“اِفَرحوا وابتَهِجوا” (متى ٥، ١۲)، يقول يسوع للذين يُضطهدون ويُشتمون من أجله. إنَّ الرب يطلب كلَّ شيء، ويقدِّم الحياة الحقيقيّة والسعادة التي من أجلها خُلقنا. هو يريدنا قدّيسين ولا يقبل أن نرضى بحياة دون المستوى بلا طعم ومتقلبة. في الواقع ومنذ أولى صفحات الكتاب المقدّس نجد الدعوة إلى القداسة بأساليب مختلفة. هكذا قدّمها الربّ لإبراهيم: “سِرْ أَمامي وكُنْ كامِلاً” (تك ۱۷، ۱).
2. لا تشكّل هذه الوثيقة أطروحة حول القداسة مع العديد من التعريفات والتمايزات التي بإمكانها أن تُغني هذا الموضوع الهام، أو مع تحليلات حول وسائل التقديس. إنَّ هدفي المتواضع هو أن أُرجِّع مرّة أخرى صدى صوت الدعوة إلى القداسة من خلال تجسيدها في السياق المعاصر، مع مخاطرها وتحدياتها وفرصها. لأنَّ الرب قد اختار كلَّ فرد منّا لنكون “في نَظَرِه قِدِّيسينَ، بِلا عَيبٍ في المَحبَّة” (أف ١، ٤).
القدّيسون الذين يُشجّعوننا ويرافقوننا
3. في الرسالة إلى العبرانيين يُذكر العديد من الشهود الذين يُشجّعوننا “لنَخُض بِثَباتٍ ذلِك الصِّراعَ المَعروضَ علَينا” (١۲، ۱). وإذ تُخبرنا عن إبراهيم وسارة وموسى وجدعون وآخرين غيرهم (را. عب ۱۱) فهي تدعونا قبل كلّ شيء لكي نعترف أنَّ “جَمًّا غَفيرًا مِنَ الشُّهود” (١۲، ۱) يُحيطُ بنا ويشجِّعنا كي لا نتوقّف في مسيرتنا ويحثّنا على متابعة المسيرة نحو الهدف. ومن بين هؤلاء قد تكون أمُّنا أو جدّتنا أو أشخاص آخرون قريبون منا (را. ۲ طيم ١، ٥). ربما لم تكن حياتهم كاملة على الدوام، ولكن وفي وسط النقائص والسقطات، استمرّوا في السير قدمًا وأرضوا الربّ.
4. إنَّ القدّيسين الذين قد بلغوا إلى حضرة الله يحافظون على رابط المحبة والشَرِكة معنا. ويشهد على ذلك سفر الرؤيا عندما يتحدّث عن الشهداء الذين يتشفّعون “رَأَيتُ تَحتَ المَذبَحِ نُفوسَ الَّذينَ ذُبِحوا في سَبيلِ كَلِمَةِ اللّهِ والشَّهادَةِ الَّتي شَهِدوها. فصاحوا بِأَعلى أَصواتِهم: «حَتَّامَ، يا أَيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقّ، تُؤَخِّرُ الإِنصافَ! »” (رؤ ٦، ۹-١۰). يمكننا أن نؤكِّد أن “أصدقاء الله يحيطون بنا ويقودوننا ويرشدوننا… ويجب ألا أحمل وحدي ما لا يمكنني أبدًا في الواقع أن أحمله وحدي، لأنَّ جوق قديسي الله يحميني ويعضدني ويحملني”[1].
5. في دعاوى التطويب والتقديس تُؤخذ بعين الاعتبار علامات البطولة في ممارسة الفضائل والتضحية بالحياة في الاستشهاد والحالات التي يتمُّ فيها أيضًا تقدمة الحياة في سبيل الآخرين حتى الموت. تعبِّر هذه الهبة عن تشبُّه مثاليٍّ بالمسيح وجديرة بإعجاب المؤمنين[2]. نذكر على سبيل المثال الطوباويّة ماريا غابرييلا ساغِدّو التي قدّمت حياتها من أجل وحدة المسيحيين.
6. لا نفكِّرنَّ فقط بالذين تمَّ تطويبهم أو أُعلِنت قداستهم. إنَّ الروح القدس يفيض القداسة في كلِّ مكان في شعب الله المقدس والأمين لأنَّ الله قد شاء “أن يقدّس الناس ويخلّصهم، لا فرديًّا وبدون أي ترابط فيما بينهم، بل أراد أن يجعلهم شعبًا يعرفه في الحقيقة ويخدمه في القداسة”[3]. إنَّ الرب ومن خلال تاريخ الخلاص قد خلّص شعبًا. ولا توجد هويّة كاملة دون الانتماء إلى شعب ما. لذلك لا يخلُص أحد بمفرده، كفرد منعزل، ولكن الله يجذبنا آخذًا بعين الاعتبار التركيبة المعقّدة للعلاقات بين الأشخاص التي تقوم في الجماعة البشريّة: لقد أراد الله أن يدخل في ديناميكيّة شعبيّة، في ديناميكيّة شعب.
7. يطيب لي أن أرى القداسة في شعب الله الصبور: في الأمهات والآباء الذين يربّون أبناءهم بمحبة كبيرة، وفي أولئك الرجال والنساء الذين يعملون ليحملوا الخبز إلى البيت، وفي المرضى والراهبات المُسنَّات اللواتي لا تفارق الابتسامة ثغورهن. في هذه المثابرة للمضي قُدمًا يومًا بعد يوم أرى قداسة الكنيسة المُجاهدة. هذه هي، في أغلب المرّات، القداسة “التي تقطن بقربنا”، قداسة الذين يعيشون بقربنا وهم انعكاس لحضور الله، أو إن أردنا استعمال تعبير آخر، “الطبقة المتوسِّطة للقداسة”[4].
8. لنسمح بأن تحفِّزنا علامات القداسة التي يقدِّمها الربّ من خلال الأعضاء الأكثر تواضعًا من ذلك الشعب الذي “يشارك أيضًا في مهمّة المسيح النبويّة، فينشر الشهادة الحيّة له في كلِّ مكان ولا سيما من خلال حياة إيمان ومحبّة”[5]. لنفكِّر، كما تقترح علينا القدّيسة تريزا بينيديتا للصليب، أنّه من خلال العديد منهم يُبنى التاريخ الحقيقي: “في الليل الأشدَّ ظلامًا يظهر أكبر الأنبياء والقدّيسين. مع ذلك يبقى خفيًّا التيار المُحيي للحياة الصوفيّة. إنَّ الأحداث الحاسمة في تاريخ العالم قد تأثَّرت، بالتأكيد، بأنفس لا يؤتى على ذكرها في كُتب التاريخ. ومن هي الأنفس التي علينا أن نشكرها على الأحداث الحاسمة في حياتنا الشخصيّة، إنّه أمر سنعرفه فقط في اليوم الذي فيه كلُّ خفيٍّ سيُكشف”[6].
9. القداسة هي وجه الكنيسة الأجمل. ولكنَّ الروح القدس يولِّد أيضًا، خارج الكنيسة الكاثوليكيّة وفي بيئات مختلفة جدًّا، “علامات حضوره التي تساعد تلاميذ المسيح”[7]. من جهة أخرى يذكِّرنا القدّيس يوحنا بولس الثاني بأنَّ “الشهادة المؤدّاة للمسيح حتى إراقة الدم قد أصبحت تراثًا مشتركًا بين الكاثوليك والأرثوذكس والأنجليكان والبروتستانت”[8]. وخلال الاحتفال المسكوني الذي أقيم في الكولوسّيوم في إطار اليوبيل الكبير لسنة الـ 2000، أكَّدوا أنَّ الشهداء هم “إرث يتكلّم بصوت أقوى من عوامل الانقسام”[9].
10. كلُّ هذا هام. غير أنَّ ما أريد أن أُذكِّر به من خلال هذا الإرشاد الرسولي هو أولاً الدعوة إلى القداسة التي يوجّهها الربّ لكلِّ فرد منّا، تلك الدعوة التي يوجِّهها لك أيضًا: “كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس” (أح ١١، ٤٥؛ ١ بط ١، ١٦). وقد سلّط المجمع الفاتيكاني الثاني الضوء على هذا الأمر بقوّة: “إن كلّ المؤمنين المزوّدين بوسائل خلاصيّة غزيرة وعظيمة، أيًّا كان وضعهم وحالهم، يدعوهم الربّ، كلّ حسب طريقه، إلى قداسة تجد كمالها في كمال الآب السماوي نفسه”[10].
11. “كلٌّ حسب طريقه” يقول المجمع. فلا يجب إذًا أن يفقد المرء الشجاعة عندما يتأمّل أمثلة القداسة التي تبدو له بعيدة المنال. هناك شهادات مفيدة تُحفِّزنا وتحثّنا، ولكن لا لأننا نسعى لتقليدها لأنَّ هذا الأمر قد يبعدنا عن المسيرة الفريدة والمميّزة التي يحفظها الربّ لنا. ما يهمُّ هو أن يميِّز كلُّ مؤمن مسيرته ويُظهر أفضل ما في ذاته، والمواهب التي منحه الله إياها (را. ١ قور ١۲، ۷) وألَّا يُنهك نفسه في السعي للتَّشبُه بشيء لم يُعدّ له. إننا جميعًا مدعوّون لنكون شهودًا ولكن هناك أشكال وجوديّة متعدّدة للشهادة[11]. وبالتالي عندما كتب القدّيس يوحنا للصليب كتابهالنشيد الروحي فضّل أن يتحاشى قوانين ثابتة للجميع وبيِّن أنَّ هذه الأبيات الشعريّة قد كُتبت لكي يستفيد منها كلٌّ “على طريقته”[12]. لأنَّ الحياة الإلهيّة تُنقل “إلى البعض بشكل وإلى آخرين بشكل آخر”[13].
12. من بين الأشكال المتعدّدة أرغب في أن أشدّد على أن “العبقريّة النسائيّة” تظهر أيضًا في أنماط القداسة النسائيّة، والتي هي ضروريّة للتفكير حول قداسة الله في هذا العالم. وفي المراحل التي تمَّ فيها بالتحديد إقصاء النساء بشكل رئيسي، أقام الروح القدس قدّيسات أحدث سحرهنَّ ديناميكيات روحيّة جديدة وإصلاحات هامة في الكنيسة. يمكننا أن نذكر القدّيسة هيلدغارد دي بينجن والقدّيسة بريجيدا والقدّيسة كاترينا السيانيّة والقدّيسة تريزيا الأفيليّة أو القدّيسة تريزيا دي ليزيو. لكن يهمّني أن أذكر العديد من النساء المغمورات أو المنسيّات اللواتي، كلّ على طريقتها، عضدن وحوّلنَ عائلات وجماعات بقوّة شهادتهنَّ.
13. علَّ هذا الأمر يحمِّس ويشجِّع كلَّ فرد ليعطي ذاته بكاملها لكي ينمو في ذلك المشروع الوحيد والفريد الذي أراده الله له منذ الأزل: “قَبلَ أَن أُصَوِّرَكَ في البَطنِ عَرَفتُكَ وقَبلَ أن تَخرُجَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّستُكَ” (إر ١، ٥).
14. لكي نكون قدّيسين ليس من الضروريِّ أن نكون أساقفة أو كهنة أو راهبات أو رهبانًا. كثيرًا ما نتعرّض لتجربة التفكير أنَّ القداسة محجوزة للذين يمكنهم الابتعاد عن الانشغالات اليوميّة ليكرِّسوا وقتًا أكبر للصلاة. ليس الأمر هكذا. فجميعنا مدعوّون لنصبح قدّيسين ونعيش بمحبّة ونقدِّم شهادتنا في الانشغالات اليوميّة، حيث نكون. أنتِ مكرّسة أو أنتَ مُكرّس؟ كُن قدّيسًا بعيش تكرّسك بفرح. أنت شخص متزوِّج؟ كن قدّيسًا بحبّك واهتمامك بشريكك كما صنع المسيح مع الكنيسة. أنت عامل؟ كُن قدِّيسًا وأنت تتمّم عملك بصدق وكفاءة في خدمة الإخوة. أنت والد أو والدة أو جدّة أو جدّ؟ كن قدّيسًا بتعليمك الأطفال بصبر أن يتّبعوا يسوع. أنت صاحب سلطة؟ كُن قدّيسًا بالنضال في سبيل الخير العام والتخلّي عن المصالح الشخصيّة[14].
15. اسمح لنعمة معموديّتك أن تُثمر في مسيرة قداسة. اسمح بأن يبقى كلُّ شيء مفتوحًا نحو الله ولهذا السبب اختره، اختر الله دائمًا مرة تلو الاخرى. لا تفقد العزيمة لكي تكون القداسة ممكنة، أنت تملك قوّة الروح القدس وهي في الحقيقة ثمرة الروح القدس في حياتك (را. غلا ٥، ۲۲- ۲۳). عندما تشعر بتجربة الوقوع في ضعفك، إرفع عينيك إلى المصلوب وقُل له: “يا رب، أنا مسكين ولكنك قادر على تحقيق المعجزة في أن تجعلني أفضل بقليل”. في الكنيسة، المقدّسة والمكوّنة من خطأة، ستجدُ كلَّ ما تحتاج إليه لتنموَ نحو القداسة؛ فالربّ قد غمرها بالعطايا بواسطة الكلمة والأسرار والمعابد وحياة الجماعات وشهادة قدّيسيها وجمال مُتعدّد الأشكال ينبثق من محبّة الربّ: “كالعروس التي تتحلّى بزينتها” (را: أش ٦١، ١۰).
16. هذه القداسة التي يدعوك الربّ إليها ستنمو من خلال مبادرات صغيرة. على سبيل المثال: تذهب سيّدة إلى السوق للتسوق، فتلتقي بجارة وتبدأ بالحديث معها وتصلان إلى الانتقادات. غير أن هذه المرأة تقول في نفسها: “لا، لن أتكلَّم بالسوء على أحد”. هذه خطوة نحو القداسة. ومن ثمَّ في البيت يطلب منها ابنها أن يحدّثها عن تصوّراته وبالرغم من تعبها تجلس بقربه وتُصغي بصبر ومحبّة، وهذه تقدمة أخرى تُقدِّس. بعدها تختبر لحظة يأس ولكنّها تتذكّر محبّة العذراء مريم فتمسك المسبحة الورديّة وتصلّي بإيمان، وهذا درب آخر للقداسة. بعدها تخرج وتلتقي بفقير فتتوقّف للحديث معه بمحبّة، وهذه خطوة أخرى.
17. تأتي الحياةُ أحيانًا بتحدّيات أكبر ومن خلالها يدعونا الربّ إلى ارتدادات جديدة تسمح لنعمته أن تظهر بشكل أفضل في حياتنا “لِنَنالَ نَصيبًا مِن قَداسَتِه” (عب ١۲، ١۰). وأحيانًا أخرى هي مجردّ مسألة إيجاد طريقة أكثر كملا لعيش ما نقوم به: “هناك إلهامات تميل فقط إلى القيام بالانشغالات العاديّة للحياة المسيحيّة بكمال غير عادي”[15]. عندما كان الكاردينال فرانشيسكو سافيريو إنغويان فان توان في السجن، تخلى عن الاستسسلام مُنتظرًا تحريره؛ وكان خياره “عيش الحاضر وملؤه بالحب”، والأسلوب الذي حققه من خلاله كان: “أغتنم المناسبات التي تُقدَّم لي يوميًّا لكي أقوم بأعمال عاديّة بطريقة مميّزة”[16].
18. هكذا، وبدفع من النعمة الإلهيّة، ومن خلال تصرّفات عديدة نبني صورة القداسة التي أرادها الله لنا، ولكن لا ككائنات مكتفية ذاتيًّا وإنما “كما يَحسُنُ بِالوُكَلاءِ الصَّالِحينَ على نِعمَةِ اللهِ المُتَنَوِّعَة” (١ بط ٤، ١۰). لقد علّمنا أساقفة نيوزيلندا أنّه بإمكاننا أن نُحبّ بواسطة محبّة الربّ غير المشروطة لأن القائم من بين الأموات يشارك حياته القويّة مع حياتنا الهشّة: “محبّته لا تعرف الحدود، وعندما يعطيها لا يسترجعها أبدًا. لقد كانت بلا شروط وبقيت أمينة. ليس سهلًا أن نحب بهذه الطريقة لأننا كثيرًا ما نكون ضعفاء جدًّا. لكن ولكي نسعى لأن نحبَّ كما أحبّنا المسيح، يتقاسم المسيح حياة القائم من الموت معنا؛ بهذا الشكل تُظهر حياتنا عمل قوّته حتى في وسط الضعف البشري”[17].
19. لا يمكن للمسيحي أن يفكِّر برسالته على الأرض بدون أن يفهمها كمسيرة قداسة لأنَّ “مَشيئَةَ اللهِ إِنَّما هي تَقديسُكم” (١ تس ٤، ۳). كلُّ قديس هو رسالة؛ إنّه مشروع للآب لكي يعكس ويجسِّد، في مرحلة معيّنة من التاريخ، جانبًا من الإنجيل.
20. تجد هذه الرسالة معناها الكامل في المسيح ويُمكن فهمها فقط انطلاقًا منه. إنَّ القداسة في الواقع هي أن نعيش أسرار حياته مُتّحدين به؛ وتقوم على اتّحادنا بموت الربّ وقيامته بشكل فريد وشخصي، وعلى الموت والقيامة من الموت باستمرار معه. يمكنها أن تعني أيضًا أن نكرِّر في حياتنا جوانب مختلفة من حياة يسوع الأرضيّة: حياته الخفيّة أو حياته الجماعيّة، القرب من الأخيرين، فقره ومظاهر أخرى من تسليم ذاته محبّة بنا. إنَّ التأمُّل في هذه الأسرار، كما يقترح القدّيس اغناطيوس دي لويولا، يوجِّهنا لكي نُجسِّدها في خياراتنا ومواقفنا[18]. لأنَّ “كلَّ شيء في حياة يسوع هو علامة لسرِّه”[19] و”كلَّ حياة المسيح هي كشف عن الآب”[20]، و”كلَّ حياة المسيح هي سرُّ فداء”[21]، و”كلَّ حياة المسيح هي سرُّ عمليّة شمل”[22] و”كلَّ ما عاشه المسيح يجعلنا قادرين أن نعيشه نحن فيه ويعيشه هو فينا”[23].
21. تدبير الآب هو المسيح، ونحن فيه. والمسيح، في النهاية، هو الذي يُحبُّ فينا لأنَّ “القداسة ليست إلا المحبّة المعاشة بملئها”[24]. لذلك “فمعيار القداسة يُعطى من القامة التي يبلغها المسيح فينا وبقدر ما نصوغ، بقوّة الروح القدس، حياتنا على حياته”[25]. بهذا الشكل يكون كلُّ قدّيس رسالة يأخذها الروح القدس من غنى يسوع المسيح ويعطيها لشعبه.
22. لكي نعرف ما هي الكلمة التي يريد الربّ أن يقولها من خلال قدّيسٍ ما، لا يناسبنا أن نتوقّف عند التفاصيل، لأنَّ هناك أيضًا يمكننا أن نجد أخطاء وسقطات. ليس كلُّ ما يقوله قدّيس ما يكون أمينًا بالكامل للإنجيل وليس كلّ ما يفعله قدّيس ما يكون أصيلا وكاملا. ولكن ما يجب التأمُّل به هو جُملة حياته ومسيرة تقديسه بكاملها، تلك الصورة التي تعكس شيئًا من يسوع وتُكتشف عندما نتمكَّن من تكوين معنى شخصه بمُجمله[26].
23. إنها دعوة قويّة لنا جميعًا. أنتَ أيضًا تحتاج لفهم حياتك بكاملها كرسالة. حاول أن تقوم بذلك من خلال الإصغاء إلى الله في الصلاة والتعرُّف على العلامات التي يُقدِّمها لك. اسأل الروح القدس دائمًا ما ينتظره يسوع منك في كلِّ لحظة من حياتك وفي كلِّ خيار عليك القيام به لكي تميِّز المكان الذي يحتلُّه هذا الأمر في رسالتك؛ واسمح له أن يصقل فيك ذلك السرّ الشخصيّ الذي يمكنه أن يعكس يسوع المسيح في عالم اليوم.
24. ليتك تعرف ما هي تلك الكلمة، ما هي رسالة يسوع تلك التي يرغب الله في قولها للعالم من خلال حياتك. اسمح لذاتك بأن تتحوّل، واسمح للروح القدس بأن يجدّدك، لكي يكون هذا الأمر ممكنًا ولا تضيع هكذا رسالتك الثمينة. إنَّ الربّ سيُتمِّمها أيضًا وسط أخطائك وأوقاتك السلبيّة شرط ألّا تترك مسيرة المحبّة وتبقى على الدوام منفتحًا على عمله الخارق الذي يطهِّر وينير.
25. بما أنّه لا يمكن فهم المسيح بدون الملكوت الذي جاء ليحمله، فرسالتك لا تنفصل عن بناء الملكوت: “اطلُبوا أَوَّلا مَلَكوتَه وبِرَّه” (متى ٦، ۳۳). إنَّ تماثلك بالمسيح ورغباته يتطلب الالتزام بأن تبني معه ملكوت الحب والعدالة والبرِّ هذا للجميع. إن المسيح نفسه يرغب في أن يعيشه معك، مع كلِّ الجهود أو التجرّد الضروريّ وأيضًا في الأفراح والخصوبة التي يمكن أن يقدِّمها لك. وبالتالي فلن تتقدّس بدون أن تسلِّم ذاتك جسدًا ونفسًا لتُعطي أفضل ما عندك في هذا الالتزام.
26. ليس سليمًا أن نحبَّ الصمت ونتجنّب اللقاء مع الآخر، أن نرغب في الراحة ونرفض النشاط، أن نبحث عن الصلاة ونُقلِّل من شأنِ الخدمة. يمكننا أن نقبل كلَّ شيء وندمجه كجزء من حياتنا في هذا العالم، وندرجه في مسيرة التقديس. نحن مدعوّون لنعيش التأمُّل وسط العمل أيضًا، ونتقدّس في الممارسة المسؤولة والسخيّة لرسالتنا.
27. هل من الممكن أن يطلقنا الروح القدس لنقوم برسالة ما ويطلب منا في الوقت عينه أن نهرب منها أو أن نتحاشى بذل ذاتنا بالكامل في سبيلها للحفاظ على سلامنا الداخلي؟ بالرغم من ذلك نشعر أحيانًا بتجربة وضع الالتزام الراعوي أو الالتزام في العالم في مكان ثانوي كما ولو أنّهما “يصرفاننا” عن مسيرة التقديس والسلام الداخلي؛ وننسى أنَّ “الحياة لا تملك رسالة وإنما هي رسالة”[27].
28. إنَ الالتزام الذي يحرّكه القلق أو الكبرياء أو حبُّ الظهور والسيطرة لن يكون مُقدِّسًا بالتأكيد. يكمن التحدي في عيش هبة الذات بحيث يكون للجهود معنى إنجيليّ وتجعلنا نتشبّه أكثر بيسوع المسيح. من هنا بالتالي، على سبيل المثال، تُستعمل عبارة روحانيّة أستاذ التعليم المسيحي، وروحانيّة الإكليروس الأبرشي، وروحانيّة العمل؛ وللسبب عينه أردت في الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل أن أختتم بروحانيّة الرسالة، وفي الرسالة العامة كُن مُسبَّحًا بروحانيّة إيكولوجيّة وفي الإرشاد الرسولي فرح الحب بروحانيّة الحياة العائليّة.
29. هذا الأمر لا يعني ازدراء أوقات السكينة والعزلة والصمت أمام الله. على العكس. لأنَّ الحداثة المُستمِرَّة للأدوات التكنولوجيّة وجاذبيّة السفر والمعروضات الاستهلاكية التي لا تحصى ولا تترك لنا أحيانًا فسحات فارغة حيث يتردّد صدى صوت الله. فكلُّ شيء يمتلئ بكلمات وملذّات سطحيّة وضجيج، بسرعة متزايدة على الدوام. حيث لا يسود الفرح إنما استياء مَن لا يعرف من أجل ماذا يعيش. كيف لا نعترف إذًا أننا بحاجةٍ لإيقاف هذا السباق المحموم لاستعادة فسحة شخصيّة، أليمة أحيانًا وإنما خصبة على الدوام، حيث يبدأ الحوار الصادق مع الله؟ ينبغي علينا في لحظة ما، أن نواجه حقيقة أنفسنا لنسمح للربّ بأن يدخلها، وهذا الأمر لا يتحقّق دائمًا إن “لم يرَ المرء نفسه على شفير الهاوية والتجارب العاتية، وعلى منحدر الهجر، وفي قمّة الوحدة، حيث يشعر المرء وكأنّه وحيدًا بالتمام”[28]. بهذا الشكل نجد الحوافز الكبيرة التي تدفعنا إلى عيش واجباتنا بشكل كامل.
30. إنَّ أدوات التسلية التي تجتاح الحياة المعاصرة تحملنا أيضًا على أن نجعل بلا رادع وقتَ الفراغ الذي يمكننا خلاله أن نستعمل، بدون حدود، تلك الأجهزة التي تقدّم لنا تسلية أو لذّات زائلة[29]. وكنتيجة لهذا الأمر، تتأثَّر رسالتنا، ويضعف الالتزام، والخدمة السخيّة والمستعدَّة تبدأ بالافتقار. هذا الأمر يُفسد الخبرة الروحيّة. هل يمكن لحماس روحي أن يكون سليمًا إذ يتعايش مع التراخي في العمل التبشيري أو في خدمة الآخرين؟
31. نحن بحاجة لروح قداسة يطبع كلّ أوقات الوحدة والخدمة، وكلّ الحميميّة والالتزام المُبشّر، فتكون كلُّ لحظة تعبيرًا عن حُبٍّ يُعطى تحت نظر الربّ. بهذا الشكل، تصبح جميعُ الأوقات سلالم في مسيرة تقديسنا.
32. لا تخف من القداسة. لن تسلبك القوة أو الحياة أو الفرح. بل على العكس لأنّك ستصبح ما أراده الآب عندما خلقكَ وستكون أمينًا لكيانك. إنَّ الاتكال عليه يحرّرنا من العبوديّة ويحملنا على الاعتراف بكرامتنا. هذه الحقيقة تتجلى في القديسة جوزيبينا بخيتا التي “استُعبدت وتمَّ بيعها وهي في السابعة من عمرها، وتألَّمت كثيرًا بين أيدي أسياد قُساة. ومع ذلك فهمت الحقيقة العميقة بأنَّ الله، لا الإنسان، هو السيّد الحقيقي لكلِّ كائن بشري ولكلِّ حياة بشريّة. وبالتالي أصبحت هذه الخبرة مصدر حكمة كبيرة لابنة أفريقيا المتواضعة هذه”[30].
33. كلُّ مسيحيٍّ، وبقدر ما يتقدّس، يُصبح أكثر خصوبة للعالم. لقد علّمنا أساقفة أفريقيا الغربيّة: “نحن مدعوّون، بروح التبشير الجديد، أن نكون مبَشَّرين وأن نُبشِّر من خلال تعزيز دور جميع المعمَّدين لكي تقوموا بدوركم كملح للأرض ونور للعالم حيثما وُجدتُم”[31].
34. لا تخف من أن تتوق نحو الأعلى وتسمح لله أن يُحبَّك ويحرِّرك. لا تخف من أن تسمح للروح القدس أن يرشدك. إن القداسة لا تُقلل من بشريّتك لأنّها اللقاء بين ضعفك وقوّة النعمة. في الحقيقة، وكما كان يؤكِّد ليون بلوا: “لا يوجد في الحياة إلا حزن واحد وهو حزن ألا نكون قدّيسين”[32].
35. في هذا الإطار أرغب في لفت الانتباه إلى تحريفَين للقداسة بإمكانهما أن يحوِّلانا عن المسيرة: الغنوصيّة والبيلاجيّة. إنهما هرطقتان ولدتا في القرون المسيحيّة الأولى ولكنّهما لا تزالان تشكِّلان واقعًا مفزعًا. فاليوم أيضًا، قلوب العديد من المسيحيين تسمح، ربما بدون أدراك، بأن يجذبها هذان التحريفان المضلِّلان. إذ تتجلّى فيهما حضوريّة، محورها الإنسان، وتختبئ خلف حقيقة كاثوليكيّة[33]. نرى هذين الشكلَين من الأمان العقائدي أو النظامي اللذين يُفضيان إلى “نخبويّة نرجسيّة وسلطويّة حيث وبدلا من البشارة يتمُّ تحليل وتصنيف الآخرين، وبدلا من تسهيل الحصول على النعمة يتمُّ استهلاك الطاقات في السيطرة. وفي الحالتين لا يهمّ فعلا يسوع المسيح ولا الآخرين”[34].
36. إن الغنوصيّة تفترض “إيمانًا تأسُرُه النزعة الذاتية، حيث ما يهمُّ فقط هو خبرة محدّدة أو سلسلة استنتاجات ومعرفة يُظَنُّ أنّه بإمكانها أن تُشجّع وتنير، ولكن يبقى فيها الشخص في النهاية منغلقًا في ملازمة فكره الخاص أو في مشاعره”[35].
37. بفضل الله، وعبر تاريخ الكنيسة ظهر بوضوح أن ما يقيس كمال الأشخاص هو درجة المحبّة التي يتمتعون بها، لا كميّة المعلومات والمعرفة التي يستطعون اكتسابها. يلقي “الغنوصيّون” غموضًا على هذه النقطة ويدينون الآخرين مستندين على قدرتهم على فهم عمق بعض العقائد المحدّدة. والعقل بحسب مفهومهم هو غير متجسّد، غير قادر على لمس جسد المسيح المتألِّم في الآخرين، ومحصور في موسوعة تجريديّة. وفي النهاية إذ بتجرِّدهم السرَّ من الجسد، يفضّلون “إلهًا بدون مسيح، ومسيحًا بدون كنيسة، وكنيسة بدون شعب”[36].
38. في النهاية، إنها مسألة سطحيّةٍ مغرورة: كثير من التفكير السطحيّ ولكنّ عمق الفكر لا يتحرّك ولا يتأثَّر. مع ذلك ينجح في إخضاع البعض لجاذبيته الخادعة، لأنَّ النهج الغنوصي صارم ومن المفترض أنّه نقيّ، ويمكنه أن يأخذ مظهرًا من تناغم أو من نظامٍ يشمل كلّ شيء.
39. لكن لنتنبّه. أنا لا أقصد أن العقلانيين هم أعداء الإيمان المسيحي. يمكن لهذا الأمر أن يحصل داخل الكنيسة سواء كان بين علمانيّي الرعايا أو بين الذين يعلّمون الفلسفة واللاهوت في مراكز التنشئة. لأنّه شائع أيضًا لدى الغنّوصيين الاعتقاد أنّهم بتفسيراتهم يمكنهم أن يجعلوا الإيمان والإنجيل مفهومَين بشكل كامل. فنظريّاتهم الخاصة هي مُطلقة بالنسبة إليهم ويجبرون الآخرين على الخضوع لاستنتاجاتهم. هناك اختلاف بين الاستعمال السليم والمتواضع للعقل بهدف التفكير حول التعليم اللاهوتي والخلقي للإنجيل، وبين الادّعاء بتحويل تعليم يسوع إلى مجرَّد منطق بارد وقاسٍ يسعى للسيطرة على كلِّ شيء[37].
40. الغنوصيّة هي إحدى أسوأ الإيديولوجيات، إذ أنّها فيما تمجّد، دون مبرّر، المعرفة أو خبرة معيّنة، تعتبر أن نظرتها للواقع هي الكمال. بهذا الشكل، وربما بدون أن تدرك، تتغذى هذه الإيديولوجيّة من ذاتها وتزداد جهالة. وأحيانًا تصبح مضلّلة بشكل خاص عندما تلبس حلّة روحانيّة مجرّدة. لأنَّ الغنوصيّة “بطبيعتها تريد أن تُخضع السرّ”[38]، سواء كان سرّ الله ونعمته أو سرّ حياة الآخرين.
41. عندما يملك أحدهم أجوبة لجميع الأسئلة، فهذا يُظهر أنّه لا يسير في الطريق القويم وأنّه قد يكون نبيًّا مُزيَّفًا يستعمل الدين لمصلحته ولخدمة نزواته النفسيّة والعقليّة. إنَّ الله يفوقنا بلا حدود، وهو على الدوام يمثل مفاجأة لنا ولسنا نعرف على وجه اليقين في أيّ ظرفٍ تاريخيّ نلتقيه، طالما تحديد زمان ومكان وطريقة اللقاء لا تتوقّف علينا. إنَّ من يرغب في أن يكون كلُّ شيء واضحًا وأكيدًا يدّعي السيطرة على سموِّ الله.
42. لا يمكننا أيضًا أن ندَّعي تحديد الأماكن التي لا يقيم فيها الله لأنّه حاضر بشكل سرّيٍّ في حياة كلِّ شخص، هو حاضر في حياة كلِّ فرد بالطريقة التي يرغب هو فيها ولا يمكننا أن ننكره بقناعاتنا المزعومة. حتى عندما تكون حياة شخص ما كارثية ونرى أن الرذائل والإدمانات تدمِّره فالله يكون حاضرًا في حياته. إن سمحنا للروح القدس أن يقودنا أكثر من استنتاجاتنا يمكننا وعلينا أن نبحث عن الربّ في كلِّ حياة بشريّة. هذا الأمر يشكِّل جزءًا من السرِّ الذي ترفضه الذهنيّة الغنّوصيّة لأنه لا يمكنها أن تسيطر عليه.
43. نحن نتوصل بطريقة سيّئة إلى فهم الحقيقة التي ننالها من الربّ، والتي تعجز قدرتنا عن التعبير عنها. لذلك لا يمكننا الإدّعاء أن طريقة فهمنا تسمح لنا بالتحكّم بحياة الآخرين. أودّ التذكير أنّه في الكنيسة تتعايش بشكل شرعي أساليب عديدة لتفسير جوانب كثيرة من العقيدة والحياة المسيحيّة التي، وفي اختلافها، “تساعد على شرح كنز الكلمة الغني بشكل أفضل”. طبعًا، “يمكن لهذا الأمر أن يبدو تشتيتًا بالنسبة للذين يحلمون بعقيدة موحّدة يدافع عنها الجميع بدون تحليلات خاصة”[39]. فقد استخفَّت بعض التيارات الغنّوصيّة، وبالتحديد، ببساطة الإنجيل الملموسة وحاولت أن تستبدل الله الثالوث المتجسّد بوحدة سامية يختفي فيها تنوُّع تاريخنا الغنيّ.
44. في الواقع، إنَّ العقيدة، أو بالأحرى، إن فهمنا وتعبيرنا عنها “ليس نظامًا منغلقًا خاليًّا من ديناميكيات قادرة على خلق تساؤلات وشكوك ونقاشات” و”أسئلة شعبنا وآلامه وصراعاته وأحلامه وكفاحاته واهتماماته، تملك قيمة تأويليّة لا يمكننا تجاهلها إن أردنا أن نأخذ مبدأ التجسّد بشكل جدِّي. إن أسئلتهم تساعدنا لكي نسأل أنفسنا، وتساؤلاتهم تقودنا إلى التساؤل”[40].
45. غالبًا ما ينجم التباس خطير: أن نعتقد، بمجرد أن نعرف شيئًا أو يمكننا شرحه بمنطق معيَّن، أننا قدّيسون، وكاملون، وأفضل من “الحشود الجاهلة”. لقد حذّر القدّيس يوحنا بولس الثاني الأشخاصَ الذين لديهم الإمكانية في الكنيسة بالحصول على تنشئة عالية من تجربة أن يصبح لديهم “شعورٌ بالتفوُّق على المؤمنين الآخرين”[41]. لكن في الواقع ينبغي على ما نعتقد أننا نعرفه أن يشكّل على الدوام حافزًا لكي نجيب بشكل أفضل على محبّة الله لأننا “نتعلّم لكي نعيش: اللاهوت والقداسة هما أمران لا ينفصلان”[42].
46. عندما كان القدّيس فرنسيس الأسيزي يرى أنَّ بعض تلاميذه كانوا يُعلِّمون العقيدة، أراد أن يتجنّب تجربة الغنّوصيّة؛ وبالتالي كتب إلى القدّيس أنطونيوس البدواني: “يطيب لي أن تعلِّم الإخوة اللاهوت المقدّس، شرط ألّا تُطفئ بهذه المهمّة روح الصلاة والتقوى”[43]. كان يعرف تجربة تحويل الخبرة المسيحيّة إلى مجموعة نزوات عقليّة تنتهي بإبعادنا عن نضارة الإنجيل. من جهة أخرى كان القدّيس بونافنتورا يحذِّر من أنّه لا ينبغي على الحكمة المسيحيّة أن تنفصل عن الرحمة تجاه القريب: “إنَّ أكبر حكمة موجودة تقوم على أن يستغني المرء بطريقة مُثمرة عن الذي يملكه، والذي قد ناله لأن آخر أعطاه إياه. (…) لذلك فكما أنَّ الرحمة هي صديقة الحكمة، فالبخل هو عدوُّها”[44]. “هناك نشاط، إن اتّحد بالتأمّل، فهو لا يعيقهُ بل يُسهِّله، كأعمال الرحمة والرأفة”[45].
47. إنَّ الغنّوصيّة قد أدّت إلى هرطقة قديمة أخرى وهي حاضرة اليوم أيضًا. مع مرور الوقت أخذ الكثيرون بالاعتراف أن ما يجعلنا أفضل أو قدّيسين، ليست المعرفة إنما هي الحياة التي نعيشها. والمشكلة هي أنَّ هذا قد أَدَّى للأسوأ، محوّلًا بكل بساطة خطأَ الغنوصيّين عينه، ولكن لم يصحّحه.
48. في الواقع، إنَّ القدرة التي كان الغنوصيّون يعزونها للذكاء، بدأ البعض بإرجاعها إلى الإرادة البشريّة والجهد الشخصي. بهذا الشكل نشأت البيلاجيّة وشبه البيلاجيّة. وبالتالي لم يعد الذكاء هو الذي يحتلُّ مكان السرِّ والنعمة بل الإرادة. ونسوا أن “لَيسَ الأَمرُ أَمرَ إِرادَةٍ أَو سَعيٍ، بل هو أَمرُ رَحمَةِ اللّه” (روم 9، 16) الذي “أحبّنا أولاً” (را. 1 يو 4، 19).
49. إن الذين يستجيبون لهذه الذهنيّة البيلاجيّة أو شبه البيلاجيّة، بالرغم من حديثهم عن نعمة الله من خلال خطابات معسولة، “لا يثقون، في نهاية الأمر، إلّا بقواهم الشخصيّة ويشعرون أنّهم متفوِّقين على غيرهم لأنّهم يحافظون على قوانين معيّنة أو لأنّهم أمناء بشكل حازم لأسلوب كاثوليكي معيَّن”[46]. عندما يتوجّه بعض منهم إلى الضعفاء قائلين إنَّ كلّ شيء ممكن بنعمة الله، فهم ينقلون في الحقيقة فكرة أنَّه بإمكاننا فعل كلّ شيء بفضل الإرادة البشريّة، كما لو كانت شيئًا نقيا وكاملا، وكلّي القدرة، تُضاف إليه النعمة. يدَّعون بتجاهل أنّه “لا يمكن للجميع أن يقوموا بكلِّ شيء”[47] وبأن الهشاشة البشريّة في هذه الحياة لا تُشفى بالكامل ونهائيًّا بفضل النعمة[48]. على أيّ حال، كما يعلّم القديس أوغسطينوس، إن الله يدعوك لتقوم بما بوسعك، وأن تطلب ما لا يمكنك القيام به[49] أو أن تقول بتواضع للربّ: “أعطني ما تطلبه واطلب منّي ما تريده”[50].
50. وأخيرًا، إن غياب اعترافنا الصادق، والبائس والمُصلّي، بمحدوديّتنا، هو الذي يمنع النعمة من العمل فينا بشكل أفضل، إذ إنّه لا يترك لها فسحة لكي تولِّد ذاك الخير الممكن الذي يندمج في مسيرة نمو صادقة وحقيقيّة[51]. ولأنَّ النعمة تتطلّب طبيعتنا، فهي لا تحوِّلنا فورًا إلى رجال خارقين. أن ندّعي بهذا الأمر هو ثقة مُفرطة بالنفس. وفي هذه الحالة يمكن لمواقفنا، المتمترسة خلف ستار استقامة المعتقد، ألّا تتناسب مع ما نؤكِّده حول ضرورة النعمة، وينتهي بنا الأمر بعدم الثقة بها بشكل كاف. في الواقع إن لم نعترف بواقعنا الملموس والمحدود فلا يمكننا أن نرى الخطوات الحقيقيّة والممكنة التي يطلبها الربّ منّا في كلِّ لحظة، بعد أن يكون قد جذبنا إليه وجعلنا نتوافق مع عطيّته. إنَّ النعمة تعمل في التاريخ، وعادة ما تأخذنا وتحوِّلنا بشكل تدريجي[52]. ولذلك إن رفضنا هذه الطريقة التاريخية والتدريجية، فبإمكاننا أن نتوصّل إلى رفض النعمة وكبتها، حتى وإن كنا نُعظِّمها بكلماتنا.
51. عندما تجلى الله لإبراهيم قال له: “أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً” (تك ۱۷، ۱). لكي نكون كاملين، كما يريد الله، علينا أن نعيش بتواضع في حضوره ومغمروين بمجده؛ علينا أن نسير مُتَّحدين به ومعترفين بمحبّته الدائمة في حياتنا. ويجب أن نترك الخوف من هذا الحضور الذي يمكنه فقط أن يفيدنا. إنّ الآب هو الذي أعطانا الحياة ويحبُّنا كثيرًا. وعندما نقبله ونتوقَّف عن التفكير بحياتنا بدونه، يزول يأس الوحدة (را. مز ۱۳۹، ۷). وإن أزلنا المسافات بين الله وبيننا وعشنا في حضوره، يمكننا أن نسمح له بأن يتفحّص قلوبنا ليرى إن كانت تسير في الطريق الصحيح (را. مز ۱۳۹، ۲۳- ۲٤). وهكذا سنعرف مشيئة الربّ المُحبّة والكامِلة (را. روم ۱۲، ۱- ۲) وسنسمح له بأن يُشكّلنا كالخزّاف (را. أش ۲۹، ۱٦). لقد قلنا مرّات عديدة إنَّ الله يقيم فينا، ولكن من الأفضل أن نقول إننا نقيم فيه، وإنّه يسمح لنا أن نعيش في نوره ومحبّته. إنّه هيكلنا: “وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي”، إنَّ ما أبحث عنه هو الإقامة في بيت الربّ جميع أيام حياتي (مز ۲۷، ٤). “لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ” (مز ۸٤، ۱۱). فيه نتقدّس.
تعليم من تعاليم الكنيسة غالبًا ما ننساه
52. لقد علّمت الكنيسة مرارًا أننا لا نتبرّر بواسطة أعمالنا أو جهودنا وإنما بنعمة الربّ الذي يأخذ المبادرة. وقد عبّر آباء الكنيسة بوضوح، حتى قبل القدّيس أوغسطينوس، عن هذه القناعة الرئيسيّة. وكان القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم يؤكِّد أنَّ الله يسكب فينا ينبوع جميع المواهب “قبل أن ندخل في المعركة”[53]. أمّا القدّيس باسيليوس الكبير فلاحظ أنَّ المؤمن يفتخر في الله فقط لأنَّه “يعترف أنّه لا يملك البرَّ الحقيقي وأنّه يُبرّر فقط بواسطة الإيمان بالمسيح”[54].
53. لقد علّم مجمع أورانج بسلطة حازمة أنّه لا يمكن لأيّ إنسان أن يطالب بعطيّة النعمة الإلهيّة أو يستحقّها أو يشتريها، وأن كلَّ ما يمكنه تقديمه من تعاون مع هذه النعمة هو عطيّةٌ مُسبقة من النعمة عينها: “حتى الرغبة في أن نصبح أنقياء تتمُّ فينا بفضل حلول الروح القدس علينا وعمله فينا”[55]. وبعده، عندما سلّط المجمع التريدنتيني الضوء على أهميّة تعاوننا في سبيل النموّ الروحي، أعاد التأكيد على ذلك التعليم العقائدي: “نؤكِّد أنّنا برّرنا مجّانًا، لأنّه لا شيء ممّا يسبق التبرير، سواء كان بالإيمان أو الأعمال، يستحقّ نعمة التبرير هذه. لأنها إن كانت نعمة فليست إذًا بالأعمال؛ وإلاّ فليست النعمة نعمةً بعد” (روم ١١، ٦)”[56].
54. يذكِّرنا التعليم الديني المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة أيضًا أنَّ عطيّة النعمة “تتخطّى قدرات الذكاء وقوّة إرادة الإنسان”[57]، وأنّه “إزاء الله، بالمعنى القانوني البحت، لا يوجد استحقاق من قبل الإنسان؛ إذ أنَّ عدم المساواة بينه وبيننا لا قياس لها”[58]. إنَّ صداقته تتخطّانا بشكل لا متناهٍ، ولا يمكننا أن نكتسبها بواسطة الأعمال الصالحة بل هي فقط عطيّة لمبادرة محبّته. هذا الأمر يدعونا إلى العيش بامتنان فرِح على تلك الهديّة التي لن نستحقَّها أبدًا، إذ أنّه “عندما يكون الإنسان في حالة النعمة، لا يمكن للنعمة التي نالها أن تكون مُستحقّة”[59]. إنَّ القديسين يتحاشون أن يضعوا ثقتهم في أعمالهم: “في مساء هذا العمر، سأمثل أمامك فارغة اليدين، لأني لا أسألك، يا ربّ، أن تأخذ أعمالي بعين الاعتبار. لأنَّ البرّ الذي فينا، لا يخلو من العيب في عينيك”[60].
55. إنّها إحدى أكبر القناعات التي اكتسبتها الكنيسة نهائيًّا، ويُعبَّر عنها بوضوح كبير في كلمة الله لدرجة أنها أصبحت مسلما بها. وهكذا كوصيّة المحبّة العظمى، على هذه الحقيقة أن تطبع أسلوب حياتنا، لأنها تنهل من قلب الإنجيل وتدعونا لا لأن نقبلها بالعقل وحسب وإنما لأن نحوِّلها إلى فرح مُعدٍ. مع ذلك لا يمكننا أن نحتفل بامتنان بهديّة صداقتنا مع الربّ المجانيّة إن لم نعترف أنَّ حياتنا الأرضيّة وقدراتنا الطبيعيّة هي عطيّة. نحن بحاجة لأن “نعترف بفرح أنَّ واقعنا هو ثمرة عطيّة، وأن نقبل أيضًا حريّتنا كنعمة. هذا هو الأمر الصعب في يومنا هذا، في عالم يعتقد أنّه يملك شيئًا من تلقاء ذاته، كثمرة لإبداعه أو لحريّته”[61].
56. انطلاقًا من عطيّة الله فقط، والتي نقبلها بحريّة وننالها بتواضع، يمكننا أن نتعاون مع جهودنا لنسمح بأن نتغيَّر أكثر فأكثر[62]. إن الأمر الأول هو الانتماء إلى الله. وهي مسألة تقديم ذواتنا له هو الذي سبقنا في تقديم ذاته، وأن نسلِّمه قدراتنا والتزامنا وكفاحنا ضدَّ الشرِّ وإبداعنا لكي تنمو عطيّته المجانيّة وتتطوّر في داخلنا: “إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله” (روم ١۲، ١). من جهة أخرى علّمت الكنيسة على الدوام أنَّ المحبّة وحدها تجعل النمو في الحياة الروحيّة ممكنًا لأنّه “إن لَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا بِشَيء” (١ قور ١۳، ۲).
57. هناك أيضًا مسيحيّون يلتزمون في إتباع مسيرة أخرى: مسيرة التبرير بواسطة قواهم، ومسيرة عبادة الإرادة البشريّة وقدراتها التي تُترجم في رضى عن النفس أنانيّ ونخبويّ خالٍ من الحبّ الحقيقي. يظهر بتصرّفات عديدة متفاوتة فيما بينها ظاهريًّا: الهوس بالقانون وسحر إظهار المكتسبات الاجتماعيّة والسياسيّة، والتباهي في العناية بالليتورجيّة وبالعقيدة وبهيبة الكنيسة، والغرور الناجم عن إدارة مسائل عمليّة، والانجذاب إلى ديناميكيّات المساعدة المتبادلة فيما بينهم والقيام بإنجازات ذاتيّة المرجعيّة. فيبدّد بعض المسيحيّين طاقاتهم ووقتهم في هذه الأمور بدلا من أن يسمحوا للروح القدس أن يقودهم في درب الحبّ وبدلا من أن يُشغفوا بنقل جمال وفرح الإنجيل وأن يبحثوا عن البعيدين في تلك الجموع العديدة المُتعطّشة للمسيح[63].
58. إن حياة الكنيسة في الكثير من الأحيان، وضدّ دفع الروح القدس، تتحوِّل إلى قطعة متحف أو إلى ملكيّة للقليلين. هذا الأمر يحدث عندما تعطي بعض المجموعات المسيحيّة أهمّية مفرطة لإتّباع قوانين معيّنة خاصّة بالمجموعة أو لعادات وأنماط. وغالبًا ما يُختَزَل الإنجيل بهذا ويُكبح إذ تُنتزع منه بساطته الساحرة ومذاقه. إنه ربما شكل حاذق من البيلاجيّة، لأنّه يبدو أنّه يُخضع حياة النعمة لبعض الهيكليات البشريّة. هذا الأمر يطال مجموعات وحركات وجماعات وهذا ما يشرح لماذا يبدأون مرّات عديدة بحياة عميقة في الروح وينتهون متحجِّرين… أو فاسدين.
59. إننا وبدون أن نُدرك، ولكوننا نظن أن كلَّ شيء يتعلَّق بالمجهود البشريِّ الذي توجِّهه قوانين وهيكليات كنسيّة، فإننا نُعقِّد الإنجيل ونُصبح عبيدًا لمُخطّط يترك القليل من المجال للنعمة لتعمل. يذكِّرنا القديس توما الأكويني أنَّ المبادئ التي أضافتها الكنيسة على الإنجيل يجب أن تُطلب باعتدال: “لكي لا نجعل حياة المؤمنين صعبة”، لأنّ بهذا الشكل تتحول ديانتنا إلى استعباد[64].
60. لكي نتحاشى هذا الأمر، من الجيِّد أن نُذكِّر بأنّه غالبًا ما توجد هرميّة للفضائل تدعونا للبحث عمّا هو جوهري. تعود الأولويّة للفضائل اللاهوتيّة التي يشكّل الله موضوعها وعلَّتها. وفي قلبها نجد المحبّة. يقول القدّيس بولس إنَّ القيمة الحقيقية هي “لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة” (غل ٥، ٦). نحن مدعوون لنعتني بالمحبّة بكلّ اهتمام “فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة… فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة” (روم ۱۳، ۸. ۱۰) لأنَّ “تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِب قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ” (غل ٥، ۱٤).
61. بمعنى آخر: وسط الغابة الكثيفة للمبادئ والشرائع، يفتح يسوع ثغرة تسمح بتمييز وجهين: وجه الآب ووجه الأخ. هو لا يُسلِّمنا صيغتين أو وصيّتين إضافيّتين، بل يسلِّمنا وجهين، لا بل وجهًا واحدًا، هو وجه الله الذي ينعكس في وجوه عديدة. لأنَّه في كلِّ أخٍ، لا سيما في الصغير والضعيف والأعزل والمعوز تكون حاضرة صورة الله عينها. في الواقع، إن الربّ، في نهاية الأزمنة، سوف يصوغ عمله الفني الأخير. “ماذا يبقى، ما هي الأشياء التي لها قيمة في الحياة، ما هي الكنوز التي لا تفنى؟ بالطبع: الربّ والقريب. هذان الكنزان لا يفنيان!”[65].
62. ليُحرِّر الربّ الكنيسة من الأشكال الجديدة للغنوصيّة والبيلاجيّة التي تُعقِّدها وتوقفها في مسيرتها نحو القداسة! إنَّ هذه الانحرافات تَظهر بأشكال مختلفة بحسب مزاجها وميزاتها. لذلك أحُثُّ كلَّ فرد منكم على أن يسأل نفسه ويميِّز أمام الله كيف يمكن لهذه الأمور أن تظهر في حياته.
63. توجد نظريات كثيرة حول ماهية القداسة، وشروحات مسهبة واختلافات. قد يكون مثلُ هذا التأمُّل مفيدًا ولكن ما من شيء بإمكانه أن ينيرنا أكثر من العودة إلى كلمات يسوع وفهم أسلوبه في نقل الحقيقة. لقد شرح يسوع ببساطة تامّة معنى أن نكون قدّيسين وذلك عندما ترك لنا التطويبات (را. متى ٥، 3- ۱۲؛ لو ٦، ۲۰- ۲۳). إنها كبطاقة الهويّة الشخصيّة بالنسبة للمسيحي. هكذا إن سأل أحد منا نفسه: “ماذا عليَّ أن أفعل لأكون مسيحيًّا صالحًا؟” يأتي الجواب بسيطًا: من الضروري أن يعيش كلٌّ بحسب طريقته ما يقوله يسوع في عظة التطويبات[66]. في التطويبات يُرسم وجه المعلِّم الذي دُعينا لنعكسه في حياتنا اليوميّة.
64. تصبح كلمة “سعيد” أو “طوبى” مرادفًا لكلمة “قدّيس” لأنّها تُحدِّد أنَّ الشخص الأمين لله والذي يعيش كلمته، يبلغ، من خلال بذل ذاته، السعادة الحقيقيّة.
65. حتى وإن بدت لنا كلمات يسوع شاعريّة، لكنّها تذهب عكس التيار مقارنة بالمُعتاد، وما يجري في المجتمع؛ حتى وإن كانت رسالة يسوع هذه تجذبنا، فالعالم في الواقع يحملنا إلى أسلوب حياة آخر. إن التطويبات ليست أبدًا أمرًا سهلا أو سطحيًّا؛ بل على العكس يمكننا أن نعيشها فقط إن حلَّ علينا الروح القدس بقوّته وحرّرنا من ضعف الأنانيّة والرفاهيّة والكبرياء.
66. لنُصغِ مجدّدًا إلى يسوع، بالمحبّة والاحترام الواجبين للمُعلِّم. ولنسمح له بأن يلمسنا بكلماته ويثيرنا ويُدعونا لتغيير حياة حقيقي. وإلا فستكون القداسة مجرّد كلمات. لنتذكّر الآن التطويبات الواردة في إنجيل القديس متى (را. متى ٥، ۳- ۱۲)[67].
“طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات”
67. يدعونا الإنجيل للاعتراف بالحقيقة في قلبنا لكي نرى أين نضع ضمانة حياتنا. عادة يشعر الغني بضمانته في غناه، ويعتقد أنّه عندما يكون غناه في خطر ينهار معنى حياته الأرضيّة كلّه. لقد قاله يسوع لنا في مثل الغني الجاهل، في حديثه عن ذاك الرجل الواثق من نفسه الذي، وكغبيٍّ، لم يفكِّر أنّه قد يموت في هذا اليوم عينه (را. لو ۱۲، ۱٦- ۲۱).
68. إن الغنى لا يضمن لك شيئًا. لا بل عندما يشعر القلب أنّه غني، يشعر بالاكتفاء بذاته لدرجة أنّه لا يملك فسحة لكلمة الله ومحبّة الإخوة ولا حتى للتنعُّم بأمور الحياة الأكثر أهميّة. فيحرم نفسه هكذا من الخيور العظمى؛ لذلك يعطي يسوع الطوبى لفقراء الروح، الذين يملكون قلبًا فقيرًا حيث يمكن للرب أن يدخل إليه بحداثته المستمرّة.
69. إن فقر الروح هذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بـ “التجرد المقدس” الذي يقترحه القديس اغناطيوس دي لويولا والذي من خلاله نبلغ حريّة داخليّة رائعة: “من الأهميّة بمكان أن نتحلّى بموقف التجرد إزاء الأشياء المخلوقة (بكل ما أُعطي من حريّة لإرادتنا الحرّة ولم يُمنع عنها)؛ بحيث لا نطلب الصحة بدل المرض والغنى بدل الفقر والكرامة بدل الإهانة وحياة طويلة بدل حياة قصيرة، وهكذا في كلِّ شيء آخر”[68].
70. إنَّ القديس لوقا لا يتحدّث عن فقر “الروح” وإنما عن أن نكون “فقراء” وحسب (را. لو ٦، ۲۰)، فيدعونا هكذا أيضًا إلى حياة زُهد وتجرُّد. ويدعونا بهذا الشكل لتقاسم حياتنا مع الأشدَّ حاجة، أي إلى الحياة التي عاشها الرسل ولكي نتشبّه في النهاية بيسوع الغنيَّ “الذي افتقر” (۲ كو ۸، ۹).
أن نكون فقراء القلوب، هذه هي القداسة.
“طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض”
71. إنّها عبارة قويّة، في هذا العالم الذي هو منذ البدء مكان عداوة، حيث يوجد نزاع في كلِّ مكان، وحيث توجد كراهيّة في كلِّ مكان، وحيث نُصنِّف الآخرين باستمرار حسب أفكارهم وعاداتهم وحتى أسلوبهم في الكلام أو اللبس. إنّه، باختصار، مملكة الكبرياء والغرور حيث يعتقد كلُّ شخص أنّه يملك الحق في التعالي على الآخرين. مع ذلك، حتى وإن بدا مستحيلًا، يقدِّم يسوع أسلوبًا آخر: الوداعة. هذا ما عاشه مع تلاميذه والذي نتأمّله في دخوله إلى أورشليم: “هُوَذا مَلِكُكِ آتيًا إِلَيكِ وَديعًا راكِبًا على أَتان” (متى ۲۱، ٥؛ زك ۹، ۹).
72. وقد قال يسوع: “اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم” (متى ۱۱، ۲۹). إن عشنا بتوتُّر وغرور مع الآخرين، نجد أنفسنا في نهاية المطاف مُتعبين ومنهكين. ولكن إن نظرنا إلى محدوديّتهم ونقائصهم بحنان ووداعة، وبدون أن نشعر أننا متفوِّقون عليهم، حينئذ يمكننا أن نساعدهم ونتحاشى تبديد طاقاتنا في تذمّرات عقيمة. بالنسبة للقديسة تريزيا دي ليزيو: “تقوم المحبّة الكاملة على احتمال نقائص الآخرين وعدم استغراب ضعفهم”[69].
73. يذكُر القديس بولس الوداعة كثمرة من ثمار الروح القدس (را. غل ٥، ۲۳). ويقترح، عندما تصرفات الإخوة السيئة تدفعنا للقلق، أن نقترب لإصلاحها وإنما “بروح الوداعة” (غل ٦، ۱). ويُذكِّر: “حَذارِ أَنتَ مِن نَفسِكَ لِئَلاَّ تُجرَّبَ أَنتَ أَيضًا” (ن. م.). حتى عندما يدافع المرء عن إيمانه وقناعاته عليه أن يقوم بذلك “بوداعة” (۱ بط ۳، ۱٦)، حتى الأعداء ينبغي معاملتهم “بوداعة” (۲ تيم ۲، ۲٥). لقد أخطأنا في الكنيسة مرّات عديدة عندما لم نقبل نداء الكلمة الإلهيِّ هذا.
74. تشكِّل الوداعة تعبيرًا آخر عن الفقر الداخلي لمن يضع ثقته في الله وحده. في الواقع يستعمل الكتاب المقدّس الكلمة عينها “عناويم” للإشارة إلى الفقراء والودعاء. قد يعترض أحدهم: “إن كنتُ وديعًا فهناك من سيعتقد أنني مغفَّل، أو أنني غبي وضعيف”. قد يكون الأمر هكذا ولكن لندع الآخرين يفكِّرون هكذا؛ من الأفضل أن نكون ودعاء على الدوام وستتحقّق رغباتنا الأسمى: الودعاء “يرثون الأرض” أي سيرون في حياتهم تمام وعود الله. لأنَّ الودعاء، بغضِّ النظر عما تقول الظروف، يضعون رجاءهم في الرب: “أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ” (مز ۳۷، ۱۱). وفي الوقت عينه يثق الرب فيهم: “وَإِلَى هَذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي” (أش ٦٦، ۲).
أن نتصرّف بوداعة متواضعة، هذه هي القداسة.
“طوبى لِلمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون”
75. إنَّ العالم يقدِّم لنا العكس: الترفيه والتلذُّذ واللهو والتسلية ويقول لنا إنَّ هذا هو ما يجعل الحياة جيّدة. يتجاهل الإنسان الدنيوي الأمور وينظر إلى الجهة المعاكسة عندما يواجه مشاكل مرض ما أو حزن في العائلة أو حوله. فالعالم لا يريد أن يبكي: يفضِّل أن يتجاهل الأوضاع الأليمة وأن يغطّيها ويخفيها. تُهدر طاقات كثيرة في الهروب من ظروف يحضر فيها الألم، مُعتقدين أنَّه من الممكن تمويه الحقيقة حيث لا يمكن أبدًا للصليب أن يغيب.
76. إنَّ الإنسان الذي يرى الأمور على حقيقتها يسمح للألم بأن يخترقه ويبكي في قلبه، وهو قادر على لمس أعماق الحياة وأن يكون سعيدًا حقًّا[70]. هذا الشخص قد تعزّى ولكن بتعزية يسوع وليس بتعزية العالم. وهكذا يمكنه أن يجرؤ على مقاسمة ألم الآخرين ويكُفَّ عن الهرب من الحالات الأليمة. بهذا الشكل يجد أن للحياة معنى من خلال مساعدة الآخر في ألمه، وفهم حزن الآخر والتخفيف عنه. فيشعر هذا الشخص أنَّ الآخر هو لحم من لحمه ولا يخاف من الاقتراب للمس جرحه، لديه من الشفقة ما يجعله يختبر أنَّ المسافات قد زالت. فيصبح من الممكن هكذا أن نقبل دعوة القديس بولس: “أبكوا مع الباكين” (رو ۱۲، ۱٥).
أن نعرف أن نبكي مع الآخرين، هذه هي القداسة.
“طوبى لِلجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون”
77. “الجوع والعطش” هما خبرتان عميقتان لأنّهما تعكسان حاجتين أساسيّتين وتتعلَّقان بغريزة البقاء على قيد الحياة. هناك من يرغب في العدالة بهذه القوّة أيضًا ويبحث عنها بشوق كبير. يقول يسوع إنّهم سيُشبعون، إذ إنَّ العدالة ستأتي عاجلاً أم آجلاً ويمكننا أن نتعاون لكي يصبح هذا الأمر ممكنًا حتى وإن كنا لا نرى على الدوام نتائج هذا الالتزام.
78. غير أن العدالة التي يقترحها يسوع ليست كالعدالة التي يبحث العالم عنها، والتي غالبًا ما تكون مشوَّهة بمصالح خسيسة ويتمُّ التلاعب بها من جهة أو من أخرى. يُظهر لنا الواقع كم هو سهل الدخول في حلقة الفساد والانتماء إلى هذه السياسة اليوميّة للـ “أُعطي لكي يُعطوني” وحيث كلُّ شيء هو تجارة. كم من الاشخاص يتألّمون بسبب الظلم وكم منهم يقفون عاجزين إزاء الذين يتبادلون الأدوار لكي يتقاسموا كعكة الحياة. بعضهم يكفوّن عن الكفاح في سبيل العدالة الحقيقيّة ويختارون الانضمام إلى المنتصر. غير أنَّ هذا الأمر لا يتعلّق بالجوع والعطش للعدالة اللذين يمتدحهما يسوع.
79. تبدأ هذه العدالة بالتحقيق في حياة كل شخص عندما يكون عادلاً في قراراته، ويُعبَّر عنها من ثمَّ من خلال البحث عن العدالة للفقراء والضعفاء. يمكن لكلمة “عدالة” أن تكون حقًا مرادفًا للأمانة لمشيئة الله من خلال حياتنا بأسرها، ولكن إن أعطيناها معنى عامًّا ننسَ أنّها تظهر بشكل خاص في العدالة تجاه الضعفاء: “تَعَلَّموا الإِحسانَ وآلتَمِسوا الحَقّ قَوِّموا الظَّالِمَ وأَنصِفوا اليَتيم وحاموا عنِ الأَرمَلَة” (أش ۱، ۱۷).
أن نبحث عن العدالة بجوع وعطش، هذه هي القداسة.
“طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون”
80. للرحمة وجهان: أن نعطي ونساعد ونخدم الآخرين وأيضًا أن نغفر ونتفهَّم. يُلخِّص القديس متى هذا في قاعدة ذهبيّة: “كُلُّ ما أَرَدتُم أَن يَفعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم” (۷، ۱۲). يذكّرنا التعليم المسيحي أنّه ينبغي تطبيق هذه القاعدة “في جميع الحالات”[71]، لا سيما عندما “يواجه الإنسان حالاتٍ تجعل الحكم الأخلاقي أقلَّ ثباتًا والقرار صعبًا”[72].
81. أن نعطي وأن نغفر هما محاولة لكي نجسِّد في حياتنا انعكاسًا صغيرًا لكمال الله الذي يعطي ويغفر بوفرة. لذلك لا نقرأ في إنجيل القديس لوقا: “كونوا كاملين” (متى ٥، ٤۸)، وإنما “كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم. لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم. أُعْفُوا يُعْفَ عَنكم. أَعطُوا تُعطَوا” (٦، ۳٦- ۳۸) ويضيف القديس لوقا بعدها أمرًا لا ينبغي علينا أن نتجاهله: “يُكالُ لَكم بِما تَكيلون” (٦، ۳۸). إنَّ الكيل الذي نستخدمه لنفهم الآخرين ونغفر لهم سيُطبَّق علينا ليُغفر لنا، والكيل الذي نطبِّقه في العطاء سيُطبَّق علينا في السماء لنُكافأ. لذلك فليس في صالحنا أن ننسى هذا الأمر.
82. يسوع لا يقول: “طوبى للذين يُخطِّطون للإنتقام”، ولكنه يعطي الطوبى للذين يغفرون ويقومون بذلك “سبعين مرّة سبع مرّات” (متى ۱۸، ۲۲). من الأهميّة بمكان أن نفكِّر أننا جيش من أشخاص قد غُفر لهم. لقد نُظر إلينا جميعًا بشفقة إلهيّة. وإن اقتربنا بصدق من الرب وهذّبنا حاسة السمع فإننا ربما سنسمع هذا التوبيخ: “أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضًا أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟” (متى ۱۸، ۳۳).
أن ننظر ونتصرّف برحمة، هذه هي القداسة.
“طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله”
83. هذه التطويبة تخص الأشخاص الذين يملكون قلبًا بسيطًا ونقيًّا بدون أي دنس لأنّه قلب يعرف أن يحب ولا يسمح لأن يدخل إلى حياته أيُّ شيء يهدِّد هذا الحب، أو شيئا يضعفه ويعرضه للخطر. في الكتاب المقدّس يشير القلب إلى نوايانا الحقيقيّة وما نبحث عنه فعلاً وما نرغب فيه أبعد مما يبدو علينا: “لأنَّ الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب” (۱ صم ۱٦، ۷). والرب يسعى ليكلِّم قلبنا (را. هو ۲، ۱٦) حيث يريد أن يكتب شريعته (را. إرم ۳۱، ۳۳)؛ بمعنى آخر يريد أن يعطينا قلبًا جديدًا (را. حز ۳٦، ۲٦).
84. “صُن قلبَكَ أكثر من كلِّ ما تحفظ” (أمث ٤، ۲۳). لأنَّ كلَّ ما لطّخه الخداع هو بلا قيمة حقيقيّة بالنسبة للرب. فهو “يَهرُبُ مِنَ الخِداع وَيبتَعِدُ عن الأَفكارِ الغَبِيَّة” (حكم ۱، ٥). والآب “الذي يرى في الخفاء” (متى ٦، ٦) يعرف ما ليس نقيًّا أي ما ليس صادقًا، والذي هو مجرّد قشور ومظاهر خارجية، كما أن الابن يعرف “يَعلَمُ ما في الإِنسان” (يو 2، 25).
85. بالتأكيد لا وجود للمحبّة بدون أعمال محبّة، ولكن تذكّرنا هذه الطوبى أنَّ الرب ينتظر منا تفانيًا ينبع من القلب تجاه الأخ لأنّه حتى “ولَو فَرَّقتُ جَميعَ أَموالي لإِطعامِ المَساكين، ولَو أَسلَمتُ جَسَدي لِيُحرَق، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما يُجديني ذلكَ نَفعًا” (١ كو ١۳، ۳). نرى في إنجيل القديس متى أيضًا أنَّ “ما يَنبَعِثُ مِنَ القَلْب، وهو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان” (١٥، ١۸) لأنَّ من هناك تَنبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ (را. ١٥، ۱۹). في نوايا القلب تولد الرغبات والقرارات الأكثر عمقًا التي تحرِّكنا فعلاً.
86. عندما يحب القلب الله والقريب (را. متى ۲۲، ۳٦- ٤۰) وعندما تكون هذه نيّته الحقيقيّة وليست مجرّد كلمات فارغة، يكون هذا القلب عندها طاهرًا ويمكنه أن يرى الله. يذكِّرنا القديس بولس في نشيد المحبّة أننا “نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة” (١ كو ١۳، ۱۲)، ولكن بقدر ما يسود الحب حقًّا نصبح قادرين على الرؤية “وجهًا لوجه” (ن. م.). فيسوع يعد أنَّ أطهار القلوب “سيشاهدون الله”.
أن نحافظ على قلبنا نقيًّا من كلِّ ما يُلطِّخ المحبة، هذه هي القداسة.
“طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون”
87. تجعلنا هذه الطوبى نفكِّر بأوضاع الحرب العديدة والمُتكرِّرة. إنّه لأمر اعتيادي بالنسبة لنا أن نكون سببًا للصراعات أو أقلّه لسوء التفاهم؛ فعلى سبيل المثال، عندما أسمع شيئًا عن أحد ما وأذهب وأخبره لشخص آخر، لا بل أقدِّم صيغة ثانية أكثر استفاضة من الأولى وأنشرها. وإن تمكَّنت من التسبُّب بضررٍ أكبر يبدو أنَّ الأمر يمنحني رضًا أكبر. إن عالم الإشاعات، المكوَّن من أشخاص يتكرَّسون للإنتقاد والتدمير، لا يبني السلام. هؤلاء الأشخاص هم أعداء السلام ولا يُمنحون الطوبى بأي من الأشكال[73].
88. المسالمون هم مصدر سلام، يبنون السلام والصداقة الاجتماعيّة.إن يسوع، للذين يهتمّون بزرع السلام في كلِّ مكان، يقطع لهم وعدًا جميلاً: “فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون” (متى ٥، ۹). لقد طلب من تلاميذه أن يقولوا لدى وصولهم إلى بيت ما: “السَّلامُ على هذا البَيت!” (لو ۱۰، ٥). إنَّ كلمة الله تحثُّ كلَّ مؤمن على طلب السلام مع الآخرين (را. ۲ تيم ۲، ۲۲)، لأنّ “ثَمَرَة البِرِّ تُزرَعُ في السَّلامِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ لِلسَّلام” (يع ۳، ۱۸). وإن تملّكنا الشكُّ في جماعاتنا في بعض المناسبات حول ما ينبغي علينا فعله: “عَلَينا إِذًا أَن نَسْعى إِلى ما غايتُه السَّلامُ” (روم ۱٤، ۱۹) لأنَّ الوحدة هي أسمى من النزاع[74].
89. ليس من السهل أن نبني هذا السلام الإنجيلي الذي لا يستثني أحدًا بل يدمج أيضًا حتى الأشخاص الغريبين بعض الشيء والأشخاص ذوي الطباع الصعبة والمعقّدين والذين يبحثون عن اهتمام، والمختلفين عنا، والذين آذتهم الحياة والذين لديهم اهتمامات أخرى. إنّه أمر صعب ويتطلّب انفتاحًا كبيرًا للعقل والقلب إذ لا يتعلَّق الأمر “بتفاهم بيروقراطي أو سلام عابر لصالح أقليّة سعيدة”[75] ولا بمشروع “يضعه البعض ويوجَّه إلى البعض”[76]. كما وأنّه لا يسعى إلى تجاهل النزاعات أو إخفائها بل “قبول معاناة النزاع وحلَّه وتحويله إلى حلقة وصل لعمليّة جديدة”[77]. إنه أمر يتعلّق بأن نكون صانعي سلام لأنَّ بناء السلام هو فنٌّ يتطلّب هدوءًا وإبداعًا وإحساسًا ومهارة.
أن نزرع السلام من حولنا، هذه هي القداسة.
“طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات”
90. يشدد يسوع نفسه على أن هذا الطريق يسير عكس التيار حتى أنه يجعلنا أشخاصا يضعون بحياتهم المجتمع في حال نقاش، أشخاصا مثيرين للضجر. يذكر يسوع كم من الأشخاص يُضطهدون أو اضطُهدوا لمجرد أنهم كافحوا من أجل العدالة، وعاشوا التزامهم إزاء الله وإزاء الآخرين. إن لم نُرِد السقوط في ضحالة مظلمة فلا نطلبنَّ حياة مريحة لأن “الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها” (متى 16، 25).
91. لا يمكن أن ننتظر، من أجل عيش الإنجيل، أن يكون كل ما حولنا مناسبًا، لأنه كثيرا ما تعمل ضدنا طموحات السلطة والمصالح الدنيوية. لقد قال القديس يوحنا بولس الثاني: “يكون المجتمع «مُغرَّبًا» عندما يصعب تحقيق هبة [عطية الذات] وقيام التضامن بين الناس، بسبب ما يُعتمَد من أنماط في تنظيم المجتمع والإنتاج والاستهلاك”[78]. ففي واقع كهذا لمجتمع مغرَّب وحبيس حبكة سياسية، إعلامية، اقتصادية، ثقافية، وحتى دينية تعيق تطوره البشري والاجتماعي الأكثر أصالة، يصبح من الصعب حتى عيش التطويبات، بل ويصل الأمر إلى أن يُعتبر الشخص الذي يحياها بغيضًا، مثيرًا للشك ومحط استهزاء.
92. إن الصليب هو، وفي المقام الأول، التعب والشدائد التي نتحملها لعيش وصية المحبة ومسيرة العدالة، نبع نُضج وقداسة. ولنتذكر أنه حين يتحدث العهد الجديد عن المعاناة التي يجب تحملها من أجل الإنجيل فإنه يشير تحديدًا إلى الاضطهادات (را. رسل 5، 41؛ فل1، 29؛ قول 1، 24؛ 2 طيم 1، 12؛ 1 بط 2، 20؛ 4، 14ـ 16؛ رؤ 2، 10).
93. لكننا نتحدث عن الاضطهادات التي لا يمكن تفاديها، لا عن تلك التي يمكن أن نسببها نحن أنفسنا من خلال أسلوب خاطئ في معاملة الآخرين. القديس ليس شخصا غريب الأطوار، بعيدًا، يصبح غير محتمل بسبب زهوه، سلبيته وضغائنه، فلم يكن هكذا رسل المسيح. يروي سفر أعمال الرسل بشكل متكرر كيف كانوا ينالون حظوة “عند الشعب كله” (2، 47؛ را. 4، 21. 33؛ 5، 13) بينما كانت بعض السلطات تبحث عنهم وتضطهدهم (را. 4، 1- 3؛ 5، 17- 18).
94. ليس الاضطهاد واقعًا من الماضي، فاليوم أيضا نعاني منه سواء بشكل قاس، مثل العديد من الشهداء المعاصرين، أو بأسلوب أكثر خفة من خلال التشهير والأكاذيب. يقول يسوع إننا سننال الطوبى إذا “افْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ من أجلي” (متى 5، 11). وفي أحيان أخرى نكون أمام سخريات تحاول تشويه إيماننا وجعلنا نبدو أشخاصًا مثيرين للضحك.
أن نقبل كل يوم درب الإنجيل، حتى وإن كان يسبب لنا الضيقات، هذه هي القداسة.
95. في الفصل 25 من إنجيل القديس متى (را. 31- 46) يعود يسوع ليتوقف عند إحدى التطويبات التي تعلن الطوبى للرحماء. وإن بحَثنا عن هذه القداسة المُرضية لله فسنجد في هذا النص تحديدًا قاعدة سلوك سنحاسَب على أساسها: “لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني، وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِليّ” (25، 35- 36).
96. أن نكون قدّيسين لا يعني بالتالي التحديق بالأعين نحو السماء في اختطافٍ مزعوم. لقد قال القدّيس يوحنا بولس الثاني “إذا كنّا حقًا انطلقنا من تأمّلنا في وجه المسيح، يجب أن نتعلّم أن نكتشفه بخاصة في وجوه الذين أراد هو أن يتحّد بهم”[79]. إن نص إنجيل القديس متى 25، 35-36 ليس “دعوة بسيطة للمحبة، بل هي صفحة “لاهوت المسيح” التي تلقي حِزمةً من نور على سرّ المسيح”[80]. في هذه الدعوة إلى التعرف عليه في الفقراء والمتألمين يظهر قلب المسيح نفسه، مشاعره وخياراته الأعمق التي يسعى كل قديس إلى التشبه بها.
97. أمام قوة مطالب يسوع هذه فإنه من واجبي أن أطلب من المسيحيين أن يقبلوها ويستقبلوها بانفتاح صادق، “sine glossa”، أي بدون تعليقات، بدون تنميق وذرائع تنزع عنها القوة. لقد أوضح لنا الرب أن القداسة لا يمكن أن تُفهم أو أن تعاش بتجاهل بعيدًا عن مطالبه هذه وذلك لأن الرحمة هي “القلب النابض للإنجيل”[81].
98. عندما ألتقي بفرد ينام في أحوال جوية سيئة، في ليلة باردة، يمكنني الشعور بأن هذا الوضع غير المتوقع هو عقبة تكبلني، مجرم خامل، عائق في مسيرتي، وخزة مزعجة لضميري، مشكلة يجب أن يحلها السياسيون وربما حتى قمامة توسخ الأماكن العامة. أو يمكنني أن أتفاعل انطلاقا من الإيمان والمحبة، وأن أرى فيه كائنا بشريا له كرامتي نفسها، كائن يحبه الآب بشكل لا نهائي، صورة لله، أخا فداه المسيح. هذا هو أن نكون مسيحيين! أو هل يمكن فهم القداسة بعيدًا عن هذا الاعتراف الحي بكرامة الكائنات البشرية جميعا؟[82]
99. يقتضي هذا من المسيحيين عدم رضى صحي ودائم. وإن كان التخفيف حتى عن شخص واحد يبرر كافة جهودنا، إلا أن هذا لا يكفينا. لقد أكد هذا أساقفة كندا بوضوح مبرزين أنه في تعاليم الكتاب المقدس المتعلقة باليوبيل، على سبيل المثال، فإن الأمر لا يقتصر على القيام ببعض الأفعال الصالحة، بل السعي إلى تغيير اجتماعي: “كي تتحرر الأجيال القادمة أيضًا، وجب بالطبع أن يكون الهدف إعادة تفعيل أنظمة اجتماعية واقتصادية عادلة حتى لا يكون هناك إقصاء بعد”[83].
الإيديولوجيات التي تشوه جوهر الإنجيل
100. مع الأسف تدفعنا الإيديولوجيات أحيانًا إلى خطأين ضارين. من جهة خطأ المسيحيين الذين يفصلون متطلبات الإنجيل هذه عن علاقتهم الشخصية مع الرب، عن الاتحاد الداخلي معه، عن النعمة. هكذا تتحول المسيحية إلى مجرد منظمة غير حكومية نُزعت عنها تلك الروحانية المنيرة التي عاشها وعبَّر عنها جيدًا القديس فرنسيس الأسيزي، القديس منصور دي بول، القديسة تيريزا دي كالكوتا وغيرهم كثيرون. فلدى هؤلاء القديسين العظام لم تقلِّل الصلاة ولا محبة الله ولا قراءة الإنجيل من شغف وفعالية تكريس أنفسهم للقريب، بل على العكس.
101. ضار وإيديولوجي هو أيضا خطأ من يعيشون في عدم ثقة في الالتزام الاجتماعي للآخرين معتبرين إياه شيئًا سطحيًا، دنيويًا، معلمنًا، محايثًا، شيوعيًا، شعبويا. أو يجعلونه نسبيا وكأن هناك أشياء أخرى أكثر أهمية أو كأنه يرتبط بأخلاقيات معينة أو منطق يدافعون عنه. إن الدفاع عن البريء الذي لم يولد، على سبيل المثال، يجب أن يكون واضحًا وحازمًا وشغوفًا، لأن ما على المحك هنا هو كرامة الحياة البشرية، المقدسة دائمًا، وهو أمر تستدعيه المحبة إزاء كل شخص بغض النظر عن نموه. ولكن مقدسة هي بالتساوي حياة الفقراء الذين وُلدوا، والذين يتخبطون في البؤس والهجر، والاستبعاد، والاتجار بالبشر، والموت الرحيم المختفي للمرضى، والمسنين المفتقدين إلى العناية، والأشكال الجديدة للعبودية، وكافة أشكال الإقصاء[84]. لا يمكننا اقتراح مثال للقداسة يتجاهل ظلم هذا العالم، حيث يحتفل البعض، الذين ينفقون بفرح وتقتصر حياتهم على مستجدات الاستهلاك، بينما ينظر آخرون من الخارج فقط وتمر حياتهم وتنتهي بطريقة بائسة.
102. غالبًا ما نسمع من يقول إنه أمام النسبية ونقائص العالم الحالي تصبح أوضاع المهاجرين مثلا قضية هامشية. يؤكد بعض الكاثوليك أنها قضية ثانوية مقارنة بقضايا البيوأخلاقيات “الجادة”. أن يقول شيئا كهذا سياسي متخوف على نجاحه قد يكون أمرا يمكن فهمه، ولكن ما من مسيحي، يليق به أن يضع نفسه فقط مكان ذاك الأخ الذي يخاطر بحياته كي يمنح لأبنائه مستقبلا. ألا يمكننا رؤية أن هذا هو بالضبط ما يطلبه منا يسوع حين يقول لنا إننا نأويه في كل غريب؟ (را. متى 25، 35). لقد قبل القديس بندكتس هذا بدون تحفظ، ورغم أن هذا كان يمكنه “تعقيد” حياة الرهبان، قرر أن يتم استقبال جميع الضيوف الذين يأتون إلى الدير “كالمسيح”[85]، معبِّرين عن هذا أيضًا بأفعال العبادة[86]، وأن تتم معاملة الحجاج الفقراء “بأقصى رعاية واهتمام”[87].
103. أمر شبيه يقدمه العهد القديم حين يقول: “وَلاَ تَضْطَهِدِ الْغَرِيبَ وَلاَ تُضَايِقْهُ لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ” (خر 22، 21). “وإِذا نَزَلَ بِكم نَزيلٌ في أَرضِكم، فلا تَظلِموه. ولْيَكُنْ عِنْدَكُمُ النَّزيلُ المُقيمُ فيما بَينَكم كآبنِ بَلَدِكم، تُحِبُّهُ حُبَّكَ لِنَفسِكَ، لأَنَّكم كُنتُم نُزَلاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ” (أح 19، 33-34). ليس هذا إذًا ابتكارًا لأحد الباباوات أو هذيانا عابرا. نحن أيضًا في الإطار الحالي مدعوون لعيش مسيرة الاستنارة الروحية التي طرحها علينا النبي أشعيا حين تساءل عما يرضي الله: “أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ” (58، 7-8).
104. قد نعتقد أننا نمجد الله فقط من خلال العبادة والصلاة، أو بمجرد تطبيق بعض القواعد الأخلاقية – صحيح أن الأولية هي للعلاقة مع الله – وننسى أن المعيار لتقييم حياتنا هو قبل كل شيء ما فعلناه للآخرين. تكون الصلاة ثمينة إذا كانت تغذي عطاء محبة يوميا. ترضي الله عبادتنا عندما نحمل فيها نوايا العيش بسخاء وحين ندع عطية الله التي نتلقاها فيها تظهر في تكرُّسنا للأخوة.
105. وللسبب ذاته فإن الوسيلة الأفضل لتمييز ما إذا كانت مسيرة صلاتنا حقيقية هي أن نلاحظ بأي قدر تأخذ حياتنا في التحول في نور الرحمة. لأن “الرحمة ليست فقط تصرف الآب، وإنما تصبح المعيار أيضًا لفهم من هم أبناؤه الحقيقيون”[88]. الرحمة هي “الدعامة التي ترتكز إليها الكنيسة”[89]. أود التشديد مرة أخرى على أنه حتى وإن كانت الرحمة لا تستبعد العدالة والحقيقة، “لكن علينا قبل كل شيء أن نعلن أن الرحمة هي ملء العدالة والإعلان المضيء عن حقيقة الله”[90]. الرحمة هي “مفتاح السماء”[91].
106. لا يمكنني ألا أُذكِّر بذلك السؤال الذي طرحه القديس توما الأكويني حين تساءل ما هي أعظم أفعالنا، ما هي الأعمال الخارجية التي تُظهر بشكل أفضل محبتنا لله. لقد أجاب بدون أي شك أنها أعمال الرحمة إزاء القريب[92]، أكثر من أفعال العبادة: “نحن لا نمارس العبادة لله من خلال تضحيات أو تقدمات خارجية لصالح الله، ولكن لصالح أنفسنا والقريب: فالله في الحقيقة لا يحتاج إلى تضحياتنا، بل يريد أن تقدَّم له كعلامة تقوى ولصالح القريب. ولهذا فإن الرحمة التي يقدَّم من خلالها العون لبؤس الآخرين هي تضحية مُرضية له، إذ تؤمّن خير القريب بشكل ملموس”[93].
107. مَن يريد أن يمجد الله بحياته حقًا، مَن يتطلع بالفعل إلى القداسة كي تمجد حياته القدوس، هو مدعو إلى أن يقهر نفسه ويبذلها، ويتعب محاولا عيش أعمال الرحمة. وهذا ما فهمته بشكل جيد جدا القديسة تيريزا دي كالكوتا: “نعم، ضعفي البشري كبير، وبؤسي البشري أيضًا. […] إلا أن الله يتنازل ويستخدمنا، يستخدمني ويستخدمك، كي نكون محبته وشفقته في العالم، رغم خطايانا، رغم بؤسنا وعيوبنا. الله يعتمد علينا ليحب العالم ويكشف له كم هو يحبه. إن بالغنا في الاهتمام بأنفسنا فلن يتبقى لنا وقت للآخرين”[94].
108. يمكن للاستهلاك من أجل المتعة أن يلحق بنا الضرر لأننا في هوسنا بالاستمتاع ينتهي بنا الأمر بأن نكون مركزين على أنفسنا بشكل مبالغ فيه، على حقوقنا وفي الرغبة في أن يكون لدينا وقت فراغ للاستمتاع به. سيكون من الصعب أن نلتزم ونكرس الطاقة لمساعدة من هو في أوضاع أسوأ إن لم نُنمِ نوعا من التقشف، إن لم نكافح ضد هذه الحمّى التي يفرضها علينا المجتمع الاستهلاكي كي يبيعنا الأشياء، فما يحولنا في النهاية إلى فقراء غير راضين هو ما يريدنا امتلاك كل شيء وتجربة كل شيء. يمكن أيضا لاستهلاك إعلام سطحي وأشكال الاتصال السريعة والافتراضية أن تكون عوامل تشويش للذهن يسلبنا وقتنا بالكامل ويُبعدنا عن جسد الإخوة المتألم. ووسط هذه الهوة الحالية يتردد صوت الإنجيل مجدَّدا ليقدم لنا حياة مختلفة، أكثر صحة وأكثر سعادة.
109. تكمن قوة شهادة القديسين في عيش التطويبات وقاعدة السلوك للدينونة الأخيرة. إنها كلمات قليلة، بسيطة، لكنها عملية وصالحة للجميع، لأن المسيحية، وإن كانت أيضا موضوع تأمل، هي في الأساس كي تمارَس، والتأمل يصبح ذا قيمة فقط حين يساعدنا على عيش الإنجيل في الحياة اليومية. أنصح بحرارة بقراءة نصوص الكتاب المقدس هذه مجدَّدًا وعلى الدوام، وتذكُّرها، والصلاة من خلالها، ومحاولة تجسيدها. إنها ستفيدنا، ستجعلنا سعداء حقا.
110. ضمن إطار القداسة الكبير الذي تقترحه علينا التطويبات ونص القديس متى 25، 31- 46، أودّ أن أقتطف بعض الميزات أو العبارات الروحيّة التي، بحسب اعتقادي، لا غنى عنها لفهم نمط الحياة الذي يدعونا الربّ إلى عيشه. لن أتوقّف لشرحِ وسائل التقديس التي نعرفها: أساليب الصلاة المختلفة، سِرَّي الإفخارستيا والمصالحة الثمينين، تقديم الذبائح، أشكال العبادة المختلفة، الإرشاد الروحي، وغيرها الكثير. سأشير فقط إلى بعض جوانب الدعوة إلى القداسة التي أتمنّى أن يُسمع صداها بشكل مميّز.
111. إن الميزات التي أودّ أن ألقي الضوء عليها لا تمثل كل الجوانب التي يمكنها أن تشكّل أنموذجًا من القداسة، إنما هي خمسة مظاهر كبيرة من المحبّة لله وللقريب، أعتبرها ذات أهميّة خاصّة بسبب بعض مخاطر ثقافة اليوم ومحدوديّتها، والتي من خلالها يظهر: القلق العصبي الذي يشتّتنا ويضعفنا؛ السلبيّة والحزن؛ الكسل المريح والاستهلاكي والأناني؛ الفردانيّة؛ والكثير من الروحانيّات الكاذبة الخالية من اللقاء بالربّ والتي تسيطر على “السوق الديني” الحالي.
112. أولى هذه الخصائص الكبيرة هي البقاء مركّزين وثابتين بالله الذي يحبّ ويدعم. وانطلاقًا من هذا الثبات الداخلي، يصبح من الممكن تكبّد، واحتمال الشدائد، ومصاعب الحياة، واعتداءات الآخرين أيضًا، بل وعدم أمانتهم وأخطاءهم: “إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟” (روم 8، 31). كان هذا نبع سلامٍ يَظهرُ في تصرّفات القدّيس. فعلى أساس ثبات داخليّ كهذا، ومن الصبر والثبات في الصلاح، تتكوّن شهادة القداسة، في عالمنا هذا “المتسارع” والمتقلّب والعدواني. إنها الأمانة في المحبّة، لأن من يتّكل على الله (pistis كلمة يونانية تعني الإيمان) يصبح بإمكانه أيضًا أن يكون أمينًا إزاء الإخوة (pistós كلمة يونانية تعني الشاهد)، فلا يتخلّى عنهم في الأوقات الصعبة، ولا يسمح للقلق بأن يجتاحه، ويبقى بقرب الآخرين حتى عندما لا يمنحه هذا في الحال أي نوع من الرضا.
113. كان القدّيس بولس يدعو مسيحيّي روما ألّا يُبادِلوا “أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ” (روم 12، 17)، وألا ينتقموا لأنفسهم (را. آية 19) وألّا يدعوا الشرّ يغلبهم، بل لأن يغلبوا الشرّ بالخير (را. آية 21). إن هذا التصرفلا يدل على الضعف إنما على القوّة الحقيقيّة، لأن الله نفسه “طويلُ الأَناة وعَظيمُ القُوَّة ولا يَتَغاضى عن شَيَء” (نحو 1، 3). إن كلمة الله تحذّرنا: “أَزيلوا مِن بَينِكم كُلَّ شَراسةٍ وسُخْطٍ وغَضَبٍ وصَخَبٍ وشَتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءًا” (أف 4، 31).
114. من الضروريّ أن نناضل وأن نكون حذرين إزاء ميولنا العدوانية والأنانيّة كيلا نسمح لها بالتجذّر: “اِغضَبوا، ولَكن لا تَخطَأُوا؛ لا تَغرُبَنَّ الشَّمْسُ على غَيظِكم” (أف 4، 26). عند وجود ظروف تسحقنا، يمكننا دومًا اللجوء إلى مرساة الدعاء، التي تقودنا للبقاء مجدّدًا بين يدي الله وبِقرب مصدر السلام: “لا تَكونوا في هَمٍّ مِن أَيِّ شيءٍ كان، بل في كُلِّ شيَءٍ لِتُرفَعْ طَلِباتُكم إِلى اللهِ بِالصَّلاةِ والدُّعاءِ مع الشُّكْر، فإِنَّ سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم” (فل 4، 6- 7).
115. قد يشترك المسيحيّون أيضًا في شبكات العنف الكلامي عبر الأنترنت أو مختلف مجالات نظام التبادل الرقمي. لدرجة أنه، حتى عبر وسائل الاعلام الكاثوليكيّة، يمكن تجاوز الحدود، ويُسمح بالتشهير والافتراء، كأنّه ما من وجود للأخلاقيّة ولا لاحترام سمعة الآخرين. هناك بالتالي ازدواجيّة خطرة، لأن الأمور التي تُقال، عبر هذه الشبكات، غير مسموح بها في الحياة العامة، وهناك محاولة للتعويض عن الاستياء الشخصيّ من خلال صبِّ ما في القلوب بغضبٍ، تعبيرًا عن رغبة في الانتقام. من المهمّ بالنسبة لهؤلاء، إذ يزعمون الدفاع عن وصايا أُخَرى، ألا يتجاهلوا إتمام الوصيّة الثامنة: “لا تشهد بالزور”، مدمرين دون رحمة صورة الآخرين. وهنا، بدون أيّ تحكّم [في العالم الرقمي]، يظهر أن اللسان هو “عالم الإثم” و”يُحرِقُ الطَّبيعَةَ في سَيرِها ويَحتَرِقُ هو بِنارِ جَهَنَّم” (يع 3، 6).
116. إن الثبات الداخلي الذي هو عمل النعمة، يحفظنا من أن نسمح للعنف الذي يجتاح الحياة الاجتماعية بأن يجرفنا، لأن النعمة تُميت الغرور وتجعل وداعة القلب ممكنة. فالقدّيس لا يهدر طاقاته متذمّرًا من عيوب الآخرين، إنما هو قادر أن يصمت إزاء أخطاء الإخوة، ويتجنّب العنف الكلاميّ الذي يدمّر ويسيء المعاملة، لأنّه لا يعتبر نفسه جديرًا بأن يكون قاسيًا مع الآخرين، بل بالأحرى يَعُدَّهم “أَفضَلَ مِنه” (فل 2، 3).
117. ليس من الجيّد بالنسبة لنا أن ننظر نظرة تعالٍ، وأن نلعب دور قضاة بلا رحمة، وأن نعتبر الآخرين حقراء، وندّعي دومًا تلقين الآخرين دروسًا. إن هذا هو نوعٌ ماكر من العنف[95]. كان القدّيس يوحنا الصليب يقترح أمرًا آخر: “مِلْ أكثر لأنّ يعلّمك الجميع، مِن أن تُعلّم حتى مَن هو أصغر الجميع”[96]. وكان يضيف نصيحة بهدف إبعاد الشيطان: “إنك فيما تفرح لخير الآخرين كما لو كان خيرك، وتحاول حقًّا أن يكون هؤلاء مُفَضّلين عنك في كلّ شيء، فإنك بهذه الطريقة تتغلّب على الشرّ بالخير، وتصرف الشيطان بعيدًا عنك وتستمدّ من هذا فرحًا روحيًّا. حاول أن تقوم بهذا لا سيّما مع الذين لا تتعاطف معهم. فاعلم أنكّ، إن لم تتدرب في هذا المجال، لن تبلغ المحبّة الحقيقيّة ولن تستفيد منها”[97].
118. بإمكان التواضع أن يتجذّر في القلب فقط عبر الإذلال. فمن دونه ما من تواضع وما من قداسة. إن لم تكن تستطيع أن تحتمل بعض الإهانات وأن تقدم بعضها للرب، فأنت لست متواضعًا ولست على درب القداسة. فالقداسة التي يعطيها الله لكنيسته تأتي بواسطة إذلال ابنه: هذه هي الدرب. الاذلال يحملك للتشبّه بيسوع، إنه جزء لا يمكن تجنّبه من التشبّه بالمسيح: “قَد تأَلَّمَ المسيحُ أَيضًا مِن أَجلِكم وترَكَ لَكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه” (1 بط 2، 21). وهو بدوره يكشف عن تواضع الآب، الذي يتواضع ليسير مع شعبه، والذي يتحمّل عدم أمانة شعبه وتذمّره. لهذا السبب كان الرسل فرحين بعد التعرض للإهانة، بسبب “أَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم” (رسل 5، 41).
119. أنا لا أشير فقط إلى أوضاع الإستشهاد العنيفة، إنما للإهانات اليومية بحق أولئك الذين يحتملون من أجل خلاص أُسَرِهم الخاصة، أو يتجنّبون قول الخير عن أنفسهم ويفضّلون مدح الآخرين بدل الافتخار، ويختارون المهام الأقلّ أهمّية، وحتى أنهم يفضّلون أحيانًا تكبّد أمورًا ظالمة كي يقدّموها للربّ: “إِن عمِلتُمُ الخَيرَ وتَأَلَّمتُم وصَبَرتُم على الآلام، كانَ في ذلك حُظوَةٌ عِندَ الله” (1 بط 2، 20). إن الأمر هنا لا يتعلق بالسير برأسٍ منحنية، والتكلّم قليلًا أو الهروب من المجتمع. فيمكن لأحدهم أحيانا، ولأنه مُحرَّر من أيّة أنانيّة، أن يمتلك شجاعة المناقشة بشكل ودّي، والمطالبة بالعدل أو الدفاع عن الضعفاء أمام الأقوياء، حتى وإن كان لهذا الفعل تبعات سلبيّة على صورته.
120. أنا لا أقول إن الإهانة هو أمر مفرح، لأن هذا يصبح سادية مازوخية، إنما هي مسألة حياة تهدف إلى التشبّه بيسوع والنموّ بالوحدة معه. إن هذا غير مفهوم على المستوى الطبيعي، والعالم يسخر من هكذا اقتراح. إنّها نعمةٌ نحتاجُ لأن نلتمسَها: “يا ربّ، عند الإهانات، ساعدني كي أشعر بأني أسير خلفك، وعلى دربك”.
121. موقف كهذا يستلزم قلبًا قد ملأه المسيحُ من سلامه، مُحرّرًا من تلك العدوانية التي تنبع من كبرياء الـ “أنا” الكبيرة. إن حلول السلام نفسه، الذي تحقّقه النعمة، يسمح لنا أن نحافظ على أمان داخلي وأن نقاوم، وأن نثبت في عمل الخير “ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات” (مز 23، 4) أو أيضًا “إذا اصطف عليَّ جيش” (مز 27، 3). ثابتين في الربّ، الصخرة، يمكننا أن نرنّم: “بِسلام أَضَّجعُ ومِن ساعَتي أَنام لأَنَّكَ وَحدَكَ يا رَبُّ في أمانٍ تُسكِنُني” (مز 4، 9). في النهاية، المسيح “هو سلامنا” (أف 2، 14) وقد أتى “لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام” (لو 1، 79). لقد قال للقدّيسة فوستينا كوفالسكا أن “البشريّة لن تجد السلام، ما لم تتوجّه إلى رحمتي بثقة”[98]. لا نقعنَّ إذًا في تجربة البحث عن الأمان الداخلي عبر النجاح، والملذّات الفارغة، والامتلاك، والسيطرة على الآخرين أو الصورة الاجتماعية، يقول يسوع: “سَلامي أُعْطيكم” لكن “لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم” (يو 14، 27).
122. كلّ ما قد قيل حتى الساعة لا يعني وجود روح محبطة أو حزينة أو بغيضة أو كئيبة أو بعيدة عن الأنظار وبلا قوّة. فالقدّيس يستطيع أن يعيش بالفرح وروح الدعابة. وهو، دون أن يفقد واقعيّته، ينيرُ الآخرين بروحٍ إيجابيّ وغنيّ بالرجاء. أن نكون مسيحيّين يعني “فرحٌ بالروحِ القُدس” (روم 14، 17)، لأن “ما يلي المحبّة بالضرورة هو الفرح. لأنّ من يحبّ يتمتعّ دومًا باتّحاده مع الحبيب […] ولذا فما يلي المحبّة هو الفرح”[99]. لقد نلنا جمال كلمته وتقبلناها “بِفَرَحٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، مع” أننا “في شِدَّةٍ كَبيرَة” (1 تس 1، 6). فإن سمحنا للربّ بأن يخرجنا من قشرتنا ويغيّر حياتنا، يمكننا حينها أن نحقّق ما طلبه القدّيس بولس: “افرَحوا في الرَّبِّ دائِمًا، أُكرِّرُ القَولَ: افرَحوا” (فل 4، 4).
123. لقد أعلن الأنبياء عن زمن يسوع، الذي نعيشه نحن الآن، على أنه ظهور للفرح: “إِهتفي وآبتَهجي!” (أش 12، 6)؛ “اصعَدي إِلى جَبَلٍ عالٍ يا مُبَشِّرَةَ صِهْيون. اِرفَعي صَوتَكِ بِقُوَّة يا مُبَشِّرَةَ أُورَشَليم” (أش 40، 9)؛ “اندَفِعي بِالهُتافِ أَيُّتُها الجِبال فإِنَّ الرَّبَّ قد عَزَّى شَعبَه ورَحِمَ بائِسيه” (أش 49، 13)؛ “اِبتَهِجي جِدًّا يا بِنتَ صِهْيون واهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم! هُوَذا مَلِكُكَ آتِيًا إِلَيكِ بارًّا مُخَلِّصًا” (زك 9، 9). ولا ننسَ تحفيز النبي نحميا: “لا تَحزَنوا، لأِنَّ فرَحَ الرَّبِّ حِصنُكم” (نح 8، 10).
124. مريم، التي عرفت كيف تكتشف الجديد الذي أتى به يسوع، هتفت: “تبتهج روحي” (لو 1، 47) ويسوع نفسه “تَهَلَّلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس” (لو 10، 21). وعند مروره “ابتَهَجَ الجَمعُ كُلُّه” (لو 13، 17). بعد قيامته، حيثما وصل التلاميذ، كانوا يجدون “فرحًا عظيمًا” (رسل 8، 8). أمّا نحن فيسوع يطمئننا: “ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحًا. […] سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح” (يو 16، 20. 22). “قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا” (يو 15، 11).
125. هناك أوقات قاسية، أوقات صليب، ولكن ما من شيء يستطيع أن يدمّر الفرح الفائق الطبيعية، الذي “يتكيّف ويتغيّر ويبقى على الدوام كشعاع النور، أقلّه، الذي يُولَد من يقيني الشخصيّ، بأنّي محبوب للغاية، وبالرغم من كلّ شيء”[100]. هو طمأنينة داخليّة، وصفاء مليء بالرجاء، يمنح رضًا روحيّا غير مفهوم بحسب المعايير الدنيويّة.
126. يترافق الفرحُ المسيحي عادة مع روح الدعابة، الجلي للغاية، مثلًا في القدّيس تومازو مورو، والقدّيس منصور دي باولي أو القدّيس فيليبو نيري. فالنكد ليس بعلامة للقداسة: “أَقصِ الغَمَّ عن قَلبِكَ” (جا 11، 10). ننال من الربّ الكثيرَ “لِنَتَمَتَّعَ بِه” (1 طيم 6، 17) حتى أن الحزن يكون أحيانًا علامة لعدم امتناننا، لبقائنا منغلقين على أنفسنا حتى نصبح غير قادرين على الاعتراف بعطايا الله[101].
127. إن محبة الله الأبوية تدعونا: “يا بُنيَّ، […] أَنفِقْ على نَفْسِكَ […] لا تَحرِمْ نَفسَكَ مِن يَومٍ صالِح” (سي 14، 11. 14). يريدنا أن نكون إيجابيّين، ممتنين وغير معقّدين للغاية: “في يَوم السرَاء ِكُن مَسْرورًا […] اللهَ صَنعً البَشَرَ مُستَقيمين أَمَّا هم فبَحَثوا عن أَسْبابٍ كَثيرة” (جا 7، 14. 29). في كلّ الأوضاع، ينبغي الحفاظ على روحٍ مَرِنة، والتمثّل بالقدّيس بولس: “قد تَعلَّمتُ أَن أَقنعَ بما أَنا علَيه” (فل 4، 11). هذا ما كان يعيشه القدّيس فرنسيس الأسّيزي، فكان يتأثّر امتنانًا إزاء قطعة خبزٍ جاف، أو كان يسبّح الله فَرِحًا فقط من أجل نسمة هواء تداعب وجهه.
128. لست بصدد التكلم عن الفرح الاستهلاكيّ والنزعة الفردانيّة الموجودة بكثرة في بعض الخبرات الثقافية الحاليّة. فالاستهلاكيّة لا تولد إلّا إرهاقًا للقلب؛ يمكنها أن تأتي بمسرّات عرضيّة وعابرة، ولكنّها لا تمنح الفرح. إنّي أشير بالأحرى إلى ذاك الفرح الذي يُعاش بشركة مع الآخرين، نتشارك به، لأن “السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ” (رسل 20، 35) و”اللهَ يُحِبُّ مَن أَعْطى مُتَهَلِّلاً” (2 قور 9، 7). المحبّة الأخويّة تضاعفُ قدرتنا على الفرح، لأنّها تجعلنا قادرين على الفرح لخير الآخرين: “إفرحوا مع الفرحين” (روم 12، 15). “إِنَّنا نُسَرُّ عِندَما نَكونُ نحنُ ضُعَفاءَ وتَكونونَ أَنتُم أَقوِياء” (2 قور 13، 9). ولكن إن “ركّزنا قبل كلّ شيء على حاجاتنا، فنحن نحكم على أنفسنا بالعيش بقليل من الفرح”[102].
129. القداسة هي، في الوقت عينه، (parresia) صراحة في الكلام: إنها جرأة، واندفاع تبشيريّ يترك آثاره في هذا العالم. وكي يكون هذا أمرًا ممكنا، فإن يسوع نفسه يأتي لعوننا ويكرّر بكلّ صفاء وحزم: “لا تَخافوا” (مر 6، 50). “هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم” (متى 28، 20). إن هذه الكلمات تسمح لنا بأن نسير ونخدم بسلوك مليء بالشجاعة التي أثارها الروح القدس في الرسل فحثّهم على البشارة بيسوع المسيح. الجرأة، والحماس، والصراحة، والغيرة الرسولية، كلّ هذا نفهمه في كلمة الصراحة parresia، عبارة تستخدمها الكتب المقدّسة لتعبّر عن حرّية الوجود، المنفتحة، لأنّها على استعداد لخدمة الله والإخوة (را. رسل 4، 29؛ 9، 28؛ 28، 31؛ 2 قور 3، 12؛ أف 3، 12؛ عب 3، 6؛ 10، 19).
130. كان الطوباوي بولس السادس يحصي بين عوائق عمل البشارة النقص في الصراحة parresia: “النقص في الحماس، وهو أكثر خطورة لأنّه ينبع من الداخل”[103]. كم من مرّة نشعر بأننا مدفوعين لنرسي على الضفّة المريحة! لكن الربّ يدعونا لنبحر في العرض ولنرمي الشبكة في المياه العميقة (را. لو 5، 4). هو يدعونا لنبذل حياتنا في خدمته. بتشبّثنا به ننال الشجاعة لنضع كلّ مواهبنا في خدمة الآخرين. ليتنا نشعر بمحبّته تدفعنا (را. 2 قور 5، 14) فنقول مع القدّيس بولس: “الوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!” (1 قور 9، 16).
131. لننظر إلى يسوع: إن تعاطفه العميق لم يكن أمرًا يدفعه للتركيز على ذاته، لم يكن تعاطفًا معيقًا أو خجولًا أو مليئًا بالخزي كما يحدث معنامرّات عديدة، إنّما العكس بالتمام. كان تعاطفًا يدفعه للخروج من ذاته بقوّة كي يبشّر، وكي يُرسل التلاميذ، يُرسلهم كي يشفوا ويحرّروا. لنعترف بهشاشتنا ولكن لندع يسوع يأخذها بين يديه ويرسلنا. نحن ضعفاء، إنّما نحمل كنزًا يجعلنا عظماء وهذا يمكنه أن يجعل ممّن يقبله شخصًا صالحًا وسعيدًا. الجرأة والشجاعة الرسوليّة هما أساسيان للرسالة.
132. الصراحةparresia هي ختمُ الروح القدس، وشهادةٌ لصدقِ البشارة. هي اطمئنانٌ فَرِحٌ يحملنا على الافتخار بالإنجيل الذي نبشّر به، وهي ثقة لا تنتزع في أمانة ذاك الشاهد الأمين، والتي تعطينا اليقين بأن ما من شيء بِوُسعِه أَن “يَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ” (روم 8، 39).
133. إننا بحاجة إلى أن يدفعنا الروح كيلا يُعيقنا الخوفُ أو الحسابات، وكيلا نعتاد السير فقط ضمن حدود آمنة. ولنتذكّر أنّ ما يبقى مغلقًا تفوحُّ منه في النهاية رائحةُ الرطوبة ويُمرِضنا. فعندما شَعَر الرسل بأن الخوف والمخاطر قد تعيقهم، شرعوا يصلّون معًا سائلين الربّ أن يعطيهم الصراحة parresia: “انظُرِ الآنَ يا ربُّ إِلى تَهْديداتِهم، وهَبْ لِعَبيدِكَ أَن يُعلِنوا كَلِمَتَكَ بِكُلِّ جُرأَةٍ” (رسل 4، 29). وكانت الإجابة بأنه “بَعدَ أَن صَلَّوا زُلزِلَ المَكانُ الَّذي اجتَمَعوا فيه. وامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فأَخَذوا يُعلِنونَ كلِمَةَ اللهِ بِجُرأة” (رسل 4، 31).
134. نحن نحمل في داخلنا كامنًا، على غرار النبي يونان، الميلَ إلى الهروب لمكان آمن يمكنه أن يحمل عدة أسماء: الفرديّة، والروحانية، والانغلاق في عوالم صغيرة، والتبعية، والاستقرار في مكان ما، وتكرار خطط مسبقة، الدوغمائية، والكآبة، والتشاؤم، والاختباء وراء القوانين. يصعب علينا أحيانا الخروج من نطاق كان معروفًا لدينا وفي متناول اليد. ولكن، المصاعب قد تكون العاصفة، أو الحوت، أو الدودة التي أيبست يقطينة يونان، أو الرياح والشمس التي أحرقت رأسه؛ وكما كان الأمر بالنسبة له، يمكن لرسالتها أن تكون إعادتنا إلى ذاك الإله الذي هو عطف ويريد أن يقودنا إلى مسيرة دائمة ومجدّدة.
135. الله هو دائم الجِدّة/جديد دائمًا؛ جِدّة تدفعنا باستمرار للانطلاق من جديد وللانتقال إلى مكان آخر بهدف تخطيّ ما نعرفه، نحو الضواحي والحدود. هو يقودنا حيث توجد البشريّة المكلومة وحيث ما زالت الكائنات البشريّة، تحت مظهر السطحيّة والإمتثالية، تبحثُ عن إجابة لسؤالها عن معنى الحياة. الله لا يخاف! لا يخشى! يسعى دومًا إلى ما يتخطّى تصورتنا ولا يهاب الضواحي. فقد جعل نفسه ضاحية (را. فل 2، 6- 8؛ يو 1، 14). لذا، فإن تجرّأنا وذهبنا إلى الضواحي فسوف نجده هناك: هو يسبقنا إلى هناك. يسوع يسبقنا في قلب ذاك الأخ، وفي جسده الجريح، وفي حياته المظلومة، وفي نفسه المظلمة. هو هناك.
136. صحيح أنّنا نحتاج لأن نفتح الباب ليسوع المسيح، لأنّه يقرع وينادي (را. رؤ 3، 20). ولكنّني أتساءل أحيانًا إذا ما كان يسوع، بسبب هواء مرجعيّتنا الذاتية غير القابل للتنفس، يقرع من الداخل كيما نسمح له بالخروج. ونرى في الإنجيل كيف أنّ يسوع كان يسير “في كُلِّ مَدينَةٍ وقَريَة، يُنادي ويُبَشِّرُ بِمَلكوتِ الله” (لو 8، 1). بعد القيامة أيضًا، عندما ذهب التلاميذُ في كُلِّ مكان “والرَّبُّ يَعمَلُ مَعَهم” (مر 16، 20). هذه هي الديناميكيّة التي تنبع من اللقاء الحقيقيّ.
137. إن العادات تُغرينا وتقولُ لنا إنّه ما من معنى لمحاولة تغيير الأمور، وإِننا لا نستطيع أن نفعل شيئا حيال هذا الوضع، وإن الأمر كان هكذا على الدوام، وإننا مع ذلك قد تقدّمنا. بالعادات، نحن لا نواجه الشرّ، ونسمح للأمور بأن “تسير كما اعتادت أن تسير”، أو كما قرّر البعض لها أن تسير. لندَع الربّ يأتي إذًا ويوقظنا، وينهضنا من تخدّرنا، ويحرّرنا من جمودنا! لنتحدَّ إدماننا على اتباع العادات، ولنفتح أعيننا وآذاننا جيّدًا، وبالأخصّ القلب، كي نسمح لما يحدث من حولنا ولصرخة كلمة القائم من بين الأموات الحيّة والفعّالة بأن تحرّكنا.
138. يحثّنا مثالُ الكثيرِ من الكهنة والراهبات والرهبان والعلمانيّين الذين يكرّسون أنفسهم للبشارة والخدمة بأمانة كبيرة، مجازفين بحياتهم في كثير من الأحيان، وعلى حساب راحتهم بالتأكيد. إن شهادتهم تذكّرنا أن الكنيسة لا تحتاج إلى الكثير من البيروقراطيين والموظّفين، إنما إلى مُرسلين شغوفين، يلتهمهم الحماسُ للتبشير بالحياة الحقّة. القدّيسون يفاجئوننا، ويزعجوننا، لأن حياتهم تدعونا للخروج من ضعفنا المُريح والمُخَدِّر.
139. لنسأل الربَّ نعمةَ عدم التردّد عندما يطلب منّا الروح القدس أن نقوم بخطوة إلى الأمام؛ لنطلب الشجاعة الرسوليّة لنبلِّغ الإنجيل إلى الآخرين وللتخلّي عنجعل حياتنا متحفًا للذكريات. لنسمح للروح القدس، في كل الظروف، أن يجعلنا نتأمّل بالتاريخ من منظور يسوع القائم من بين الأموات. فالكنيسة، بهذه الطريقة، وبدل أن تتعب، تستطيع أن تمضي قدمًا متقبّلة مفاجآت الربّ.
140. من الصعب جدًّا أن نحارب الشهوة الخاصة ومكائد وتجارب الشيطان والعالم الأناني إن كنّا منعزلين. إن “القصف” الذي يغرينا قويّ لدرجة أنّنا، إن كنّا وحيدين للغاية، نفقد بكلّ سهولة معنى الواقع، والصفاء الداخلي، ونستسلم.
141. إن التقديس هو مسيرة جماعيّة، يجب القيام بها برفقة الآخر. هكذا تعكسه بعض الجماعات المقدسة. فقد أعلنت الكنيسةُ، في مناسبات مختلفة، قداسة جماعات بأكملها عاشت الإنجيل بطريقة بطوليّة أو قدّمت لله حياة جميع أعضائها. نفكّر على سبيل المثال في القدّيسين السبعة، مؤسّسي رهبنة خدّام مريم، وفي الطوباويات راهبات الزيارة السبع لأول دير لهن في مدريد، والقديس بولس ميكي ورفقائه الشهداء في اليابان، والقديس أندريا تيغون ورفاقه الشهداء في كوريا، والقدّيس روكو غونزاليس والفونسو رودريغيز ورفاقهما الشهداء في أمريكا الجنوبية. نذكر أيضًا شهادة رهبان تبحيرين (الجزائر) الترابيست مؤخّرا، الذين تحضّروا معًا للاستشهاد. وبالمِثلِ هناك أيضًا الكثير من الأزواج القدّيسين، حيث كان كلّ من الزوجين أداة لتقديس الآخر. العيش والعمل مع الآخرين هو دون شكّ سبيل نموّ روحي. قال القدّيس يوحنا للصليب إلى أحد تلاميذه: أنت تعيش مع آخرين “كيما يزعجوك ويجعلوك تمارس الفضيلة”[104].
142. إن الجماعة مدعوّة لخلق “فسحة لاهوتيّة يمكن فيها اختبار الحضور السرّي للربّ القائم من الموت”[105]. فالمشاركة بالكلمة والاحتفال سويّا بالافخارستيا يزيدان من أُخُوَّتِنا وتحوّلانا شيئًا فشيئًا إلى جماعة مقدّسة ومبشرة. وهذا يسمح أيضًا بعيش خبرات صوفية عميقة في الجماعة، كما حدث مع القدّيس بندكتس والقدّيسة سكولاستيكا، أو ذاك اللقاء الروحي الرائع الذي عاشه القدّيس أوغسطينوس مع أمّه القدّيسة مونيكا: “ولما دنا اليوم الذي غادرت فيه أُمي هذه الحياة، هذا اليوم، الذي أنت تعرفه أما نحن فنجهله، وجدنا كلانا هي وأنا وحدنا، وذلك بتدبير منك خفي، متكئين على نافذة يمتد منها النظر إلى بستان البيت الذي كنا نسكنه … وفتحنا شفاه قلبنا على مجاري ينبوعك، ينبوع الحياة الذي لديك […] وفيما كنّا نتكلّم ونتوق لها [للحكمة]، استحوذنا عليها قليلا باندفاع كلّي للعقل [… بحيث أن] الحياة الأبديّة [بدت تشبه] لحظة الحدس تلك التي جعلتنا نتنهّد”[106].
143. ولكن هذه الخبرات ليست الأمر الأكثر شيوعًا، ولا الأكثر أهمّية. فالحياة الجماعيّة، في العائلة، في الرعيّة، والجماعات الرهبانيّة أو أيّة جماعة أخرى، تتكوّن من العديد من التفاصيل اليوميّة الصغيرة. وهذا ما كان يحدث في الجماعة التي كوّنها يسوع ومريم ويوسف، حيث انعكس جمال شركة الثالوث الأقدس بطريقة مثاليّة. وهذا أيضًا ما كان يحدث في الحياة الجماعيّة التي قادها يسوع مع تلاميذه ومع الناس البسطاء من الشعب.
144. لنتذكّر كيف كان يسوع يدعو تلاميذه للانتباه إلى التفاصيل.
التفصيل البسيط للخمر التي كادت أن تنفذ أثناء الحفل.
التفصيل البسيط للخروف الناقص.
التفصيل البسيط للأرملة التي قدمت الفلسين.
التفصيل البسيط لامتلاك الزيت الاحتياطي للمصابيح إذ تأخّر العريس.
التفصيل البسيط لطلبه من التلاميذ أن يروا كم رغيف لديهم.
التفصيل البسيط لتحضير الجمر والسمك عليه فيما كان ينتظر التلاميذ عند الفجر.
145. إن الجماعة التي تُحافظ على التفاصيل الصغيرة للمحبّة[107]، وحيث يعتني أعضاؤها بعضهم ببعض، ويكوِّنون فسحة مفتوحة ومبشّرة، هي مكان لوجود الربّ القائم من الموت والذي يقدّسها وفقًا لتدبير الآب. ويُعطى لنا أحيانًا، كهبة من محبّة الربّ، وسط هذه التفاصيل الصغيرة، أن نختبر الله باختبارات معزّية: “في إحدى الأمسيات الشتويّة، كنت أقوم بخدمتي الصغيرة كالمُعتاد […] فسمعتُ لفترة من الوقت، مِن بعيد، صوتَ آلة موسيقيّة متناغم: فتخيّلت نفسي في صالون مُنَار بشكل جيّد وكلّ شيء يلمع فيه من الذهب، وفتيات يرتدين ملابس أنيقة، تقدّمن المجاملات والتحيّات الدنيويّة بعضهن لبعض؛ ثم وقع نظري على المريضة المسكينة التي كنت أساعدها؛ وبدل النغمات كنت أسمع أحيانًا تنهداتها الحزينة […]. لا أستطيع أن أعبّر عمّا حدث في نفسي، ما أعرفه هو أن الربّ أنارها بأشعّة الحقيقة التي تفوق للغاية الروعة المظلمة لأعياد الأرض، ولم أستطع أن أصدّق سعادتي”[108].
146. إزاء الميل إلى الفرديّة الاستهلاكيّة التي تنتهي بعزلنا في البحث عن الرفاه بمعزل عن الآخرين، لا يمكن لمسيرة تقديسنا الكفُّ عن أن ترى فينا رغبة يسوع هذه: بأن “يكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك” (يو 17، 21).
147. لنتذكّر في النهاية، وعلى الرغم من أنّ الأمر يبدو واضحًا، أن القداسة هي انفتاح على التسامي، الذي نعبّر عنه في الصلاة والعبادة. القدّيس هو شخصٌ ذاتُ روح مُصلٍّ ويحتاج للتواصل مع الله. هو شخص لا يحتمل الاختناق في حضور هذا العالم المنغلق، ويتوق لله في خضمّ جهوده وبذل نفسه، ويخرجُ من ذاته في التسبيح ويوسّع حدوده في عبادة الربّ. أنا لا أؤمن بقداسة دون صلاة، حتى لو لم تكن لأوقات مطوّلة أو مُرفقة بمشاعر قويّة.
148. كان يوصي القدّيس يوحنا للصليب بأن “يبقوا دائمًا في حضرة الله، سواء حضرته الحقيقية أم الخياليّة أو عبر الاتّحاد به، على قدر ما يسمح به النشاط”[109]. في العمق، إنه الشوقُ لله الذي لا يقدر ألّا يظهر بشكل أو بآخر عبر حياتنا اليوميّة: “كن مجتهدًا في الصلاة دون إهمالها حتى في خضمّ الانشغالات الخارجيّة. سواء كنت تأكل أو تشرب، سواء كنت تتحدّث أو تتعامل مع العلمانيّين أو تقوم بشيء آخر، تشوّق لله دومًا واضعًا فيه محبّة قلبك”[110].
149. ومع ذلك، كي يكون هذا ممكنا، من الضروري أيضًا تكريس بعض الأوقات فقط لله، بوحدة معه. إن الصلاة بالنسبة للقدّيسة تريزا الأفيلية هي “علاقة صداقة حميمة، ومحادثة متكرّرة بوحدة مع الذي نعرف أنه يحبّنا”[111]. أودّ أن أصرّ على أن هذا ليس محصورًا بقلّة محظوظة، إنما هو للجميع، لأننا “جميعًا بحاجة إلى هذا الصمت المليء بحضرة المعبود”[112]. الصلاة المليئة بالثقة هي إجابة القلب الذي ينفتح على الله وجهًا لوجه، حيث تصمت كلّ الأصوات، كي نسمع صوت الربّ اللطيف الذي يُسمع صداه في الصمت.
150. في مثل هذا الصمت يصبح ممكنًا، على ضوء الروح القدس، تمييز سبل القداسة التي يقترحها علينا الربّ. وإلّا، ستكون قراراتنا مجرّد “زينة”، وبدلاً من أن تمجّد الإنجيل في حياتنا، فسوف تظلّله وتخنقه. من الضروري لكلّ تلميذ البقاء مع المعلّم، والاصغاء إليه، والتعلّم منه، والتعلّم دومًا. إن كنّا لا نصغي، فكلّ كلماتنا سوف تكون مجرّد ضجيج غير مُجدٍ.
151. لنتذكّر أن “التأمّل بوجه يسوع المائت والقائم من بين الأموات هو الذي يعيد تكوين بشريّتنا، حتى تلك الممزّقة من مشقّات الحياة، أو موصومة بالخطيئة. لا يجب أن نكبح قوّة وجه المسيح”[113]. وأسمحُ لنفسي بالتالي أن اسألك: هناك أوقات تقف فيها في حضرته بصمت، وتبقى معه دون استعجال، وتسمح له بأن ينظر إليك؟ هل تسمح لناره بأن تشعل قلبك؟ إن كنت لا تسمح له بتغذية المحبّة في قلبك والعطف، فلن تكون فيك نار، وكيف يمكنك هكذا أن تشعل قلوب الآخرين بشهادتك وبكلامك؟ وإن كنت لا تزال غير قادر، أمام وجه المسيح، بأن تسمح له بشفائك وبتحويلك، فأدخل إذا قلبَ الربّ، أدخل في جراحاته، لأن هناك تقيم الرحمة الإلهيّة[114].
152. لكنّي أرجو ألّا نفهم الصمت المصلّي كهروب يُنكر العالم الذي يحيط بنا. يروي “الحاجّ الروسي”، الذي كان يسير وهو في صلاة مستمرّة، أن تلك الصلاة لم تكن تفصله عن الواقع الخارجيّ: “إذا حدث أن صادفني شخص ما، كلّ هؤلاء الناس، دون تفرقة، كانوا يبدون لي أحبّاء كما لو كانوا من عائلتي […] لم أكن أشعر بذاك النور داخل نفسي وحسب، إنما كان يبدو لي أيضًا العالم الخارجي جميلًا وساحرًا”[115].
153. التاريخ نفسه لا يختفي. يجب على الصلاة، ولأنّها بالتحديد تتغذّى من عطيّة الله التي تنسكب في حياتنا، أن تكون دومًا غنيّة بالذاكرة. إن تذكر أعمال الله هو أساس خبرة العهد بين الله وشعبه. إذا كان الله قد أراد أن يدخل التاريخ، فعلى الصلاة أن تكون منسوجة بالذاكرة. ليس فقط بذاكرة الكلمة الموحاة، إنما أيضًا بذاكرة الحياة الشخصيّة وحياة الآخرين وما صنعه الربّ في كنيسته. إنها الذاكرة المليئة بالامتنان التي يتكلّم عنها القدّيس اغناطيوس دي لويولا في “التأمّل من أجل بلوغ المحبّة”، عندما يطلب منّا أن نستذكر كلّ الحسنات التي نلناها من الربّ. أنظر إلى تاريخك حين تصلّي وسوف تجد فيه الكثير من الرحمة[116]. وفي الوقت عينه سوف يغذّي هذا إدراكَك بأن الله يحملك في ذاكرته ولا ينساك أبدًا. من المنطقيّ بالتالي أن تطلب منه أن ينير حتى التفاصيل الصغيرة في حياتك، والتي لا تفوته.
154. التضرّع هو تعبير عن القلب الذي يثق بالله، والذي يعرف أنّه لا يستطيع الاتّكال على قدراته الذاتيّة. نجد في حياة شعب الله الأمين العديد من التضرّعات المليئة برِقّة مؤمنة وبثقةٍ عميقة. علينا ألا نقلل من قيمة الصلاة المتضرّعة، التي غالبًا ما تهدّئ قلبنا وتساعدنا على المضيّ قدمًا ونحن نجاهد برجاء. لصلاة التشفّع قيمة خاصة، لأنها فعل ثقةٍ بالله، وهي أيضًا تعبير عن محبّة للقريب. يفكّر البعض، بسبب الأحكام المسبقة الخاصة بالنزعة الروحانيّة، أن الصلاة يجب أن تنحصر بالتأمّل بالله، بدون أيّ تشتّت، كما لو أن أسماء الإخوة ووجوههم تمثل إزعاجًا ينبغي تفاديه. على العكس، فالواقع هو أنّ الصلاة ترضي الله وتقدّسنا بشكل أفضل إن كنّا من خلالها، مع التشفّع، نحاول أن نعيش الوصيّة المزدوجة التي تركها يسوع لنا. فالتشفّع يعبّر عن الالتزام الأخويّ مع الآخرين عندما نقدر أن نشملَ فيها، حياةَ الآخرين، وأكبر شدائدهم المثيرة الاضطراب وأجمل أحلامهم. وعمّن يتكرّس بسخاء للتشفّع، يمكن القول بكلمات الكتاب المقدّس: “هذا مُحِبُّ الإِخوَة، المُكثِرُ مِنَ الصَّلَواتِ لأَجلِ الشَّعْب” (2 مك 15، 14).
155. إن كنّا نعترف حقّا أن الله موجود، فلا يمكننا إلّا أن نعبده، وأحيانًا بصمت ملؤه الإعجاب، أو أن نرتّل له بتسابيح احتفاليّة. نعبّر بهذه الطريقة عمّا كان يعيشه الطوباوي شارل دي فوكو حين قال: “ما أن آمنت أنّه هناك إله، أدركت أنّني لا أستطيع أن أفعل سوى العيش فقط من أجله”[117]. هناك أيضًا في حياة الشعب المسافر، الكثيرُ من أعمالٍ بسيطة من العبادة البحتة، على سبيل المثال عندما “وقع نظر الحاجّ على صورة ترمز إلى عطف الله وقربه. فتوقّفت المحبّة وتأمّلت بالسرّ، وتذوّقَتْه بصمت”[118].
156. إن القراءة المصلّية لكلمة الله، والتي هي أحلَى مِنَ العَسَل (را. مز 119، 103) و”سيف ذو حدّين” (عب 4، 12)، تسمح لنا بأن نبقى في إصغاء للمعلّم كيما يكون مصباحًا لخطانا، ونورًا في سبيلنا (را. مز 119، 105). وكما ذكّرنا جيّدًا أساقفةُ الهند: “ان الالتزام بكلمة الله ليس مجرّد عمل من أعمال التقوى، أو أمر جميل وإنما اختياري. بل ينتمي إلى قلب الحياة المسيحيّة ذاتها وهويّتها. فالكلمة نفُسها لديها القدرة على تغيير الحياة”[119].
157. إن اللقاء بيسوع في الكتاب المقدّس يقودنا إلى الإفخارستيّا، حيث تبلغ هذه الكلمة نفسها ذروةَ فعاليّتها، لأنها الحضور الحقيقيّ للذي هو الكلمة الحيّة. وهنا ينال المطلق الأوحد أعظم عبادة يمكن تقديمها له في هذا العالم، لأن مَن يقدّم ذاته إنما هو المسيح. وعندما نناله في المناولة، نجدّد عهدنا معه ونسمح له بأن يحقّق فينا أكثر فأكثر عملَه التحويلي.
الجهاد الروحي والتيقّظ والتمييز
158. إن الحياة المسيحية هي جهاد دائم. تتطلّب قوّة وشجاعة لمقاومة مكائد الشيطان وللبشارة بالإنجيل. وهذا الجهاد هو رائع للغاية، لأنّه يسمح لنا بأن نبتهج كلّ مرّة ينتصر الربّ فيها في حياتنا.
159. ليست المسألةُ فقط مسألةَ جهاد ضدّ العالم والعقليّة الدنيويّة، التي تخدعنا، وتدهشنا، وتذهلنا، وتجعلنا دون المستوى، دون التزام ودون فرح. ولا تقتصر كذلك على مكافحة هشاشتنا وميولنا (كلّ منّا له ميوله: الكسل، والشهوة، والحسد، والغيرة، وهلّم جرا). بل هي أيضًا نضال مستمرّ ضدّ الشيطان، الذي هو أصل الشرّ. يسوع نفسه يبتهج لانتصاراتنا. كان يفرح عندما كان ينجح تلاميذه في إعلان بشارة الإنجيل، قاهرين تصدّي الشرّير، وكان يتهلّل: “كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق” (لو 10، 18).
160. لن نعترف بوجود الشيطان إن تشبثنا بالنظر إلى الحياة عبر معايير تجريبيّة ودون نظرة تطلّعية فائقة الطبيعة. فالقناعة نفسها بأن هذه القدرة الشرّيرة موجودة في وسطنا، هي ما يسمح لنا بأن نفهم سبب امتلاك الشرّ أحيانا الكثيرَ من القوّة التدميريّة. صحيح أن واضعي الكتاب المقدّس كان لديهم مفاهيم محدودة للتعبير عن بعض الوقائع وأنّه كان من الممكن، في زمن يسوع، أن يخلط المرء مثلا بين الصَرَع والمسّ الشيطاني. ولكن لا يجب أن يحملنا هذا الأمر إلى المبالغة في تسهيل الواقع فنؤكّد أن كلّ الحالات التي ترويها الأناجيل كانت أمراضًا نفسيّة وأن الشيطان في نهاية المطاف غير موجود ولا فاعِليّة له. إن وجوده مذكور في أوّل صفحة من الكتاب المقدّس، الذي ينتهي بانتصار الله على الشرير[120]. في الواقع، عندما ترك لنا يسوع صلاة “الآبانا” أراد أن ننهي صلاتنا سائلين الآب أن ينجّينا من الشرير. العبارة التي تُستخدم هنا لا تشير إلى الشرّ بالمطلق وترجمتها الدقيقة هي “الشرّير”. وهي تشير إلى كيان شخصيّ يعذّبنا. وقد علّمنا يسوع أن نطلب النجاة يوميّا كي لا تسيطر علينا قوّته.
161. علينا ألا نفكر بالتالي أنّه خرافة، أو تمثيل، أو رمز، أو صورة، أو فكرة[121]. إن خداعا كهذا يحملنا على التخفيض من يقظتنا، وإهمالنا لأنفسنا، وبقائنا عرضة له أكثر. فهو ليس بحاجة لأن يملكنا. إنما يُدخِل في قلبنا سمَّ الكراهية والحزن والحسد والرذائل. وهكذا، بينما نُضعِف دفاعنا، يستفيد هو من الوضع لتدمير حياتنا وأُسَرِنا وجماعاتنا، لأنّه “كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه” (1 بط 5، 8).
162. تدعونا كلمة الله بشكل واضح: “تَسلَّحوا بِسِلاحِ الله لِتَستَطيعوا مُقاوَمةَ مَكايدِ إِبليس” (أف 6، 11) و”اخمِدوا جَميعَ سِهامِ الشِّرِّيرِ المُشتَعِلَة” (أف 6، 16). ليست هذه بكلمات شعريّة، لأن مسيرتنا نحو القداسة أيضًا هي نضال مستمرّ. ومَن لم يشأ الاعتراف بهذا فسيتعرّض للفشل أو لأن يكون دون المستوى. وكي نقاوم الشرّ، نحن نملك الأسلحة القويّة التي يعطينا إياها الربّ: الإيمان الذي نعبّر عنه بالصلاة، والتأمّل في كلمة الله، والاحتفال بالقدّاس الإلهي، وعبادة القربان المقدّس، والتقرّب من سرّ المصالحة، وأعمال المحبّة، والحياة الجماعية، والعمل الإرسالي. وإن أهملنا أنفسنا فسوف تغرينا بكلّ سهولة وعود الشرّير الكاذبة، لأنه، كما كان يقول الكاهن القدّيس بروتشيرو: “ليس مهما إذا وعد إبليس بتحريركم، لا بل وبوضعكم وسط جميع خيراته، سواء كانت خيرات خادعة، أو كانت خيرات مسمومة؟”[122].
163. في هذه المسيرة، يشكّل نموّ الصلاح والنضج الروحي والارتقاء في المحبّة، الثقلَ الموازن في مواجهات الشرّ. لا أحد يستطيع المقاومة إذا اختار أن يتوقّف في طريق مسدود، وأن يكتفي بالقليل، وأن يمتنع عن الحلم بتقديم تفانٍ أجملَ للربّ. والأسوأ من ذلك هو إذا تغلّب عليه الشعور بالهزيمة، لأنّ “من ينطلق من دون ثقة فقد خسر مسبقًا نصف المعركة ودَفن مواهبه الخاصة. […]. الانتصار المسيحي هو دائمًا صليب، لكنّه صليب هو، في الوقت عينه، رايةُ ظَفَر نحملها بحنانٍ مجاهد ضدّ حملات الشرّ”[123].
164. مسيرةُ القداسة هي مصدرُ سلام وفرح يعطينا إيّاه الروح، ولكن يتطلّب منّا في الوقت عينه أن نُبقيَ على “مصابيحنا مشتعلة” (را. لو 12، 35) وأن نَبقى متنبّهين: “اِجتَنِبوا كُلَّ نَوعٍ لِلشَّرّ” (ا تس 5، 22)؛ “اسهروا” (را. متى 24، 42؛ مر 13، 35)؛ لا نَنامَنَّ (را. 1 تس 5، 6). لأن من لا يشعر بأنه قد خالف جديّا شريعة الله، قد ينجرف في نوع من الضياع أو السبات. وبما أنّهم لا يجدون شيئًا خطيرًا يلومون أنفسهم عليه، لا يشعرون بذاك الفتور الذي يستولي شيئا فشيئا على حياتهم الروحيّة وينتهي بهم الأمر للهلاك والفساد.
165. إن الفساد هو أسوأ من سقوط الخاطئ، لأنّها مسألة عمى مريح ومكتف ذاتيًّا، حيث يبدو كلّ شيء في النهاية جائزًا: الخداع، الافتراء، الأنانيّة والكثير من أشكال المرجعيّة الذاتيّة المتنكّرة، لأن “الشَّيطانُ نَفْسُه يَتَزَيَّا بِزِيِّ مَلاكِ النُّور” (2 قور 11، 14). هكذا أنهى سليمانُ آخر أيامه، بينما الخاطئ الكبير داود عرف كيف يتخطّى بؤسه. وقد حذّرنا يسوع، في أحد المقاطع، من هذه التجربة الغادرة التي تجعلنا ننجرف نحو الفساد: تكلّم عن شخص تحرّر من الشرّير وظنّ أن حياته قد أصبحت نقيّة، وانتهى به الأمر أن استولى عليها سبعةُ أرواٍح شرّيرة أُخر (را. لو 11، 24- 26). يستعملُ نصٌّ كتابيٌّ آخر صورةً قويّة: “عادَ الكَلْبُ إِلى قَيْئِه يَلحَسُه” (2 بط 2، 22؛ را. مثل 26، 11).
166. كيف نعرف إن كان أمرٌ ما هو من الروح القدس أو يأتي من روح العالم أو من روح الشرّير؟ الطريقة الوحيدة هي التمييز، الذي لا يتطلّب فقط قدرة جيّدة على التفكير وعلى الحسّ السليم، إنّه كذلك موهبة يجب أن نطلبها. وإذا طلبناها بثقة من الروح القدس، واجتهدنا في الوقت نفسه في تنميتها بالصلاة والتفكير والقراءة والمشورة الصالحة، يمكننا بالتأكيد أن ننمو في هذه القدرة الروحيّة.
167. لقد أصبح الاستعداد للتمييز في أيّامنا هذه أمرًا ضروريًّا بصورة خاصّة. فالحياة الحاليّة في الواقع تقدّم إمكانيّات هائلة من الأمور التي يمكننا القيام بها أو التي تُلهي، والعالم يقدّمها كما لو كانت كلّها مؤهّلة وصالحة. والجميع معرّض، ولكن بالأخصّ الشبيبة، لخطر “التنقّل” المستمرّ. فمن الممكن الانتقال بالتزامن، بين شاشتين أو ثلاثة، والتفاعل في الوقت نفسه مع سيناريوهات افتراضية مختلفة. دون حكمة التمييز، يمكننا أن نتحوّل بكلّ سهولة إلى دُمى ترضخ للميول الحاليّة.
168. ويتّضح بصورة خاصّة أن هذا هامٌ عندما يتأتّى جديدٌ في حياتنا الخاصّة، ويجب بالتالي التمييز إن كان هو الخمر الجديدة الآتية من الله أم جديدًا خادعًا من روح العالم أو من روح الشرّير. وما يحدث في مناسبات أخرى إنما هو العكس، لأنّ قوّة الشرّير تقودنا إلى عدم التغيير، إلى ترك الأمور على حالها، إلى اختيار الجمود والصلابة، فنمنع الروحَ بالتالي أن يعمل فينا. إننا أحرار، بحرّية يسوع، لكنّه يدعونا لنفحص ما في داخلنا –رغبات، قلقا، مخاوف، تطلّعات- وما يحدث خارجنا –”علامات الأزمنة”- كي ندرك طرق ملء الحرّية: “اختَبِروا كُلَّ شَيءٍ وتَمسَّكوا بِالحَسَن” (1 تس 5، 21).
169. التمييز هو ضروريّ ليس فقط في الأوقات غير الاعتيادية، أو عندما نكون بحاجة لحلّ مشاكل كبيرة، أو حين يجب اتّخاذ قرار حاسم. إنه أداة نضال من أجل اتّباع الربّ بشكل أفضل. ويفيدنا على الدوام: كيما نستطيع أن ندرك أوقات الله ونعمته، كيما لا نهدر إلهام الربّ، وكيما لا نتخلّى عن دعوته لننمو. وغالبًا ما يظهر هذا في الأمور الصغيرة، في ما يبدو تافهًا، لأنّ الأناة تظهر في الأمور البسيطة واليوميّة[124]. إنها مسألة عدم وضع حدود للعظمة وللأفضل وللأجمل، ولكن التركيز في الوقت عينه على ما هو صغير، على عمل اليوم. لذا، أطلب من جميع المسيحيّين ألّا يغفلوا عن القيام يوميّا، وهم في حوار مع الربّ الذي يحبّنا، بفحص ضميرٍ صادق. فالتمييز يقودنا في الوقت عينه، إلى إدراك الوسائل الملموسة التي يهيؤها الربّ، بتدبير محبّته السرّي، كيلا نتوقّف فقط عند النوايا الحسنة.
170. صحيح أن التمييز الروحيّ لا يستبعدُ مساهمات الحكمة البشريّة الوجوديّة والنفسيّة والاجتماعيّة أو الأخلاقيّة. ولكنه يسمو عليها. ولا تكفيه حتى قواعد الكنيسة الحكيمة. لنتذكّر دومًا أن التمييز هو عطيّة. وحتى لو شملَ العقلَ والحكمةَ فهو يتخطاهما، لأنها مسألة رؤية سرّ التدبير الفريد والذي لا يتكرّر، الذي أعدّه الله لكلّ منّا والذي يتحقّق في أكثر السياقات والحدود تنوّعًا. وما هو على المحكّ هنا ليس الراحة الزمنيّة وحسب، أو ما يُرضي من إنجازاتٍ مفيدة، أو الرغبة في راحة الضمير. ما هو على المحكّ إنما هو معنى حياتي أمام الآب الذي يعرفني ويحبّني، المعنى الحقّ، الذي من أجله أقدر أن أهب حياتي، والذي ما من أحد يعرفه أكثر منه. التمييز باختصار، يقود إلى مصدر الحياة نفسه الذي لا يموت، أي “أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح” (يو 17، 3). وهذا لا يتطلّب قدرات خاصّة، ولا ينحصر في الأشخاص الأكثر ذكاءً أو علمًا، فالآب يكشف عن ذاته للمتواضعين بكلّ سرور (را. متى 11، 25).
171. حتى ولو كلّمنا الربّ بأساليب مختلفة للغاية أثناء عملنا، عبر الآخرين وفي كلّ وقت، فليس بإمكاننا إغفال صمت الصلاة المطوّلة كي ندرك بشكل أفضل تلك اللغة، وكي نفهم المعنى الحقيقي للإلهام الذي نعتقد بأنّنا نلناه، وكي نهدّئ القلق ونعيد بناء حياتنا الخاصّة على ضوء الله. ويمكننا بهذه الطريقة أن نسمح بولادة ذاك الجوهر الجديد الذي ينبع من الحياة التي ينيرها الروح.
172. ولكن قد يحدث لنا، في الصلاة نفسها، أن نتجنّب الاستعدادَ لمواجهة حرّية الروح الذي يعمل ما يريد. يجب التذكّر بأن التمييز المصلّي يتطلّب الانطلاق من الاستعداد للإصغاء: للربّ، وللآخرين، وللواقع نفسه الذي يسترعي دومًا انتباهنا بطرقٍ جديدة. وحده الشخص المستعدّ للإصغاء، لديه الحرّية في التخلّي عن وجهة نظره الجزئيّة وغير الكافية، وعن عاداته وعن مشاريعه. لذا فهو حقًّا مستعدّ لقبول دعوةٍ تهدّم ضماناته ولكنّها تقوده إلى حياة أفضل، لأنه لا يكفي أن تسير الأمور على أحسن وجه، وأن يكون كلّ شيء على ما يرام. فربّما الله يقدّم لنا شيئًا إضافيًّا، ونحن، بتشتّتنا الكسول، لا نتعرّف عليه.
173. فمثل هذا الإصغاء يعني بالطبع الطاعة للإنجيل باعتباره المعيار النهائي، لكن أيضًا لسلطة الكنيسة التعليميّة التي تحافظ عليه، بمحاولةٍ لإيجاد، في كنزِ الكنيسة، ما قد يكون أكثر خصبًا لانيِّة الخلاص. هي ليست مسألة تطبيق وصفات أو تكرار للماضي، لأن الحلولَ نفسها ليست صالحة في جميع الظروف، وما كان مفيدًا في إطارٍ ما قد لا يكون مفيدًا في إطارٍ آخر. تمييز الأرواح يحرّرنا من الجمود الذي لا مكان له إزاء الآنيّة السرمديّة للربّ القائم من بين الأموات. وحده الروح يعرف كيف يدخل جراحات الواقع الحالكة ويأخذ بعين الاعتبار جميع ظلاله، كيما يظهر جديدُ الإنجيل بنور آخر.
174. هناك شرط أساسيّ للنموّ في التمييز وهو أن نمرّن أنفسنا على صبرِ الله وأوقاته، التي هي مختلفة عن صبرنا وأوقاتنا. فهو لا “يُنزِل النار على غير الأمناء” (را. لو 9، 54)، ولا يسمح للغيورين بأن “يجمعوا الزُّؤان” الذي ينمو مع القمح (را. متى 13، 29). هذا يتطلّب أيضًا السخاء، لأن “السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ” (رسل 20، 35). ولا نقوم بالتمييز لمعرفة ما يمكننا أن ننال من هذه الحياة، إنما لندرك كيف يمكننا أن نحقّق، بشكل أفضل، الرسالة التي عُهِدَت إلينا في المعموديّة، وهذا يعني وجود استعداد للتخلّي عن الكثير، وصولًا حتى إلى إعطاء كلّ شيء. لأنّ السعادة هي متناقضة وتمنحنا أفضل الخبرات عندما نقبل ذاك المنطق السرّي الذي ليس من هذا العالم. كما كان يقول القدّيس بونافنتورا وهو يشير إلى الصليب: “هذا هو منطقنا”[125]. إذا تبنّى أحدٌ هذه الديناميكيّة، فلن يدع ضميره يتخدّر وسوف ينفتح بسخاء على التمييز.
175. عندما نتفحّص في حضرة الله طرق الحياة، فما من زاوية تبقى مُستبعدة. ويمكننا، في كلّ جوانب حياتنا، أن نستمرّ بالنموّ وأن نقدّم لله شيئًا إضافيًّا، حتى في تلك التي نختبر فيها الصعوبات الأكبر. ولكن يجب أن نطلب من الروح القدس أن يحرّرنا وأن يطرد ذاك الخوف الذي يحملنا على منعه من الدخول في بعض جوانب حياتنا. فالذي يطلب منّا كلّ شيء، يهبنا أيضًا كلّ شيء، ولا يريد أن يقيم فينا كيما يشوّهنا أو يضعفنا، بل كي يهبنا الملء. وهذا يرينا أن التمييز ليس بتحليل ذاتيّ متعجرف، ليس استبطانًا أنانيًّا، بل خروج حقيقي من ذواتنا باتجاه سرّ الله، الذي يساعدنا على عيش الرسالة التي دعانا إليها لصالح خير الإخوة.
* * *
176. أرغب بأن تتوّج مريمُ هذه التأمّلات، لأنّه ما مِن أحدٍ قد عاش تطويبات يسوع كما عاشتها هي. فهي التي كانت تتهلل من الفرح في حضرة الله، والتي كانت تحفظ كلّ شيء في قلبها، والتي سمحت للسيف بأن ينفذَ في نفسها. هي القدّيسة بين القدّيسين، والمباركة، هي التي تُرينا دربَ القداسة وترافقنا. وهي لا تقبل، حين نَقَع، بأن نبقى ساقطين أرضًا، بل تحملنا أحيانًا على ذراعيها دون أن تديننا. إن التحدّث معها يعزّينا، ويحرّرنا ويقدّسنا. أمّنا لا تحتاج للكثير من الكلام، ولا تحتاج لأن نجتهد في شرح ما يحدث لنا. يكفي أن نهمس أيضًا وأيضًا: “السلام عليك يا مريم…”.
177. أتمنّى أن تكون هذه الصفحات مفيدة كيما تتكرّس الكنيسة بأكملها لتعزيز الشوق إلى القداسة. لنطلب أن يسكب الروح القدس فينا رغبة عميقة بأن نكون قدّيسين لمجد الله الأعظم ولنشجّع بعضنا البعض في هذا الصدد. فنتشارك هكذا بسعادة لا يقدر العالم أن ينزعها منّا.
أعطي في روما، قرب القدّيس بطرس، في 19 مارس/آذار، عيد القدّيس يوسف، من السنة 2018، الخامسة من حبريّتي.
1 بندكتس السادس عشر، عظة بدأ الحبريّة (۲٤ أبريل/نيسان ۲۰۰٥): أعمال الكرسي الرسولي ۹۷ (۲۰۰٥)، ص ۷۰۸.
2 في جميع الأحوال يُفترض أن يكون هناك شهرة قداسة وعيش للفضائل المسيحيّة، أقلّه بدرجة عاديّة: را. الرسالة الرسولية بشكل براءة بابويةمحبّة أعظم (١١يوليو/تموز ۲۰١۷)، مادّة 2، أوسرفاتوري رومانو، 12 يوليو/تموز 2017، ص 8.
3المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة، نور الأمم عدد ۹.
4 را. جوزيف ماليغ، الحجارة السوداء. الفئات المتوسِّطة للخلاص، باريس، ١۹٥۸.
[5]المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة، نور الأمم عدد ١۲.
[6]الحياة الخفيّة والظهور، في الأعمال الكاملةXI، ص 145.
[7]القدّيس يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسوليّة نحو ألفيّة جديدة (٦ يناير/كانون الثاني ۲۰۰١)، عدد ٥٦: أعمال الكرسي الرسولي ۹۳ (۲۰۰١)، ص ۳۰۷.
[8] الرسالة الرسوليّة إطلالة الألف الثالث (١۰ نوفمبر/تشرين الثاني ١۹۹٤)، عدد ۳۷: أعمال الكرسي الرسولي ۸۷ (١۹۹٥)، ص ۲۹.
[9]عظة بمناسبة التذكار المسكوني لشهود الإيمان في القرن العشرين (۷ مايو/أيار ۲۰۰۰): أعمال الكرسي الرسولي ۹۲ (۲۰۰۰)، عدد 5، ص ٦۸۰- ٦۸۱.
[10]الدستور العقائدي في الكنيسة نور الأمم عدد ١١.
[11] را. هانس أورس فون بالتازار، لاهوت وقداسة، مجلّة كومونيو العدد الرابع، سنة ۸۷، ص ٤۸۹.
[12]نشيد روحي، الطبعة الثانية، تمهيد، ۲: الأعمال، روما 1979، 490.
[13] را. ن. م.، 14- 15، ۲: ص. 575.
[14]را. المقابلة العامة، 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2014: تعاليم II، 2 (2014)، 555.
[15]القديس فرنسيس دي سالس، أطروحة حول محبّة الله، الفصل الثامن، عدد ١١: الأعمال الكاملة، IV، روما 2011، 468.
[16]خمسة أرغفة وسمكتان. من معاناة السجن، شهادة إيمان فرحة، ميلانو 2014، 20.
[17]مجلس أساقفة نيوزيلندا الكاثوليك، الحب الشافي، ١ يناير/كانون الثاني ١۹۸۸.
[18]را. الرياضات الروحيّة، ١۰۲- ۳١۲.
[19]التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد ٥۱٥.
[20] ن. م.، ٥۱٦.
[21] ن. م.، ٥۱۷.
[22] ن. م.، ٥۱۸.
[23] ن. م.، ٥۲١.
[24] بندكتس السادس عشر، مقابلة عامة 13 أبريل/نيسان ۲۰١١): تعاليم، VII (2011)، 451.
[25]ن. م.: 450.
[26]را. هانس أورس فون بالتازار، لاهوت وقداسة، مجلّة كومونيو العدد الرابع، سنة ۸۷، ص ٤۸٦- ٤۹۳.
[27] خافيير زوبيري، الطبيعة والتاريخ والله، مدريد ١۹۹۹(3)، ص ٤۲۷.
[28]كارلو مارتيني، اعترافات بطرس، تشينيزيللو بالسامو 2017، 69.
[29] من الأهميّة بمكان أن نميِّز بين هذه التسلية السطحيّة وثقافة الترفيه السليمة، التي تفتحنا على الآخر وعلى الواقع بروح مستعدٍّ وتأمُّلي.
[30]القديس يوحنا بولس الثاني، عظة خلال قداس إعلان القداسة (١ أكتوبر/تشرين الأوّل ۲۰۰۰)، 5: أعمال الكرسي الرسولي ۹۲ (۲۰۰۰)، ص ۸٥۲.
[31]مجلس الأساقفة الإقليمي لأفريقيا الغربيّة، رسالة راعوية في نهاية الجمعية العامة الثانية، ۲۹ فبراير/شباط ۲۰١٦، عدد ۲.
[32]المرأة الفقيرة، ريجو إيميليا ١۹۷۸، الجزء الثاني، ص 375.
[33]را. مجمع العقيدة والإيمان، الرسالة حَسُنَ لدى الله (Placuit Deo) الموجّهة إلى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية حول بعض جوانب الخلاص المسيحي (22 فبراير/شباط 2018)، 4: أوسرفاتوري رومانو، 2 مارس/آذار 2018، ص 4- 5: “كلّ من الفرديّة الخاصة بالبلاجية-الجديدة والازدراء بالجسد الخاص بالغنوصية-الجديدة، يشوّه الإيمان بالمسيح، المخلّص الأوحد والعالمي”. نجد في هذه الوثيقة الأسس العقائديّة لفهم الخلاص المسيحي في إشارة إلى انجرافات الغنوصية-الجديدة والبيلاجية-الجديدة الحالية.
[34] الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (۲٤ نوفمبر/تشرين الثاني ۲۰١۳)، عدد ۹٤: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۰٦۰.
[35] ن. م.: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۰٥۹.
[36] عظة خلال القداس الإلهي في بيت القدّيسة مارتا، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2016: أوسرفاتوري رومانو، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ص 8.
[37] كما يعلّم القدّيس بونافنتورا، “من الضروري التخلّي عن جميع عمليّات التفكير، وأن تٌنقل ذروة المشاعر بالكامل وتتحوّل في الله […] وبما أن الطبيعة لا تستطيع أي شيء للحصول على هذا، والعلم لا يقدر إلّا القليل، يجب بالتالي إعطاء أهميّة قليلة للاستقصاء والكثير لمسحة الروح؛ قليلًا للسان والكثير للفرح الداخلي؛ قليلًا للكلمات والكتب وكلّ شيء لمواهب الله، أي للروح القدس؛ قليلًا أو لا شيء للمخلوقات وكلّ شيء للجوهر الخالق، للآب، وللابن وللروح القدس”(مسار العقل في الله، VII، 4-5: أعمال القديس بونافنتورا، V/1، روما 1993، 567).
[38]الرسالة إلى رئيس الجامعة الكاثوليكيّة الحبريّة في الأرجنتين بمناسبة المئويّة الأولى على تأسيس كلِّية اللاهوت (۳ مارس/آذار ۲۰۱٥):أوسرفاتوري رومانو، 9- 10 مارس/آذار 2015، ص 6.
[39]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (۲٤ نوفمبر/تشرين الثاني ۲۰۱۳)، عدد ٤۰: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۰۳۷.
[40]رسالة مصوّرة للمؤتمر الدولي للاهوت في الجامعة الكاثوليكية الحبريّة في الأرجنتين (من ۱ إلى ۳ سبتمبر/أيلول ۲۰۱٥): أعمال الكرسي الرسولي ۱۰۷ (۲۰۱٥)، ص ۹۸۰.
[41] الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الحياة المكرّسة (۲٥ مارس/آذار ۱۹۹٦)، عدد ۳۸: أعمال الكرسي الرسولي ۸۸ (۱۹۹٦)، ص ٤١۲.
[42]الرسالة إلى رئيس الجامعة الكاثوليكيّة الحبريّة في الأرجنتين بمناسبة المئويّة الأولى على تأسيس كلِّية اللاهوت (۳ مارس/آذار ۲۰۱٥):أوسرفاتوري رومانو، 9- 10 مارس/آذار 2015، ص 6.
[43]رسالة إلى الأخ أنطونيوس، 2: مصادر فرنسيسكانية 251.
[44]مواهب الروح القدس السبع، أعداد ۹، ۱٥.
[45] ن.م.، تعليق على الكتاب الرابع من الآراء، ۳۷، ۱، ۳- ٦.
[46] الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (۲٤ نوفمبر/تشرين الثاني ۲۰۱۳)، عدد ۹٤: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۰٥۹.
[47]را. القديس بونافينتورا من بانيوريجو، حول أجنحة السيرافيم الستة، ۳، ۸: “Non omnes omnia possunt”؛ يندرج في خطّ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد ۱۷۳٥.
[48] را. القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتيّة، البحث الأوّل والثاني، ۱۰۹، ۹، ۱: “بالتالي فالنعمة تتضمّن نقصًا معيّنًا لأنّها لا تشفي الإنسان بالكامل”.
[49]عن الطبيعة والنعمة ٤۳، ٥۰: كتابات الآباء اللاتين 44، 271.
[50]الإعترافات ۱۰، ۲۹، ٤۰: كتابات الآباء اللاتين 32، 796.
[51] را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (۲٤ نوفمبر/تشرين الثاني ۲۰۱۳)، عدد ٤٤: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۰۳۸.
[52]إن النعمة في مفهوم الإيمان المسيحي، تسبق وترافق وتتبع كلّ أعمالنا (را. مجمع ترنتو، مرسوم حول التبرير، الجلسة السادسة، الفصل الخامس: د. ه. (Denzinger-A. Schönmetzer)، عدد 1525).
[53]عظة حول الرسالة إلى أهل روما ۹، ۱۱؛ كتابات الآباء اليونانيين ٦۰، ٤۷۰.
[54]عظة حول التواضع، كتابات الآباء اليونانيين ۳١، ٥۳۰.
[55] القانون الكنسي عدد 4: د. ه. (Denzinger-A. Schönmetzer) ۳۷٤.
[56] الجلسة السادسة، المرسوم حول التبرير، الفصل الثامن: د. ه. (Denzinger-A. Schönmetzer) 1532.
[57] العدد ١۹۹۸.
[58] ن. م.، ۲۰۰۷.
[59] القدّيس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتيّة، البحث الأوّل والثاني، ١١٤، ٥.
[60] القدّيسة تريزيا الطفل يسوع، فعل تقدمة الذات للحب الرحيم (الصلاة السادسة)، في كتاب الأعمال الكاملة، روما 1997، ص 943.
[61] لوسيو خيرا، حول سرِّ الفقير، في كتاب ب. غريلو-ل. خيرا- أ. دوماس، الفقير، بوينوس آيرس ١۹٦۲، ١۰۳.
[62] هذه هي العقيدة الكاثوليكيّة حول “الاستحقاق” الذي يتبع التبرير: إنها مسألة تعاون المُبرَّر من أجل النموِّ في حياة النعمة (را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، ۲۰١۰). مع ذلك فإنَّ هذا التعاون لا يسمح بأي شكل كان بأن يصبح التبرير والصداقة مع الله غرض استحقاق بشريّ.
[63] را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (۲٤ نوفمبر/تشرين الثاني ۲۰۱۳)، عدد ۹٥: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۰٦۰.
[64] را. الخلاصة اللاهوتيّة، البحث الأوّل والثاني، السؤال ۱۰۷، المادة ٤.
[65]عظة بمناسبة يوبيل الأشخاص المهمشة اجتماعيا، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2016: أوسرفاتوري رومانو، 14- 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ص 8.
[66] را. عظات قدّاس الصباح في بيت القدّيسة مرتا، 9 يونيو/حزيران 2014: أوسيرفاتورو رومانو، 10 يونيو/حزيران 2014، ص 8.
[67] ترتيب التطويبة الثانية والثالثة يختلف بحسب الترجمات الحرفيّة من لغة إلى أخرى.
[68]الرياضة الروحيّة، عدد ۲۳، روما 1984(6)، 58- 59.
[69]المخطوط ت، 12: الأعمال الكاملة، روما 1997، 247.
[70] إنَّ الكنيسة، ومنذ زمن الآباء، تعطي قيمة كبيرة لعطيّة الدموع، كما نجده أيضًا في صلاة رائعة “لطلب ندامة القلب”: “أيها الإله الكليُّ القدرة والوديع، يا من أخرجتَ من الصخرة للشعب العطشان ينبوع ماء حي، أخرج من قساوة قلوبنا دموع ندامة لكي وإذ نبكي خطايانا ننال برحمتك الغفران”. (كتاب القداس الروماني، لسنة 1962، ص. [110]).
[71]التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد ۱۷۸۹؛ را. عدد ۱۹۷۰.
[72] ن. م.، عدد ۱۷۸۷.
[73] إن الافتراء والاغتياب هما كأعمال الإرهاب: تُرمى القُنبلة وتُدمِّر ويبقى المُعتدي سعيدًا وهادئًا. إنّه أمر مختلف جدًّا عن نُبلِ من يقترب للتحاور وجهًا لوجه بصدق مفكِّرًا بخير الآخر.
[74] قد يكون ضروريًّا، في بعض المناسبات، أن نتحاور حول صعوبات أحد الإخوة. قد يجوز أن تُنقل في هذه الحالات رواية بدلاً من الوقائع الموضوعيّة لأنَّ العاطفة تشوِّه الواقع الملموس للحدث وتحوِّله إلى قصّة وتنقل هذه القصّة دون موضوعيّة، فيدمَّر هكذا الواقع ولا تُحترم حقيقة الآخر.
[75] الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (۲٤ نوفمبر/تشرين الثاني ۲۰۱۳)، عدد ۲۱۸: أعمال الكرسي الرسولي ۱۰٥ (۲۰۱۳)، ص ۱۱۱۰.
[76] ن. م.، عدد ۲۳۹: ص ١١١٦.
[77] ن. م.، عدد ۲۲۷: ص ۱۱۱۲.
[78]الرسالة العامة السنة المئة (1 مايو/أيار 1991)، عدد 41: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص 844-845.
[79]الرسالة الرسولية نحو ألفية جديدة (6 يناير/كانون الثاني 2001)، عدد 49: أعمال الكرسي الرسولي 93 (2001)، 302.
[80] ن. م.
[81] المرسوم وجه الرحمة (11 أبريل/نيسان 2015)، عدد 12: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 407.
[82]فلنتذكّر ردّ فعل السامري الصالح إزاء الرجل الذي تركه اللصوص بين حيّ وميت على هامش الطريق (را. لو 10، 30- 37).
[83] مجلس أساقفة كندا الكاثوليك. لجنة الشؤون الاجتماعية، رسالة مفتوحة إلى أعضاء البرلمان، الخير العام أو الإقصاء: اختيار للكنديين (1 فبراير/شباط 2001)، عدد 9.
[84] المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وفقا لتعاليم الكنيسة الثابتة، علَّم أن الكائن البشري “هو مقدّس دائمًا، منذ الحبل به، في جميع مراحل حياته، حتى موته الطبيعي وبعد الموت”، وأنه يجب حماية حياته “منذ الحبل بها، في كافة مراحلها، حتى الموت الطبيعي” (وثيقة أباريسيدا 29 يونيو/حزيران 2007، 388؛ 464).
[85]القواعد 53، 1: كتابات الآباء اللاتين 66، 749.
[86] ن. م. 53، 7: كتابات الآباء اللاتين 66، 750.
[87] ن. م. 53، 15: كتابات الآباء اللاتين 66، 751.
[88] المرسوم وجه الرحمة (11 أبريل/نيسان 2015)، عدد 9: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 405.
[89]ن. م.، عدد 10: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 406.
[90] الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحب (19 مارس/آذار 2016)، عدد 311: أعمال الكرسي الرسولي 108 (2016)، 439.
[91]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (24 أكتوبر/تشرين الثاني 2013) عدد 197: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1103.
[92]را. الخلاصة اللاهوتية الجزء الثاني القسم الثاني، البحث 30، فصل 4.
[93]ن. م.، 1.
[94]المسيح والفقراء، مدريد 1981، 37ـ- 38.
[95]هناك العديد من أشكال التنمر (bullismo) التي، في حين تظهر أنيقة ومحتَرِمة وحتى روحانيّة للغاية، تسبّب الكثير من المعاناة في احترام الذات لدى الآخرين.
[96]تنبيهات، 13: الأعمال، روما 1979 (4)، ص. 1070.
[97]نفس المرجع.
[98]الرحمة الإلهيةّ في نفسي. يوميات الطوباوية الأخت فوستينا كوفالسكا، حاضرة الفاتيكان 1996، ص. 132.
[99] القدّيس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتيّة، البحث الأوّل والثاني، السؤال 70، المادّة 3.
[100] الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013)، 6: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1221.
[101]أوصي بتلاوة الصلاة المنسوبة إلى القدّيس توماس مور: “أعطني، يا ربّ، هضم جيد، وأيضًا شيئا لأهضمه. أعطني صحّة الجسد، مع المزاج الجيّد اللازم للحفاظ عليها. أعطني، يا ربّ، روحًا مقدّسة تعرف كيف تقدّر ما هو صالح ونقيّ، ولا تخاف إزاء الخطيئة، بل تجد طريقة لوضع الأمور في نصابها الصحيح. أعطني روحًا لا تعرف الملل، والتذّمر، والتنهّدات، والتأوّه، ولا تسمح لي بالحزن بشكل مفرط على هذا الشيء المرهِق جدًّا المُسمّى “أنا”. أعطني، يا ربّ، روح الدعابة. أعطني النعمة لفهم المزاح، حتى أتمكّن من الحصول على بعض الفرح في حياتي وإيصاله إلى الآخرين. آمين”.
[102]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحب (19 مارس/آذار 2016)، 110: أعمال الكرسي الرسولي 108 (2016)، ص. 354.
[103]الإرشاد الرسولي إعلان الإنجيل (8 ديسمبر/كانون الأول 1975)، 80: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)، 73. من المثير للاهتمام الملاحظة أنّه في هذا النصّ، يَربط الطوباوي بولس السادس بين الفرح والـ parresia. كما وأنّه يأسف على “غياب الفرح والرجاء”، ويشيد بـ “فرح التبشير اللطيف والمعزّي” والذي “يرتبط باندفاع داخلي لا يستطيع أحد ولا أي شيء إطفاءه”، حتى لا يستقبل العالم الإنجيل “من مبشّرين حزينين ومحبطين”. أثناء يوبيل السنة المقدّسة لعام 1975، كرّس بولسُ السادس الإرشاد الرسولي افرحوا بالربّ (9 مايو/أيار 1975) للفرح.
[104]تنبيهات، 15: الأعمال، روما 1979(4)، 1072.
[105] القدّيس يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الحياة المكرسة (25 مارس/آذار 1996)، 42: أعمال الكرسي الرسولي 88 (1996)، 416.
[106]الإعترافات، IX، 10، 23- 25: كتابات الآباء اللاتين 32، 773- 775.
[107]أذكر بطريقة خاصة الكلمات الثلاث الرئيسيّة “أتسمح لي، شكرًا، أنا آسف”، لأن “الكلمات المناسبة، إذا قيلت في الوقت المناسب، تحمي الحبّ وتغذّيه يومًا بعد يوم”. الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، فرح الحبّ، 19 مارس/آذار 2016، 133: أعمال الكرسي الرسولي 108 (2016)، 363.
[108]القدّيسة تريزيا الطفل يسوع، مخطوط ت، 29 – 30: الأعمال الكاملة، روما 1997، 269.
[109]درجات الكمال، 2: الأعمال، روما 1979 (4)، 1079.
[110]نفس الكاتب، نصائح لبلوغ الكمال، 9: الأعمال المذكورة، 1078.
[111]حياة القديسة تريزيا الطفل يسوع كتبتها بنفسها، 8، 5: الأعمال، روما 1981، 95.
[112] القدّيس يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسولية نور الشرق (2 مايو/أيار 1995)، 16: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، 762.
[113]كلمة البابا إلى المؤتمر الوطني الخامس للكنيسة الإيطالية، فلورانس، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2015: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 1284.
[114]را. القدّيس برنار دي كيارافالّي، خِطَب حول نشيد الأناشيد 61، 3- 5: كتابات الآباء اللاتين 183، 1071- 1073.
[115]حكايات حاجّ روسي، ميلانو 1979(3)، 41؛ 129.
[116]را. رياضات روحية، 230 – 237.
[117]رسالة إلى هنري دي كاستري، 14 أغسطس/آب 1901: شارل دي فوكو، الأعمال الروحية، مقتطفات، روما 1983(5)، 623.
[118]المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وثيقة أباريسيدا (29 يونيو/حزيران 2007)، 259.
[119] مجلس الأساقفة الكاثوليك في الهند، الإعلان الختامي للجمعية العامة الواحدة والعشرين (18 فبراير/شباط 2009)، 3. 2.
[120] را عظة خلال القداس في بيت القديسة مارتا، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2013؛ أوسرفاتوري رومانو، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2013، ص. 12.
[121] را. بولس السادس، تعليم خلال المقابلة العامة يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1972: تعاليم X [1972]، 1168 – 1170: “إن إحدى أكبر الاحتياجات هي حماية النفس من هذا الشرّ، الذي نسمّيه الشيطان. […] ليس الشرّ مجرّد نقص، بل كفاءة، كائن حيّ، روحاني، منحرف ومُضِلّ. واقع رهيب. غامض ومخيف. ويخرج عن إطار التعليم الكتابي والكنسي كلّ مَن يرفض الاعتراف بوجوده؛ أو مَن يجعل منه مبدأ في حدّ ذاته، لا يستمدّ وجوده من الله مثل كلّ مخلوق؛ أو يشرحه كحقيقة زائفة، وتصوّر مفهومي وخيالي للأسباب المجهولة لأمراضنا”.
[122] القدّيس خوسي غابريال ديل روزاريو بروتشيرو، عظة الأعلام، مجلس أساقفة الأرجنتين، العلاج بروكيرو. عظات وخطب، بوينس أيريس 1999، 71.
[123] الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل (24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013)، 85: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1056.
[124] نجد على قبر القدّيس اغناطيوس دي لويولا المرثيّة المكتوبة الحكيمة التالية: «Non coerceri a maximo, contineri tamen a minimo divinum est»(ما هو إلهيّ، لا يمكن حدّه بأكبر منه، لكنّه يكمن في الأمور الأصغر).
[125]مجموعة خطب 1، 30.
* * *
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana