ولد في مدينة أنطاكية أو ما جاورها… وغادر المدينة والأهل والأحباب ليلتقي عن كثب إلهًا عظيمًا حبيبًا.
ترك المآدب والمشارب ليقتات الأعشاب البرية ويكثر من أكل جسد الرب. تخلى عن الفراش الوثير والمنزل الدافىء الآمن وتنسّك في جبل قورش يفترش الأرض ويلتحف الهواء والشمس والبرد والسماء والعراء، وينتعش على ندى بركة الله في أثناء القيظ اللاهب، وعند الصقيع، بنار محبة الله يضطرم، ويصطلي…
الاختلاء بالنفس، والتأملّ، كالهواء للجسد… فاختلى وتأمّل عظمة الله وما يُدهش…
كرّس هيكل الأبالسة الوثني لهيكل يقيم فيه الذبيحة ويطرد منه، ومن جواره، الشياطين…
على علو ثمانمائة متر في قورش يحبس نفسه. وجسده بمسح خشن. ويطيل الركوع والسجود، ويصل الليالي بالنهارات مستسلمًا لمناجاة الخالق، لمحادثته، للتعرّف إلى كمالاته، واستغفاره، وتمجيده…
وهكذا، غدا مارون – ومارون تصغير لمار أي السيد الصغير – كبيرًا بقدرة الخالق، يمنحه إياها ليعالج كل الأمراض، ليصف لكل داء دواء… دواءً واحدًا: الصلاة، والطلب الملحاح.
ولتخمد الحمى عند هذا. ولتتوانَ الأبالسة من ذاك…
وليشفَ الجسد، هيكل الله، في كل هيكل بشري.
وليبرأ هذا من البخل. وليهدأ الغضب، وليخرس الحسد عن هذه وتلك. ولتعد القناعة إلى نفس الجشع، والعدالة إلى نفس الظالم. ولن تستباح المحرّمات والشرور بعد اليوم…
هرب من البشر، متنسّكًا متزهدًا، تاركًا الضوضاء والجلبة. فينتقل البشر ليستمعوا إلى الإرشاد والتبشير ممن أراد العزلة والهدوء. وتتخاصم القرى والمناطق في أيها تستأثر، بعد موته بجثمانه، تلك الذخيرة الدينية الثمينة لذلك الرجل المصقع الفقير.
ويزداد الرهبان وتبنّى الكنائس والأديار فوق ضريحه وفي كلّ مكان، ويبلغ شأن دير رهبان مار مارون عزا فيترأّس كلّ الأديار وتتجاوز غرفه الثمانمائة.
وناسكنا القديس الذي نحتفي اليوم بذكرى مرور ستة عشر قرنًا على وفاته، آمن به المسيحيون: كاثوليكيًا وأرثوذكسًا على السواء وقد ولد وعاش ومات قبل البدع والانشقاقات. (…)
(بتصرّف عن د. بديع أبوجوده، الأنوار، 9 شباط)