مِن خلال تَبَحُّرهِ في الكتابِ المقدّس، اختبرَ الطّوباويّ أبونا يعقوب، بقوّة نورِ الرّوحِ القدس، كيف أنّ الله يكشفُ عن ذاتهِ من خلالِ عطيّةِ كلمتِه. وكيف أنّ هذه الكلمةَ دخلتْ في الزّمن وصارتْ جسدًا في يسوع المسيح وحلّتْ بيننا. وبها يقدّمُ لنا اللهُ عطيّةَ الحياةِ الإلهيّة، أي الشّركةَ معه. فهل مِن بُشرى سارّةٍ أعظمُ من هذه؟ وهل مِن فرحٍ أعمقُ وأكملُ مِن فرحِ اللّقاءِ بشخصِ المسيح، كلمةِ الله المتجسّدِ على أرضِنا ؟
أمامَ الانحدارِ الإلهيّ العجيب في التجسّد، كتبَ الطّوباويّ أبونا يعقوب :
« عليَّ أن أسجدَ وأقول : ربّي وإلهي ! مثلما قال بطرس : أنتَ المسيحُ ابنُ الله الحيّ !
فهل يمكنُ لِمَن فتَـنهُ حبُّ الرّبّ أن يقولَ غيرَ ذلك، في حينِ أنَّ خالقَهُ في مذودِ البهائم ؟ وهل يُمكن، بعدَ ذلك، معرفةُ إلى أيِّ مدى مِنَ الاتِّضاع سيذهبُ اللهُ في تفتيشهِ عنّا وحبِّهِ العجيب لنا ؟
مُحَيِّرٌ هذا السِرّ، سِرُّ صمتِ الله وتواضعهِ اللامحدودِ في تَجسّدِه ! للإنسانِ كاملُ حرّيةِ التّصرّفِ بهذا الطّفلِ الضّعيف. يستطيعُ أن يتجاهلَهُ، أن يَرفضَهُ، أن يَضطهدَهُ، وفي النّهاية، أن يَصلبَه! ».
« هو فقيرٌ في مولدهِ: وَلدتْ مريمُ ابنَها البكرَ فلفّـتهُ وأضجعتهُ في مذود، لأنّهُ لم يكن لهما موضعٌ في المنزل.
أكثرُ فقرًا في حياتِه: للثّعالبِ أوجارٌ ولطيورِ السّماءِ أوكار، أمّا ابنُ البشر، فليس له موضعٌ يُسندُ إليه رأسَه.
سامي الفقرِ في صَلبِه: عندما صلبوهُ اقتسموا ثيابَهُ بينهم واقترعوا عليها… إنّ سيّدَنا يسوع، بمجيئهِ إلى الأرض، أحبَّ أن يأخذَ كلَّ ضعفِ طبعِنا ما عدا الخطيئة… فلنتأمّلْ ما صَنعهُ في سبيلِنا… مِن أجلِنا تخلّى عن سعادةِ الفردوسِ ومجدِه، وعمّا هو عليه من الجَلالة، فصارَ طفلًا.
« قلْ لي، يا يسوعُ مخلّصي، لماذا أتيتَ إلى الأرضِ مُحتمِلًا آلامًا وإهاناتٍ كهذِه ؟».
إحدى الترانيم الّتي وضعَ كلماتِها ولحّنَها، لعيدِ ميلادِ الربّ:
وُلدَ الّذي فَطرَ الأنامَ بمذودِ قد غادرَ العرشَ المُوَطّدَ في العُلى |
|
بينَ البهائمِ يا لهُ من مَولدِ ليحلَّ أحقرَ موضعٍ في المذودِ |
ترنيمة أخرى
ما أجملَ إسمَ يسوعْ
|
|
يا قلبُ كُنْ به وَلوعْ |
أحبِبْهُ أحبِبْهُ
ليسَ اسمٌ مثلَهُ
|
|
حلوٌ بديعُ
|
يسوعُ للأذْنِ نَغمْ
|
|
يسوعُ فيضٌ ونِعمْ
|
أحبِبْهُ أحبِبْهُ
عندَ وقتِ المماتْ
|
|
بهِ ترَنّمْ
|
« الملاك، بعد أن قال للرُّعاة: ’’ وُلدَ لكم اليومَ مخلّصٌ وهو المسيحُ الرّبّ ‘‘، أضاف: ’’ وهذه علامةٌ لكم أنّكم تجدونَ طفلًا ملفوفًا مُضجَعًا في مِذود ‘‘.
أنظروا إلى أيِّ درجةٍ تَنازَلَ ابنُ الله!… نعم، يسوعُ مُهانٌ على الصّليب وفي المغارة. لكنْ منظرُ المغارة يَجرحُني بالأكثر . لأنّه على الصّليب، يسوع تَكلّمَ، صلّى إلى أبيه، رَدَّ على لصِّ اليمين، صلّى لأجلِ جلّاديه… أمّا هنا في المغارة، فهو ساكِت . يستطيعُ التّكلّم ولا يَتكلّم، يَملكُ كلَّ المَعارفِ ولا يُظهِرُها . كلمةُ الله لا يتكلّم ! سَكتَ حتّى لا يُخيفَك، أيّها الإنسانُ الخاطئ، لتقتربَ إليه بكلِّ ثقة. في هذا الوَضع، ينطبقُ عليه كلامُ المزمور:
’’ أمّا أنا فكأصمَّ لا يَسمع، وكأخرسَ لا يَفتحُ فاهُ، وكنتُ كمَنْ لا سمَعَ له ‘‘ . ولكنّهُ يقولُ بلسان أشعيا: ’’ طالما سَكتُّ وصَمَتُّ وضَبطتُ نفسي، فالآنَ أصيح ‘‘ » ؛ بالإشارة إلى تَدخُّلِ اللهِ القريب لأجلِ خلاصِ شعبِه.
« أنظُروا كيف أخلى ذاتَهُ بهذا التّجسّد، وإلى أيِّ دركاتٍ من الذلِّ نزلَ ! اتّحدَ بخليقتِه، بخليقةٍ ليستْ بأشرَفِ خلائقِه، كالملائكة، بل بالإنسانِ التُّرابيّ، وأرادَ أن يَمُرَّ بكلِّ مراحلِ العُمر. وهذا الجسدُ الّذي أخذهُ قابلٌ للعذاب والأمراض والموت، وخاضعٌ للخطيئة. أخذَ صورةَ الإنسان خليقتِهِ الخاطئة، لكي يُخلّصَ هذه الخليقة. يا لَعُمقِ حكمةِ الله ! الكلمةُ صار جسدًا، لا ملاكًا، لا روحًا، بل جسدًا. كيف لا ننذهلُ لو رأينا طبيبًا يأخذُ جسمَ مريضِه مع أوجاعِه كي يَشفي هذا المريض؟! يقولُ القدّيس أغوسطينوس: ’’ يا لَمرضِ آدمَ الشَّنيعِ الّذي لا دواءَ له إلاّ موتُ طبيبِه ! ‘‘ هذا الموتُ تمَّ على الجلجلة. لكنّ العذابَ بدأ في المغارة. وإنّي، مع القدّيس ترتليانوس، أعتبرُ مغارتَهُ كقبر، وختانتَهُ كصليب ».
« يمكنُنا القولُ بالحقيقة، إنّه لولا مِن هذا الموتِ لَمَا كان المسيحُ يُبهِرُنا ! وإنّ طريقَ الحبِّ هذا، الّذي أودَى به إلى الموت، قد بدأ بالتجسّد… جميعُ مُحبّي الرّبّ يُبهَرونَ بهذا الانحدار . وهو ما حَدا بالشّهداء إلى تفضيلِ الموتِ من أجلِ المسيح بالرُّغمِ مِن كلِّ الإغراءاتِ والتّهديداتِ الّتي تَعَرَّضوا لها . وهو ما جَذبَ إلى اتّباعهِ جَمًّا غفيرًا من الشّهود على مدى الأجيال ».
روحانيّة الطوباوي أبونا يعقوب، رسول الرحمة – من مخطوطات الطوباوي أبونا يعقوب جمعية راهبات الصليب