يعود الفعل “يرى”، في إنجيل اليوم، عدّة مرّات: “فَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ” (يو 20، 20)؛ ثمّ قالوا لتوما: “رأَينا الرَّبّ” (آية 25). لكن الإنجيل لا يصف كيف رأوه، لا يصف القائم من الموت، لكنه يشير فقط إلى أحد التفاصيل: “أَراهم يَدَيهِ وجَنبَه” (آية 20). وكأنه يريد أن يقول لنا إن التلاميذ تعرّفوا على يسوع بهذه الطريقة: من خلال جراحاته. وحدث الأمر نفسه مع توما: هو أيضًا أراد أن يرى “أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ” (آية 25) وبعد أن رأى آمن (آية 27).
علينا أن نشكر توما بالرغم من عدم إيمانه، لأنّه لم يكتفِ بالسماع من الآخرين أن يسوع حيّ، ولا حتى أن يراه في الجسد، إنما أراد أن يرى من الداخل، أن يلمس بيده جراحات يسوع، علامات محبّته. الإنجيل يسمّي توما التَّوأَم (آية 24)، وهو حقّا أخونا التوأم. لأنّه لا يكفي، بالنسبة لنا أيضًا، أن نعرف أن الله موجود: فإلهٌ قائم من الموت ولكن بعيد، لا يملأ حياتنا؛ إلهٌ بعيد لا يجذبنا، مهما كان بارًّا وقدّيسًا. لا، نحن أيضًا بحاجة لأن “نرى الله”، وأن نلمس بيدنا بأنه قام، قام من أجلنا.
كيف يمكننا أن نراه؟ على مثال التلاميذ يمكننا أن نراه: من خلال جراحاته. إنهم قد فهموا إذ نظروا إليها وعرفوا أنه لم يحبّهم على سبيل المزاح بل أنه سامحهم بالرغم من أن بعضًا منهم قد أنكروه أو تركوه. الدخول في جراحاته يعني التأمّل بمحبّته اللامحدودة النابعة من قلبه. هذا هو الطريق. يعني أن نفهم أن قلبه يخفق من أجلي، ومن أجلك، ومن أجل كلّ واحد منّا. أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يمكننا قول واعتبار أنفسنا مسيحيّين، والتحدّث عن العديد من قيم الإيمان الجميلة، ولكننا بحاجة، كتلاميذ، إلى أن نرى يسوع لامسين محبته. بهذه الطريقة فقط ندخل قلب الإيمان، وكتلاميذ، نجد سلامًا وفرحًا (را. آيات 19- 20) أقوى من أيّ شكّ.
لقد هتف توما، بعد أن رأى جراحات الربّ: “ربّي وإلهي!” (آية 28). أودّ هنا أن ألفت انتباهكم إلى صيغة المَلَكيّة التي يكرّرها توما: ربّي، إلهي. إنها صفة مَلَكيّة، وإن امعنّا فيها، قد يبدو لنا من غير المناسب أن ننسبها لله: كيف يمكن لله أن يكون خاص بي؟ كيف يمكنني أن أملك القدير؟ في الواقع، إذ نقول إلهي نحن لا نجدّف، إنما نكرّم رحمته، لأنّه هو الذي أراد أن “يكون لنا”. وكما في قصّة حبّ، نقول له: “قد صرت إنسانا من أجلي، متّ وقمت من أجلي، بالتالي لست إلهًا وحسب؛ بل أنت إلهي، أنت حياتي. وجدت فيك الحبّ الذي أبحث عنه وأكثر من ذلك بكثير، كما لم أتخيّله أبدًا”.
إن كون الله “لنا” لا يجعله يشعر بالإهانة، لأن المحبّة تتطلّب الألفة، والرحمة تتطلّب الثقة. قال الله في بداية الوصايا العشر: “أنا هو الربّ ألهك” (خر 20، 2) وأكّد: “أَنا الَرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيور” (آية 5). هذا هو اقتراح الله، حبيب غيور يقدّم ذاته على أنه إلهك. وتخرج الإجابة من قلب توما المتأثّر: “ربي وإلهي!”. ونفهم اليوم أننا، إذ ندخل، من خلال الجراحات، في سرّ الله، فأن الرحمة ليست إحدى صفاته، إنما نبض قلبه. وبالتالي، مثل توما، لا نعيش بعد كتلاميذ مشكّكين، متعبّدين ولكن متردّدين؛ إنما نصبح نحن أيضًا مُتَيّمين حقيقيين بالرب! لا يجب أن نخاف من هذه الكلمة: مُتَيّمينبالربّ!
كيف نتذوّق هذا الحبّ، كيف نلمس اليوم بيدنا رحمة يسوع؟ يقترحه علينا الإنجيل مجدّدًا، عندما يشير إلى أن يسوع، ليلة الفصح بالذات (را. آية 19)، أي بعدما قام للتو، شرعَ أوّلًا بإعطاء الروح القدس لمغفرة الخطايا. كي نختبر المحبّة علينا أن نمرّ من هنا: أن نسمح للربّ أن يصفح عنّا. نسمح للربّ أن يسامحنا. أسأل نفسي وأسأل كلّ منكم: هل أسمح للربّ أن يصفح عنّي؟ كي نختبر هذا الحبّ علينا أن نمرّ من خلال هذا. هل أسمح للربّ أن يصفح عنّي؟ “ولكن يا أبتي، الاعتراف بالخطايا يبدو أمرًا صعبًا…”. نميل إزاء الله، إلى التمثل بالتلاميذ في الإنجيل: نسجن أنفسنا خلف أبواب مغلقة. كانوا منغلقين خوفًا، ونحن أيضًا نخاف ونخجل من الانفتاح ومن الاعتراف بخطايانا. ليعطنا الربّ نعمة فهم الخجل، نعمة أن نراها، لا مثل باب منغلق، إنما كخطوة أولى نحو اللقاء. عندما نشعر بالخجل، يجب أن نكون ممتنين: هذا يعني أننا لا نقبل الشرّ، وهذا أمر جيّد. الخجل هو دعوة سرّية من الروح التي هي بحاجة للربّ كي تتغلّب على الشرّ. فالمأساة هي عندما لا يعود المرء يخجل من أيّ شيء. لا نخافنّ من الشعور بالخجل! ولننتقل من الخجل إلى المغفرة! لا تخافوا من أن تخجلوا! لا تخافوا.
ولكن يوجد باب منغلق إزاء مغفرة الربّ، وهو باب الاستسلام. الاستسلام هو دومًا بابٌ منغلق. لقد اختبروه التلاميذ، الذين استنتجوا في الفصح أن الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه من قبل: كانوا ما زالوا هناك، في أورشليم، محبطين؛ وكان “فصل يسوع” يبدو وكأنه أنتهى وبعد وقت طويل معه لم يتغيّر أيّ شيء، فلنستسلم. نحن أيضًا يمكننا أن نفكّر: “أنا مسيحي منذ زمن، ولا شيء يتغيّر فيّ، أقع دومًا في الخطايا ذاتها”. محبطين بالتالي، نتخلّى عن الرحمة. ولكن الله يسترعي انتباهنا: “ألا تؤمن أن رحمتي هي أكبر من بؤسك؟ هل تقع تكرارًا في الخطيئة؟ عد تكرارًا واطلب الرحمة، وسوف نرى من سيكون الأفضل!”. ومن ثم –مَن يعرف سرّ المغفرة يعرف هذا الأمر- ليس صحيحًا أن كلّ شيء يبقى كما في السابق. في كلّ اعتراف، ننتعش من جديد، ونتشجع، لأننا نشعر كلّ مرة أننا محبوبون أكثر، مغمورون أكثر من قِبَلِ الآب. وعندما نسقط من جديد، ونحن محبوبون، نشعر بألم أكثر من ذي قبل. وهو ألم مفيد، لأنه يفصلنا ببطء عن الخطيئة. ونكتشف آنذاك أن قوّة الحياة هي في نيل غفران الله، والمضيّ قُدمًا، من غفران إلى غفران. هكذا هي الحياة: من خجلٍ إلى خجل، ومن غفرانٍ إلى غفران. هذه هي الحياة المسيحيّة.
بعد الخجل والاستسلام، هناك باب آخر منغلق، ومصفَّح أحيانًا: خطيئتنا، الخطيئة نفسها. عندما ارتكب خطيئة عظيمة، ولا أريد أن أصفح، وبكلّ صدق، عن ذاتي، فلماذا يصفح الله عني؟ ولكن هذا الباب هو مقفل من جهة واحدة، من جهتنا؛ الله يمكنه دومًا اجتيازها. فهو يحبّ، كما يعلّمنا الإنجيل، أن يدخل بالتحديد “والأبواب مغلقة” –كما سمعناه في الإنجيل-، يدخل عندما يبدو كلّ ممرّ ممكن موصدًا. هناك يصنع الله العجائب. فهو لا يقرّر أبدًا أن ينفصل عنّا، بل أننا نحن من ندعه خارجًا. ولكن عندما نعترف بخطايانا يحدث ما يُذِهل: نكتشف أن تلك الخطيئة بالذات، التي كانت تحبسنا بعيدًا عن الربّ، تتحوَّل إلى مكان اللقاء به. هناك يأتي الله المجروح بالحبّ للقاء جراحنا. ويجعل جراحنا البائسة شبيهة بجراحاته المجيدة. هناك تحوّل: جراحي البائسة تتشابه بجراحاته المجيدة. لأنّه هو رحمة ويصنع العجائب في بؤسنا. لنطلب اليوم، مثل توما، نعمة التعرف على إلهنا: أن نجد في مغفرته فرحنا، وأن نجد في رحمته رجاءنا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018