“فلمَّا رأَى الجُموع” (متى 5، 1). بهذه الكلمات الأولى من الإنجيل الذي سمعناه للتوّ نجد الموقف الذي من خلاله يريد يسوع أن يأتي للقائنا، الموقف نفسه الذي فاجأ الله به شعبه على الدوام (را. خر 3، 7). موقف يسوع الأوّل هو الرؤية، هو ينظر إلى وجه خاصّته، تلك الوجوه التي تدفع بمحبّة الله إلى التحرّك. لم تكن الأفكار أو المبادئ هي التي تحرّك يسوع… بل الوجوه والأشخاص؛ إنها الحياة التي تصرخ لمَن هو الحياة التي يريد الآب أن ينقلها إلينا.
لما رأى الجموع التقى يسوع بوجه الناس الذين كانوا يتبعونه، والأجمل هو رؤية أن الناس بدورهم يجدون في نظرة يسوع صدى لبحثهم وتطلُّعاتهم. من هذا اللقاء تولد لائحة التطويبات التي تشكِّل الأفق الذي نحن مدعوّون لمواجهته والسير نحوه. إن التطويبات لا تولَد من موقف هامد أمام الواقع، ولا يمكنها أن تولَد من مُشاهدٍ يُصبح مُعِدَّ إحصائيّات تعيس لما يحدث. لا تولد من أنبياء يكتفون بزرع اليأس، ولا من السراب الذي يعدنا بالسعادة بـ “نقرة” أو بغمضة عين. بل على العكس تولَد التطويبات من قلب يسوع الرؤوف الذي يلتقي بقلب رجال ونساء -رحماء وبحاجة إلى الرحمة-، يرغبون بحياة طوباويّة ويتوقون إليها، رجال ونساء يعرفون الألم ويعرفون الضياع والعذاب الذي يولد عندما “تهتزُّ الأرض تحت الأرجل” أو “تُطمر الأحلام” ويُدمّر عمل حياة بأسرها؛ ولكنّهم يعرفون أيضًا الشجاعة والكفاح للسير قدمًا كما يعرفون إعادة البناء والبدء من جديد.
كم هو خبير قلب شعب التشيلي في إعادة البناء والبدء من جديد! كم أنتم متمرِّسون في النهوض مجدّدًا بعد العديد من السقطات! لهذا القلب يوجّه يسوع النداء، ولهذا القلب تتوجّه التطويبات!
إنَّ التطويبات لا تولد من مواقف انتقاد سهلة ولا من “كثرة كلام” الذين يعتقدون أنّهم يعرفون كلَّ شيء ولكنّهم لا يريدون أن يلتزموا بشيء أو مع أحد، وينتهون بعرقلة كلّ إمكانيّة لخلق عمليّات تغيير وإعادة بناء في جماعاتنا وحياتنا. تولد التطويبات من قلب رحيم لا يتعب من الرجاء؛ ويختبر أن الرجاء “هو اليوم الجديد وهو استئصال الركود، والتخلّي عن الاستسلام” (بابلو نرودا، الساكن ورجاؤه، ٥).
بقوله طوبى للفقير، والباكي، والمُعَذَّب، والمتألّم، وللذي يغفر… يأتي يسوع ليقتلع الجمودَ المُشِلّ لدى مَن يعتقد أن الأمور لا يمكنها أن تتغيّر، ومَن توقّف عن الإيمان بقوّة الله الآب المحوّلة وبإخوته، ولاسيما بإخوته الأكثر هشاشة وإخوته المهمّشين. بإعلانه للتطويبات، يأتي يسوع ليهزّ ذاكالاحباط السلبي المسمّى بالاستسلام الذي يجعلنا نعتقد أنّه بإمكاننا أن نعيش بشكل أفضل إن تجنّبنا المشاكل وهربنا من الآخرين واختبأنا أو انغلقنا في راحتنا ونمنا في استهلاكنا المُهدِّئ (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد ٢). ذلك الاستسلام الذي يحملنا على الانعزال عن الجميع، وعلى الانقسام، والانفصال، وحجب النظر إزاء حياة الآخرين وألمهم.
التطويبات هي ذلك اليوم الجديد لجميع الذين لا زالوا يراهنون على المستقبل، ولا زالوا يحلمون، ويسمحون لروح الله أن يلمسهم ويدفعهم.
كم يفيدنا أن نفكّر أن يسوع، من جبل رنكا أو من بونتيليا، يقول لنا: “طوبى لكم…”. طوبى لك ولك، ولكلّ واحد منّا، طوبى لكم أنتم الذين تسمحون لروح الله أن يُعديَكُم، وتكافحون وتعملون من أجل هذا اليوم الجديد، لهذه التشيلي الجديدة لأن لكم ملكوت السماوات. “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى 5، 9).
وأمام الاستسلام الذي وكاضطراب قاسٍ يُضعف علاقاتنا الحيويّة ويقسمنا، يقول لنا يسوع: طوبى للذين يلتزمون في سبيل المصالحة. سعداء أولئك القادرين على الالتزام والعمل لكي يعيش الآخرون بسلام. سعداء أولئك الذين يجتهدون لكي لا يزرعوا الانقسام. بهذه الطريقة تجعلنا الطوبى صانعي سلام؛ وتدعونا للالتزام لكي ينال روح المصالحة فسحة بيننا. أتريد الفرح؟ أتريد السعادة؟ سعداء الذين يعملون لكي يتمكّن الآخرون من الحصول على حياة فرِحة. أترغب في السلام؟ إعمل من أجل السلام.
لا يمكنني إلّا أن أذكر ذاك الراعي العظيم في سانتياغو الذي وفي إحدى ليتورجيا الشكران “Te Deum” قال: “إن كنت تريد السلام، إعمل من أجل العدالة… وإن سألنا أحد: “ما هي العدالة؟” أو كان يفكِّر أنّها تقوم فقط على عدم السرقة، سنقول له انَّ هناك عدالة أخرى: تلك التي تطلُب أن يُعامَل كلُّ إنسان كإنسان” (الكاردينال راوول سيلفا هنريكيه، عظة خلال ليتورجيا الشكران المسكونيّة “Te Deum“، ۱۸ سبتمبر/أيلول ۱۹۷۷).
علينا أن نزرع السلام بالمواظبة على القرب! بالمواظبة على الخروج من البيت والتأمُّل في الوجوه والذهاب للقاء من يعيش أوضاعًا صعبة ومن لا يُعامل كشخص وكابن كريم لهذه الأرض. هذا هو الأسلوب الوحيد الذي نملكه لننسج مستقبل سلام، وواقعًا جديدًا باستطاعته أن يتفكِّك. إنَّ صانع السلام يعرف أنّه ينبغي عليه، الكثير من المرّات، أن يتغلّب على تفاهات كبيرة أو صغيرة، وعلى طموحات تولَد من الادّعاء بالنمو وباكتساب “الشهرة” والأهميّة على حساب الآخرين. صانع السلام يعرف أنّه لا يكفي أن يقول: أنا لا أؤذي أحد، لأنّه، وكما كان القديس ألبرتو هورتادو يقول: “من الجيِّد ألّا نصنع السوء، ولكنّه من السيئ جدًّا ألّا نصنع الخير” (تأمُّل محوري، أبريل/نيسان ۱۹٤٤).
بناء السلام هو عمليّة تجمعنا وتحرّك إبداعنا في إحياء علاقات تجعلني أرى في قريبي، لا غريبًا أو مجهولاً، وإنما ابنًا لهذه الأرض.
لنَكِل أنفسنا إلى العذراء البريئة من دنس الخطيئة الأصليّة التي من جبل القديس كريستوبال تحرس وترافق هذه المدينة، ولتساعدنا كي نعيش ونتوق إلى روح التطويبات؛ لكي يُسمع في جميع أركان هذه المدينة كهمس: “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى 5، 9).
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana