إكتمال ذاته، وهذا الإكتمالُ هو عينه ” الخير ” الذي هو موضوع كلّ من علم الأخلاق واللاهوت الأدبيّ. فالخيرُ هو، لغويّا، كما نقرأ في المعجم ” حصول الشيء على كمالاته ” . وخيرُ الإنسان هو، فلسفيّا ولاهوتيّا، وصوله إلى إكتمال ذاته.
ربّما سيقفزُ الآن مَن يقرأ هذه الكلمات من مكانه متعجّبا، هازّا رأسه ورافضا كلّ ما مكتوبٌ، لأنه، في قرارة نفسه ونظرته للأمور وللحياة الآن، أنّ هذا الكلمات أكلَ عليها الدهرُ وشَرب لم تَعُد نافعة اليوم في هذا الزمن المعاصر الراكض والهائج الذي، بحسب منظوره للأمور، أصبحَ الإنسانُ هو سيّد مصيره وقراره…!
نعم، وكلاّ … ! الإنسانُ هو مَن يجبُ أن يكونَ سيّد قراره ومصيره لأنه خـــُلقَ مسؤولا ومتسلّطا على العالم وسيّدا للتاريخ أيضا، يُبدع ويُخلق ويعملُ. لكن، من جهة أخرى، الجواب هو كلّا،لأنّ الـــ ” نعم ” وحدها وبحدّ ذاتها، لا تكفي ! فهناكَ نعمٌ ولكن ..! وليس فقط ” نعم” وإنتهى الأمر.
” نعم” ، إن كانَ الإنسانُ يضعُ الله كـــ الأولويّة في حياته والمُنعِمُ عليها ولا يبقيه في الزوايا الخلفيّة منها ! لأن الله ذاته هو مَن أعطى الحريّة له ولم تأتيه من الخارج تحصيلٌ حاصل. هو من أمرهُ أن يكون حرّاـ لكن هذا لا يكفي! فالله الذي أمرَ الإنسان أن يكونُ حرّا وعاملاً، لم يدعه بلا قانون ونظام، وكأنه مثل هذا المدير الذي يتركُ المؤسّسة والعمّال فيها من دون قانون ٍ ولا رادع ٍ فتتحوّل إلى فوضى عارمة وتسيّب وخراب وهدم ! الله خلقنا، وأعطانا قابليّة أن نخلقَ أيضا ” كعلّة ثانية “، كما يقول التعليم المسيحيّ. خلقنا خلاّقين مبدعين، وحريّتنا هي حريّة نظام وقانون وليست حريّة عنجهية وفوضى وتسيّب، أو بالعاميّة نقول : ” كلمن إيدو إلو، أعمل ما يحلو لي ! “.
الحريّة، قلنا عنها إنها تُدغدغ لأنها تعطينا الراحة بأن ما أفعله هو بحسب صحيحٌ بالنسبة لي وأنا أراه صحيحًا وهذا يكفيني، وحجّتي: أنــا حر !. لكن، ربما ما يراه الآخرون والمجتمع غيرَ ذلك. ربما حريّتي وقراراتي التي أتّخذها، تهدمُ الخير العامّ والمصلحة الإنسانيّة وتخرّب الأسر والبيوت! ربّما. أنت يا مَن تقرّر بحسبُ ما يُمليه عليه فكركَ، هل فكّرت بضمير ٍ وبحق وبإنسانيّة، بأنّ ما تقرره وتفعله هو لمنفعة الآخر!؟ هذا سؤال مهم يجبُ علينا طرحه دائما. والسبب بسيطٌ جدّا، لأننا لا نعيش لوحدنا في العالم. هناك أكثرُ كم 6 مليارات كائن في العالم، بمعنى: هناك أكثرُ من 6 مليارات حريّة وقرار ! إن كانت حريّتي من دون رادع ٍ وقانون ونظام، ومن دون حقيقة وضمير وأخلاق ٍ، فإنّها تخلط الأخضر مع اليابس، وينتهي بنا الآمرُ إلى ما نراه اليوم في عالمنا من ظهور مفاهيمَ ونظريّات وقوانين وتشريعات غير أخلاقيّة أتخذتها الحكومات التي وضعت الله في الجيب الخلفيّ، عن طريق ما نسمّيه ” تصويت ” !!!. أصبحت النظريّة أهمّ من الإنسان وخيره. يتبعُ