تحت عنوان “من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء” (قانون الإيمان)، نقلاً عن موقع راديو الفاتيكان الإلكتروني بقسمه العربي، وجّه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي رسالته احتفالاً بعيد الميلاد المجيد 2017، وقد استهلّها بالقول: “فيما نخشعُ أمام مغارة الميلاد، نعودُ بالذاكرة إلى ألفَي سنة مضت، فنسمع صدى صوت الملاك لرعاة بيت لحم، الساهرين على قطعانهم في نصف اللَّيل: “أبشِّركم بفرح عظيم يكون للعالم كلِّه، لقد وُلد لكم اليوم المخلّص، هو المسيحُ الربّ” (لو2: 11). فأعلنت الكنيسة إيمانها في مجمع نيقية 325 والقسطنطينية 381 وهو إيمانٌ نردّده كلّ يوم: “ونؤمن بربّ واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من مريم العذراء ومن الروح القدس وصار إنساناً”.
يا للتنازل العجيب! الإلهُ يصير إنساناً، ويتّخذ أمّاً، هو خلقها. يعطينا ما له من سموّ إلهي، ونعطيه ما لنا من ضعف بشري. يا له من تبادل متناقض: “الإله صار ابن البشر، حتى نستطيع نحن أن نصير أبناء الله”. (القديس البابا لاون الكبير).
وتابع بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق مار بشارة بطرس الراعي رسالته التي تلاها على مسامع زوّاره قائلاً: “يطيب لي وللأسرة البطريركيّة أن نعرب عن أحرّ تهانينا وتمنياتنا بالميلاد المجيد والسنة الجديدة 2018، لكم أيُّها الحاضرون، من أساقفة ورؤساء عامّين ورئيسات عامّات ورهبان وراهبات، ولكلّ أبناء كنيستنا وبناتها، إكليروساً وعلمانيّين، في لبنان والنطاق البطريركي ودنيا الانتشار؛ كما نهنِّىء جميع اللبنانيِّين، راجين أن يشعّ نور المسيح على الجميع، فيبدّد ظلمات الحياة: ظلمات الخطيئة والشّر والنزاعات والحروب؛ ظلمات الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة والاجتماعيّة؛ ظلمات الفقر والحرمان والعوز.”
ونقلاً عن الموقع الإلكتروني للبطريركية المارونية، قال البطريرك الراعي في رسالته أيضاً: “لا يمكن القبول بأن يبقى ثلث الشّعب اللبناني تحت مستوى الفقر، كما أظهرت دراسات البنك الدّولي. هذا اللبناني الخلّاق الذي اعتاد على البحبوحة والكرامة، كيف القبول به يعيش في الحرمان، لا يستطيع أن يؤمّن حاجيات الحياة الأساسيّة من غذاء وكساء ودواء وتعليم وماء وكهرباء؟ وبالتلازم، أيّ ضمير عالمي يقبل بأن تعيش 58% من أُسر النّازحين السّوريين عندنا في فقرٍ مدقع، كما أظهر تقرير 2017 للمفوضيّة العليا للّاجئين؟”
وأضاف: “كم يؤسفنا أنّ الأسرة الدوليّة لا تفي بوعودها والتزاماتها وهي التي فرضت الحرب على العراق وسوريا وحرّضت عليها، وأنّ دولاً مقتدرة بالمال والسّلاح أجّجت نارها في هذَين البلدَين وفي سواهما، تُهجِّر المواطنين الآمنين من بيوتهم، وتلقي بثقلهم على الدّول المجاورة، ومنها لبنان الذي يستضيف مليون وسبعماية ألف نازح سوري ومئات العراقيين بالإضافة إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني، الأمر الذي ضاعف حاجات اللبنانيِّين”.
وإذ توقف غبطة الرسالة العامة التي أصدرها في الخامس والعشرين من آذار مارس من العام الحالي “خدمة المحبة الاجتماعية”، تابع البطريرك الماروني رسالته احتفالاً بعيد الميلاد، مشيراً إلى “أنّ رأسمال اللبنانيّين هو العلم والتّربية الرّفيعة. ومن حقّ الأهالي اختيار المدرسة التي يريدون لأولادهم، من أجل هذه الغاية. يؤسفنا أن يكون قانون سلسلة الرتب والرّواتب قد أحدث بعض الشّرخ في قلب الأسرة التربويّة الواحدة: بين المعلّمين وأهالي الطلّاب والمدارس الخاصّة. إنّ المدرسة الخاصّة، ولا سيّما الكاثوليكيّة، معنيّة بالمحافظة على المعلّمين وضمان حقوقهم، وعلى أهالي الطلّاب بالتخفيف عن كاهلهم، إيماناً منها بدورها ورسالتها على المستوى العلمي والتّربوي والاجتماعي والوطني. من واجب الدّولة أن تدرك أنّها مسؤولة عن تعليم اللبنانيِّين بحكم الدستور، وتعتبر أنّ المدرسة الخاصّة ذات منفعة عامّة. وعليها بالتالي أن تتولّى دفع فروقات رواتب المعلّمين النّاتجة عن السلسلة الجديدة، وتمنع بالمقابل رفع الأقساط المدرسيّة. وعليها أن تحافظ على المدرسة المجانيّة، وتؤمّن لها سنويّاً المستحقّات الماليّة، لكي تستمرّ في خدمة التلامذة والعائلات المعوزة، وتؤمّن فرص عمل لإداريّين ومعلّمين وموظّفين. وعلى الدولة في المدى الطويل أن تدعم رواتب المعلّمين في المدارس الخاصّة، مثلما تؤمّن كامل رواتب المعلّمين في المدارس الرسميّة، حيث كلفة التّعليم فيها أعلى منها في المدراس الخاصّة. فلا بدّ من تعاون مسؤول بين الدولة والمدارس الخاصّة لحسن صرف المال العام”.
ودائماً في رسالته احتفالاً بعيد الميلاد 2017، قال البطريرك الماروني: “في لبنان، التنوّع ملازم للحرية، وهذا ما يميّز لبنان عن جميع بلدان الشرق الأوسط. يخشى اللّبنانيّون، جرّاء ما يحدث في هذه الأيام، انزلاقاً سلطويّاً نحو استحداث أنماط لتقييد حرية الإعلام والصحافة والتعبير، والتضييق عليها لأغراض سياسيّة أو لمشاعر كيديّة. من الواجب أن يبقى الجميع تحت سقف قانون الإعلام والتقيّد به، وبالأخلاقيّة التي يقتضيها. ولا يحقّ على الإطلاق تسييس القضاء، لكي يظلّ عندنا “العدلُ أساسَ المُلك”.”
من ناحية أخرى، ومتطرّقاً إلى ما يحصل في القدس، قال البطريرك الماروني: “إنّ عيد الميلاد ينقلنا بالروح إلى الأرض التي تجسّد عليها ابن الله، مخلّص العالم وفادي الإنسان، يسوع المسيح. ينقلنا إلى القدس، المدينة المقدّسة، حيث تتأصّل فيها كلّ جذور المسيحيّة: التجسّد، وإعلان إنجيل الملكوت، والآيات الإلهيّة، والفداء، وإنشاء الأسرار لتقديس الإنسان، واعتلان سرّ الله الواحد والثالوث، وتأسيس الكنيسة وإرسالها إلى العالم أداةَ خلاص شامل. هذه المدينة المقدّسة، التي تحافظ عليها الأسرة الدوليّة منذ سنة 1947 لعلّها تنعم “بكيان خاصّ”، عبر قرارات من الأمم المتّحدة ومجلس الأمن، على أمل أن تصبح يوماً “ذات نظام دولي” يحمي أماكن عبادة الديانات التوحيديّة الثلاث وممتلكاتها، ويضمن حرية الوصول إليها من قِبل الجميع، ويحافظ على الحرية الدينيّة وعلى حرية العبادة وفق تقاليد وعادات هذه الديانات. وها الرئيس الأميركي السيّد دونالد ترانب ينقض كلّ هذا التاريخ بقراره الصّادر في 6 كانون الاوّل الجاري، والقاضي بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وبنقل السفارة الأميركيّة إليها من تل أبيب. وقد تحدّى العالم كلّه، وصمّ أذنيه عن كلّ نداءات الشعوب والدول. إنّه بذلك قرّر تهويد هذه المدينة المقدّسة. الأمر الذي نرفضه رفصاً قاطعاً، لأنّه قرار جائر ومعادٍ للمسيحيّة والإسلام، وللشعب الفلسطيني على الأخصّ. ولأنّه قرّر أن يهدم كلّ مداميك مفاوضات السّلام، ويُشعل نار انتفاضة جديدة بل حرباً، لا سمح الله. وكم يؤسفنا أن تتخلّى الولايات المتّحدة الاميركيّة، عن رسالتها الرامية أصلًا إلى حماية حقوق الإنسان والشّعوب، وحماية الديمقراطيّة وتعزيزها، بعد هذا القرار الجائر وتكراره باستعمال حقّ “الفيتو” الذي عطّل به مشروع قرار سحب الإعلان حول القدس، بوجه الأربعة عشر عضواً الآخرين في مجلس الأمن الدولي، في جلسة الثامن عشر من كانون الأول الجاري. وكان الأحرى والأعدل أن تمتنع الولايات المتّحدة عن التصويت لأنّها صاحبة مصلحة خاصّة، احتراماً للديموقراطيّة العالميّة. لكنَّنا نذكّر الناس والدول، من وحي الإله الذي وُلد فقيراً وأغنى البشرية بفقره، ومتجرّداً ومَلَك إلى الأبد، أنّ القوّة الحقيقيّة ليست فقط بالمال والنفوذ والقدرات المادّية، بل بالمحبة والتجرّد والأخلاقيّة وصنع الخير من دون حدود. والتاريخ يعلّمنا كيف سقط ملوك وأباطرة ورؤساء وأنظمة ودول، عندما لم يعتمدوا على هذه القيم”.
وفي ختام رسالته احتفالاً بعيد الميلاد المجيد 2017 قال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي: “إنّنا معكم نكل “المدينة المقدّسة” إلى عناية المسيح الربّ، ونلتمس منه، وهو “رئيس السلام” (أش9: 5)، أن يفيض سلامه في القلوب، ويحمي وطننا لبنان وبلدان هذه المنطقة المشرقيّة التي نشأت فيها المسيحيّة، ونشرت ثقافة المحبّة والأخوّة والسلام، منذ عهد الربّ يسوع والرسل والكنيسة الأولى. ونصلّي من أجل أبرشيّاتنا ورعايانا ورهبانيّاتنا ومؤسّساتنا لكي تواصل رسالتها الشاهدة لمحبة الله، وتبقى واحة رجاء للجميع. ميلاداً مجيداً وسنة جديدة 2018 مباركة”.