إلى إخواننا السَّادة المطارنة الأجلّاء،
والرّؤساء العامّين والرّئيسا العامّات،
وأبناءِ كنيستنا المارونيّة وبناتها، الكهنة والشَّمامسة والرهبان والراهبات
وسائر المؤمنين والمؤمنات، وذوي الإرادات الطّيبة، الأعزّاء،
مقدّمة
الحقيقة الّتي علّمها المسيح
1. يسوع المسيح “الطّريق والحق والحياة” (يو 14: 6)، علّمنا “الحقيقة الّتي تحرّر” (يو 8: 32) وبالتّالي تجمع. تحرّر من ظلمة الضّياع والخلاف والتّباعد والمكيدة، وتجمع من الشّتات والتّبدّد، وتضعنا في الطّريق المستقيم المؤدّي إلى الحياة السّعيدة والخلاصيّة.
فنيقوديموس، رئيس اليهود، قصد الرّب يسوع في ظلمة اللّيل والضّياع، وفي قلبه شعلة البحث عن الحقيقة: “يا معلّم، نحن نعرف أنّ الله أرسلك معلّمًا”. فعلّمه يسوع أكبر الحقائق: الولادة الجديدة من الماء والرّوح الّتي تُدخل المولود ثانيّة في شركة ملكوت الله (راجع يو 3: 1-6).
والمرأة السّامريّة، الّتي ساكنت ستّة رجال، عندما كشف لها يسوع “حقيقتها” الشّاذة هذه، رأت فيه نبيًّا. فطرحت عليه إشكاليّة مكان العبادة لله: “فنحن السّامريّون نقول على هذا الجبل، وأنتم اليهود تقولون في أورشليم”. أمّا يسوع فعلّمها الحقيقة الموضوعيّة وهي “أنّ الله روح، ويجب على العابدين أن يعبدوه بالرّوح والحق”. وكشف لها أنّه هو المسيح المنتظَر. عندئذٍ نادت أهل السّامرة ليأتوا ويروه، وهم أعداء اليهود، فآمن به كثيرون (راجع يو 4: 18 و19 و24 و25 و39).
الفرّيسيّون سألوه عن واجب دفع الجزية للقيصر أم عدمه بمكيدة منهم، فعلّمهم بكثير من الحكمة ضرورة الفصل بين الدّين والدّولة والالتزام بالواجب المتساوي تجاههما: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” (راجع متّى 22: 21).
ويوحنّا المعمدان عندما خامره الشّك، وهو في السّجن، بشأن المسيح، أرسل بعضًا من تلاميذه يسألون يسوع: “أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟ فأزال الرّب شكّه كاشفًا حقيقة مسيحانيّته ورسالته، إذ صنع عددًا من الشّفاءات على مرأى منهم، وقال: “إذهبوا وقولوا ليوحنا ما رأيتُم وسمعتُم: العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصّم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون. طوبى لمَن لا يشكّ فيَّ” (راجع متّى 11: 2-6).
أمّا الحاكم بيلاطس الّذي أعلن له يسوع أنّه أتى ليشهد للحقيقة، وقد فهم حقيقة براءة يسوع، فمع هذا سأله: “وما هي الحقيقة؟” وخاف من معرفتها من فم يسوع، خوفًا على كرسيّه، فآثر إرضاء الشّعب الحاقد على حساب الحقيقة (راجع يو 18: 37-40).
2. سلّم الرّب يسوع كنيسته، بشخص بطرس والرّسل وخلفائهم: الحبر الرّوماني والأساقفة، خدمة الحقيقة، المعروفة “بسلطان الحلّ والرّبط” (متّى 16: 19؛ 18: 18). وقال لهم: “من سمع منكم سمع منّي، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الّذي أرسلني” (لو 10: 16). وأعطاهم ضمانة البلوغ إلى معرفة الحقيقة كلّها على أنوار الرّوح القدس: “عندي كلام كثير أقوله لكم، ولكنّكم لا تقدرون الآن أن تتحمّلوه. فمتى جاء روح الحقّ أرشدكم إلى الحقّ كلّه” (يو 16: 12-13).
السّلطة التعليميّة في الكنيسة، المتمثّلة بشخص قداسة البابا والأساقفة الّذين هم في شركة معه، هي المؤتمنة من المسيح الرّب على إعلان الحقيقة الإنجيليّة لكي، على هدي الروح القدس، تحفظها بوقار، وتتعمّق فيها، وتعلنها وتعرضها بأمانة. ولها أن تعلن دائمًا وفي كلّ مكان مبادئ العقيدة الأخلاقيّة، حتى في ما يختصّ بالشَّأن الاجتماعي. ولها كذلك أن تعطي حكمها على الواقعات البشريّة، حيث تقتضي ذلك كرامة الشخص البشري وحقوقه الأساسيّة، أو خلاص النفوس”[1]. “علّمها هو، وتناقلها الرّسل عبر التّقليد الحيّ حتّى يومنا. هذه السلطة تؤدّي خدمتها التّعليميّة بسلطان المسيح، فتعلّم الشّعب الموكول إليها عقيدة الإيمان الّتي من واجبه أن يعتنقها ويمارسها في حياته. ويجب على السلطة أن تسهر على الإيمان وتحميه من الأضاليل، كما يوصي القدّيس بولس الرّسول تلميذه تيموتاوس: “أناشدك أمام الله أن تبشّر بكلامه وتُلحّ في إعلانه بوقته أو بغير وقته، وأن توبّخ وتُنبّه وتعظ صابرًا كلّ الصّبر في التّعليم. فسيجيء وقت لا يحتمل فيه النّاس التّعليم الصّحيح، بل يتبعون أهواءهم ويتّخذون معلّمين يكلّمونهم بما يُطرب آذانهم، منصرفين عن سماع الحقّ إلى سماع الخرافات” (2تيم 4: 1-4).
لذا، يدعو المجمع المسكوني الفاتيكاني الثّاني المؤمنين إلى واجب السّماع باحترام للسلطة التّعليميّة في الكنيسة، لكونها شاهدةً للحقيقة الإلهيّة الكاثوليكيّة، ولقبول الحكم الّذي تعطيه باسم المسيح في شؤون الإيمان والأخلاق، وإخضاع العقل والإرادة له[2].
لماذا هذه الوثيقة؟
3. تشكر كنيستنا المارونيّة الله على انتشار الإيمان والالتزام الديني بين أبنائها وبناتها وعلى ازدياد اهتمامهم ورغبتهم الصادقة بالتعرّف على تعليم الكنيسة والمواضيع اللاهوتيّة. وتثمّن الجهود الكبيرة التي يقوم بها الرعاة والآباء واللاّهوتيّون بالتعاون مع الهيئات الكنسيّة كالحركات والمنظّمات الرّسوليّة، بهدف تثقيف المؤمنين ومنحهم مجالاً للتعمّق في محتوى الإيمان ولعيش حياتهم الروحيّة بشكل أفضل. ولكن، لا يخفى على أحد أنّ تعليم الكنيسة بما فيه من مضمون لاهوتي، يحتاج الى فهم سليم، ويصعب أحيانًا التعبير عنه بصورة دقيقة، ممّا يؤدّي إلى عدم فهم بعض العبارات وسوء استعمال أخرى. هذا ما يحصل مرّات عديدة، وينتشر بشكل ملحوظ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وفي عظات وإرشادات وتعاليم وتعليقات. ممّا يثير بعض الشكوك والتساؤلات والاحتجاجات لدى المؤمنين، ويدفعهم إلى التوجّه إلى السلطة الكنسيّة، المسؤولة عن “صحّة التعليم”، طالبين منها إيضاح ما فيه التباس وشرح بعض الحقائق الصعبة ووضع حدّ للتجاوزات. بل راح بعضهم يردّ من خلال مواقع التّواصل الاجتماعي، ممّا خلق بلبلة وشكوكًا في صفوف المؤمنين. لذلك، رأى آباء سينودس أساقفة الكنيسة البطريركيّة المارونيّة ضرورة إصدار “وثيقة لاهوتيّة” تذكّر الإكليروس والمؤمنين والمؤمنات بمعنى مضمون الحقائق الواردة في “تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة”، وتشرح بعض التعابير الملتبسة، من أجل حماية صحّة التعليم وتثقيف الإيمان. فأنشأنا لجنة أسقفيّة لإعداد مشروع هذه الوثيقة. ومن بعد الإدلاء بالملاحظات عليها، والأخذ بالمقترحات، نصدرها اليوم، لتكون وثيقة رسميّة يلتزم بها أبناء وبنات كنيستنا المارونيّة، إكليروسًا وعلمانيِّين.
4. لا تعالج “الوثيقة” كلّ التعاليم الكنسيّة، بل المسائل التي طرحت حولها اسئلة في الآونة الأخيرة. وهي تريد أن تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتذكّر الجميع بوجوب الالتزام الدقيق بتعليم الكنيسة الرسمي، وبخاصّة تعليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، وفي مجموعة قوانين الكنائس الشَّرقية. وتوضح أيضًا أنّ هذا التعليم بحاجة إلى شرح في كثير من نقاطه. وهذا من واجب البطريرك والأساقفة، فهم معلّمو إيمان المؤمنين المسيحيِّين الموكولين إلى عنايتهم[3]. ولذا، العودة إليهم واجبة عند وقوع أيّ خلاف حول تفسير حقائق الإيمان. ويطلب من جميع الكهنة والمكرّسين والمكرّسات والعلمانيّين عدم استعمال مواقع التواصل الاجتماعيّ ولا وسائل الإعلام ولا الوسائل المطبوعة وسواها لفضّ نقاش لاهوتيّ فيما بينهم، من دون استئذان أساقفتهم ورؤسائهم، على أن يلتزموا بما تقرّره وتعلّمه السلطة التعليميّة في الكنيسة.
أقسامها
5. تنسّق “الوثيقة” أهمّ هذه المواضيع، وفقًا لمنهجيّة كتاب التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، في ستّة فصول: الأول الوحي ونقله ووديعة الايمان؛ والثاني الكتاب المقدس والالهام وتفسيره؛ والثالث الإيمان بحقائق الحياة الأبدية؛ والرابع تكريم العذراء مريم والقدِّيسين والذخائر؛ والخامس الشيطان والأرواح وصلاة التقسيم؛ والسّادس توجيهات راعويّة.
الفصل الأول
الوحي ونقله ووديعة الايمان
الوحي الإلهي
6. الوحي الالهي هو كشف الله للإنسان عن ذاته وعن إرادته الخلاصيّة في التاريخ، بأعمال وأقوال مرتبطة ارتباطًا وثيقًا فيما بينها، وموضِّحة بعضها البعض. حقّق الله الوحي الفائق الطبيعة تدريجيًّا، معتمدًا نظامًا تربويًّا إلهيًّا، يعدّ فيه الإنسان لتقبّله على مراحل، عبر أحداث العهد القديم وتعاليمه، ولاسيّما عبر الأنبياء الذين أعلنوا أن الله ينقّي من التجاوزات ويعطي الخلاص لكلّ الأمم[4]. بلغ هذا الوحي ملئه وكماله في شخص الكلمة المتجسّد يسوع المسيح[5]. فيسوع هو كلمة الله الكاملة والنهائيّة، فيه قال لنا الله كل شيء، ولم يعد هناك أيّ كلمة أخرى ننتظرها تزيد شيئًا على الوحي الذي تمّ به. والكنيسة تتقدّم وتنمو في معرفة هذا الوحي عبر العصور[6].
والله أوحى ذاته في قلب تدبيره الخلاصي، فلا نستطيع أن نفصل بين الوحي والخلاص، اللَّذين غايتهما واحدة، وهي اشراك الانسان في الحياة الالهيّة المجيدة (راجع 2بط 1: 4).
نقل الوحي: التقليد المقدّس والكتاب المقدّس
يُنقل الوحي عبر التقليد الرسولي القائم على الرسل الّذين أوصاهم يسوع أن ينقلوا الى كلّ البشر بشرى الانجيل الحامل الوحي الالهي. هذا التقليد تسلّمته الكنيسة من الرسل مع الكتاب المقدّس الذي هو كلمة الله المدوَّنة كتابة بإلهام من الروح القدس، وتنقله عبر التعليم والليتورجيّا والمَثَل. ولا بدّ أنّ “التّقليد المقدّس والكتاب المقدّس يرتبطان ويتّصلان فيما بينهما بشكل وثيق. فكلاهما ينبعان من مصدر إلهي واحد ويؤلّفان بطريقة ما وحدة لا تتجزّأ، ويهدفان إلى غاية واحدة. فالكتاب المقدّس هو حقًّا كلمة الله من حيث أنّه مكتوب بوحي من الرّوح القدس. أمّا التّقليد المقدّس، فينقل كلمة الله الّتي عهد بها السّيد المسيح والرّوح القدس إلى الرّسل وهو يبلّغها كاملة إلى خلفائهم لكي يحفظوها ويعلّموا بها وينشروها بكلّ أمانة، بواسطة تبشيرهم وقد أنارهم روح الحقّ”[7].
وديعة الايمان
8. يولّف التقليد المقدّس والكتاب المقدس معاً وديعة الايمان، أو إرث الايمان. وردت عبارة “وديعة الايمان” في رسائل القدّيس بولس الرّسول (1تيم 6: 20و2تيم 1: 14)، وتشير الى الحقائق الموحاة المنقولة في التقليد المقدّس والكتب المقدسة. من هذه الوديعة تستمدّ الكنيسة معرفتها بالوحي الالهي[8].
هذه “الوديعة” موكلة الى الكنيسة كلّها لتحفظها وتعمّق فهمها لها باستمرار، بمعونة الروح القدس، وبقيادة السلطة التعليميّة، وتلتزم بالعيش بحسب مقتضياتها[9]. الأمانة لها هي الأمانة لتعليم الرسل المسلّم اليهم من السيد المسيح، والمنقول في هذه الوديعة، والذي يقود الى الشركة الأخويّة وكسر الخبز والصلاة[10]. أما التفسير الصحيح لوديعة الايمان فيعود فقط الى السلطة التعليميّة في الكنيسة، أي الى البابا والأساقفة الذين هم في شركة معه. وهي تفعل ذلك باسم المسيح[11].
إنّ وديعة الايمان ثابتة لا تتغيَّر، لأنّ وحي المسيح ثابت، ويحمل الحقيقة الخلاصيّة لكلّ عصر. ولكنها تُنقَل وتُعلَن بطرق مختلفة، عبر حياة الكنيسة وليتورجيّتها وتعليمها وتقاليدها من معين الكتاب المقدس. وفي هذا السياق دعا المجمع الفاتيكاني الثاني اللاهوتيِّين الى البحث عن الطريقة الفضلى لنقل التعليم الى أبناء عصرهم، فميّز بين وديعة الايمان وطريقة التعبير عنها بهذه الكلمات:” الوديعة نفسها أو حقائق الايمان شيء وطريقة التعبير عن هذه الحقائق شيء آخر، على أن يُصان معناها ومضمونها”[12]. من واجب الكنيسة أن تؤوِّن هذه الوديعة أو هذا الإرث غير المتبدّل، وتجعله مفهومًا وخصبًا في ظروف العالم المتبدّلة، لتجيب على تطلّعات المؤمنين وحاجاتهم في كلّ العصور.
السلطة التعليميّة
9. السلطة التعليميّة في الكنيسة مؤلَّفة من البابا والأساقفة الذين في شركة معه وفيما بينهم، كما رأينا، سواء علّموا منفردين، أم مجتمعين في المجامع الخاصّة والمسكونيّة. إنّهم المعلِّمون الأصيلون للإيمان، والشارحون لوديعة الإيمان، والمحافظون على التعليم السليم، يصوّبونه في حال الخطأ[13]. وعلى جماعة المؤمنين أن تعود اليهم لمعرفة الايمان معرفة صحيحة، كالجماعة الأولى التي كانت مواظبة على تعليم الرسل (راجع رسل2: 42).
إنّ التعليم الذي تعلّمه السلطة التعليميّة يتناول ثلاثة: الحقائق الموحاة، والحقائق النهائيّة، والتعليم العادي.
الحقائق الموحاة من الله، والمحتواة في وديعة الايمان، معصومة من الخطأ لأنّ الله أوحاها، وتُقبل بطاعة الايمان. يعلّمها الحبر الأعظم، أو الأساقفة المجتمعون في مجمع مسكوني، أو الأساقفة المنتشرون في العالم والمجمعون في تعليمهم العادي على هذه الحقائق، بشركة مع رأسهم، الحبر الأعظم.
الحقائق النهائيّة هي التي، وإن لم تكن موحاة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوديعة الايمان أو بالحقائق الموحاة. التمسّك بها ضروري من أجل المحافظة بأمانة على وديعة الايمان. تعلّم هذه الحقائق الهيئات نفسها التي تعلّم الحقائق الموحاة. وهي معصومة من الخطأ استنادًا الى عصمة الكنيسة التي يدعمها ويرافقها الروح القدس. وتتطلّب هذه الحقائق تمسّكًا نهائيًّا بها من قِبل المؤمنين.
التعليم العادي هو التعليم الذي، ولئن لا يتمتّع بالعصمة، يساعد على فهم أفضل لوديعة الإيمان. إنّه يصدر عن سلطة الكنيسة التعليميّة، ويتطلّب خضوعًا دينيًّا للعقل والارادة[14]. تجدر الاشارة في هذا السياق إلى أن “الكتاب المقدّس والتّقليد الرّسولي الحيّ وسلطة الكنيسة التّعليميّة هي على ترابط في ما بينها إلى حدّ أنّ واحدة منها لا تثبت بدون الأخرى. وهي جميعها معًا، بفعل الرّوح القدس، تسهم كلّ واحدة على طريقتها في خلاص البشر إسهامًا فعّالاً”[15].
تراتبيّة الحقائق
10. إنّ مبدأ الهرميّة أو تراتبيّة الحقائق قد اعتمده المجمع الفاتيكاني الثاني في قراره حول الحركة المسكونيّة، حيث نقرأ: “وليتذكّر اللاهوتيّون الكاثوليك، في بسطهم للعقيدة، أنّ هناك تراتبيّة أو تسلسلاً في الأهميّة لحقائق العقيدة الكاثوليكيّة، نظرًا إلى صلتها بأصول الإيمان المسيحيّ” (عدد 11). إنّ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة يعرّف الثالوث الأقدس بأنّه السرّ المركزي في الايمان المسيحي، والمصدر لكلّ أسرار الايمان أو حقائقه، والنور الذي ينيرها. انّه أصل الايمان الذي تتمحور حوله بقيّة الحقائق، وتترابط به بطرق مختلفة وببعضها البعض (راجع عدد 234).
يشكّل هذا التعليم حول تراتبيّة الحقائق خطوة متقدّمة على طريق التقارب المسكونيّ، في موضوع العقائد والحقائق الايمانيّة تحديدًا. فهذه التراتبيّة تتطلّب ربط كلّ حقيقة من تعليم الإيمان الكنسيّ بأساسها ومحورها الذي يعطيها شرعيّتها الكنسيّة، وقيمتها الخلاصيّة، وهذا ما يجب الأخذ به في تفسيرها وعرضها للمؤمنين كما في الحوار بين الكنائس. لا تعني هذه التراتبيّة أن بعض الحقائق تخصّ الايمان أقلّ من غيرها، أو أن بعض الحقائق أساسيّة وأخرى يمكن اهمالها، أو أن المسيحيّة تحوي حقائق مستقلّة عن بعضها والمؤمن يختار أهمّها، ولكنّها تدلّ على أنّ حقائق الايمان مرتبطة بالأصل وببعضها البعض برباط عضوي، وأنّ بعض الحقائق ترتكز على غيرها وتفهم على نورها، والمؤمن مدعو ليقبل كلّ حقائق الايمان كوحدة متكاملة مصدرها الله[16]. ومن الأمثلة التي تظهر كيف أنّ الحقائق الايمانيّة تنير بعضها البعض، نورد حقيقة يسوع الشخص الواحد في طبيعتَين الهيّة وانسانيّة، والتي تساعدنا على فهم حقيقة مريم العذراء على انّها أمّ الله.
العقيدة وتفسيرها
11. انّ العقيدة* هي الحقيقة التي تحدّدها السلطة الكنسيّة بصيغة معيّنة، وتعرضها على المؤمنين انّها موحاة، وبهذه الصفة هي ملزمة وتتطلّب قبولًا لا رجوع عنه، مرتكزًا على طاعة الايمان الذي يقبل الوحي من الله[17]. تشرح العقيدة الوحي النهائي الذي تحقّق بيسوع المسيح وتساعدنا على فهمه، علمًا انّه لا توجد عقيدة واحدة تستنفد كلّ الوحي، بل العقائد بالاجمال، بترابطها ببعضها البعض، تدخلنا في فهم الوحي ككلّ. ما يساعدنا على فهم هذه العقائد هو التمييز بين الحقيقة في ذاتها، والصيغ المستخدمة للتعبير عنها. فنحن لا نؤمن بالصيغ بل بالحقائق التي تعبّر عنها. ولكنّنا نقارب هذه الحقائق بمساعدة صيغ الايمان التي تسمح بالتعبير عن الايمان، وبتناقله، وبالاحتفال به في الجماعة، واستيعابه، والعيش بموجبه أكثر فأكثر[18].
يوجد تطوّر في تعليم الكنيسة العقائدي. وهذا يعني أنّ الكنيسة تفهم الآن العقائد التي حدّدتها مرّة واحدة نهائيّة، بطريقة أفضل من وقت تحديدها. صحيح أنّ العقائد الإيمانيّة هي غير قابلة للمراجعة والتصحيح في مضمونها لأنّها مرتكزة على الوحي، وأنّه لا يمكننا الرجوع إلى أقلّ ممّا تحدّده، ولكنّ هذا لا ينفي حقيقة ثابتة، وهي أنّ الروح القدس ينير الكنيسة على حقائق الإيمان، لتستطيع فهمها أكثر ولتثقّف المؤمنين تثقيفًا أفضل فينموا في ايمانهم.
من أجل فهم الحقائق الإيمانيّة فهمًا صحيحًا، لا بدّ من قراءة الكتاب المقدّس وتعليم الكنيسة، وكتابات الآباء، والمجامع، وسائر وثائق السلطة التعليميّة، وصولاً إلى آخر الإصدارات اللاهوتيّة في هذا الشّأن. فهذه الأخيرة، حين تلتزم بالتعليم الكنسيّ، تقدّم شرحًا واضحًا للحقائق الايمانيّة وخلاصة للتفكير اللاهوتي عبر التاريخ[19].
الوحي العامّ* والكشوفات الفرديّة*
12. الوحي العامّ أو الوحي الالهي هو كشف الله عن ذاته في التّاريخ، وقد بلغ كماله في يسوع المسيح، وبه يُختم وحي الله للعالم. “فلا يُنتظر كشفٌ آخر علني قبل تجلّي الله في المجد في نهاية الأزمنة[20]. يختلف الوحي العام عن الكشوفات الفردية التي ظهرت في تاريخ الكنيسة، مثل كشوفات المسيح للقدّيسة بريجيت ملكة السويد، وللقدّيسة كاترين السيانيّة. قبلت الكنيسة بصحّتها لأنها لا تتناقض مع الوحي العام، ولا تضيف عليه شيئًا، بل تبقى في إطار التذكير بكلمة الله وتأوينها، وتشجيع المؤمنين على عيشها والشهادة لها. كلّ كشف يخرج عن هذا الإطار، من مثل الإدّعاء بحمل رسالة جديدة، أو طرح تنظيرات حول مصير الإنسان والعالم، يبعد المؤمنين عن أساس الإيمان ووحدته ونقاوته. فهذه الكشوفات تبقى اختبارات خاصّة، توضع ضمن الاختبار الروحيّ أو التصوّفي الشخصيّ، ولا تشكّل أساسًا لتعليم عقائديّ ملزم.
وفي هذا السياق، تذكّرنا وثيقة “رسالة فاطيما” الصادرة عن مجمع عقيدة الايمان، سنة 2000، في قسم التعليق اللاهوتي، أن قبول الكنيسة بالكشف الفردي يتضمّن قبولها لثلاثة عناصر: 1) عدم تعارض الرسالة التي يحملها هذا الكشف مع ايمان الكنيسة وأخلاقياتها؛ 2) جواز الاعلان عن الرسالة؛ 3) إمكانيّة قبولها بفطنة من المؤمنين. وتؤكّد وثيقة “رسالة فاطيما” أنّالكشف الفردي، وإن كان الرجوع اليه من قبل المؤمنين غير ملزم، لأنه لا يقدّم وحيًا جديدًا بالنسبة للمسيح يسوع، يبقى بمثابة مساعدة يجب عدم التقليل من أهميتها، والاستفادة منها لفهم الانجيل وعيشه في الوقت الحاضر. تشكّل الكشوفات الفردية موضوعًا مشتركًا بين اللاهوت والعلوم الإنسانيّة. فعلم النفس مثلاً يقدّم مساعدة قيّمة للتأكّد من سلامة الشخص المعنيّ النفسيّة أو عدمها، وعلم الإجتماع يساعد على تحديد الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة لهذا الحدث، وتحليلها، فيما يدرسه علم الاجتماع الدينيّ في باب الظواهر الخارقة أو التقوى الشعبيّة. لكنّ المعيار الأهمّ يبقى الثمار الروحيّة التي تحملها هذه الكشوفات إلى الكنيسة، على حسب قول الربّ نفسه: “من ثمارهم تعرفونهم” (متى 7: 16).
الظهورات أو الرؤى*
13. نستعمل كلتا اللَّفظتَين للتعبير عن أمر واحد في إطار الكشوفات الفردية المذكورة في الفقرة السابقة. ولا بدّ من أجل فهمها، من التمييز بين ثلاثة أشكال من الإدراك الحسّي** او الرؤيا: رؤيا الحواسّ وهي ما تدركه الحواس الجسديّة الخارجيّة، والرؤيا الداخليّة وهي ما يراه الإنسان انطلاقًا من داخله، والرؤيا الرّوحية المعروفة بالصوفيّة. إنّ الظهورات لا تخضع عادة لرؤيا الحواس كحسّ عادي خارجي، لأنها لا توجد في عالمنا المادّي كبقيّة الأشياء المادّية، كالشجرة والبيت، كما هي الحال في ظهورات لورد وفاطيما. وبالطبع ليست رؤيا روحيّة أو عقليّة من دون صور، كما هي الحال في الصوفيّة. لكن الظهورات هي من نوع الرؤيا الداخليّة، بفضل ما لهذه الظهورات من قوّة حضور تعادل عند الرائي الواقع الخارجي المحسوس. فالنفس النقيّة قادرة أن ترى بالحواسّ الداخليّة ما هو غير قابل للحسّ. إنّها “أشياء” حقيقيّة تلمس النفس، ولو أنّها لا تخصّ عالمنا المحسوس العادي[21].
في الإيمان المسيحيّ، ليست الظهورات أو الرّؤى موضوع ايمان كالحقائق الموحاة، ولاتحتلّ المكان الأوّل المحفوظ لحدث المسيح الوسيط والكاشف حقيقة الله والذي يحتوي مضمون كلّ رؤيا ويتخطّاه. في أيّ حال، لا ينبغي تجاهل حسّ الإيمان الموجود عند المؤمنين[22]، الذي به يساهم هؤلاء في تمييز السلطة الكنسيّة لصحّة الظهورات، وهذا ما يبدو جليًّا من تاريخها. والموقف الأسلم من الظهورات المريميّة أو غيرها هو موقف الفطنة، القائم على القبول بإمكانيّة تدخّل الله في التاريخ عبر الظهورات التي لا تمسّ بكمال الوحي في المسيح. يبقى أن تتحقّق السلطة الكنسيّة المعنيّة من صحّة الظاهرة، وممّا تحمل من رسائل لخير المؤمنين. كما بإمكان الظهور أو الرؤيا أن يكون دافعًا لتغيير الحياة والتوبة بحسب متطلّبات الإنجيل، كما يحدث في مزار سيّدة لورد وفاطيما وسواهما، وأيضًا في مزارات لبنان حيث نشهد معجزات وتوبة وتغيير حياة.
الفصل الثاني
الكتاب المقدّس
الكتاب المقدّس والإلهام
14. إنّ الحقيقة التي أوحاها الله في التاريخ، دُوِّنت في الكتاب المقدّس بإلهام من الروح القدس. الالهام هو معونة الروح القدس الذي ينير الكتّاب حتى يكتبوا ما يريده الله، فينقلوا الوحي بطريقة صحيحة. وفي هذا المعنى يعلّم المجمع الفاتيكاني الثّاني: “إنّ الله اختار، من أجل وضع الكتب المقدسة، أناسًا، استعان بهم وعمل هو نفسه فيهم وبهم، حتى يدوّنوا ، بكلّ طاقاتهم وقدراتهم، كمؤلِّفين حقيقيِّين، كلّ ما هو موافق لرغبته وهذا فقط”[23].
استناداً الى الالهام يمكننا القول انّ الله هو مؤلّف الكتاب المقدس. ولكنّه لا يلغي دور الكتّاب البشريِّين، الذين يعبّرون عن إرادته بأسلوبهم الأدبي والبشري. فالكتاب المقدّس هو كلمة الله المعبَّر عنها بكلمات وأسلوب بشريّين.
إنّ مفهوم الالهام يتميّز عن مفهوم الوحي كما رأينا، ولكنّه مرتبط به. وهو يختلف عن مفهوم الانزال الذي هو إملاء النصّ على الكاتب بطريقة حرفيّة، وهو لا ينطبق على الكتاب المقدس.
عصمة الكتاب المقدّس
15. يتمتّع الكتاب المقدّس بالعصمة في ما يتعلّق بالحقائق الايمانيّة، بفضل إلهام الروح القدس، على ما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: “بما أنّه يجب اعتبار كلّ ما دوّنه الكتّاب الملهَمون أو واضعو الكتب المقدّس، معلنًا من الرّوح القدس، يلزم بالتّالي الإقرار بأنّ الكتب المقدّسة تعلّم بثبات وأمانة دونما خطأ، الحقائق الّتي أراد الله إيداعها في هذه الكتب من أجل خلاصنا”[24].
هذه العصمة التي تطال الحقائق الايمانيّة الموحاة والمنقولة كتابة لنا لأجل خلاصنا، لا تطال بقيّة المجالات كالأحداث التاريخيّة، أو الشرائع القانونيّة المتأثرة بالظروف التاريخيّة وبالمحيط والذهنيّة الاجتماعيّة، أو الحقائق العلميّة. هو التفسير الكتابي الذي يساعدنا على التمييز بين الحقائق الايمانيّة المعصومة وطرق التعبير عنها وبقيّة هذه المجالات.
التفسير الكتابي
16. في الكتاب المقدس يكلّم الله الانسان عبر البشر، أي الكتّاب الملهَمين، وعلى طريقة البشر[25]. لذلك يجب على مفسِّري الكتاب المقدّس أن يبحثوا عمّا أراد الكتّاب الملهمون أن يعنوه، وما أراد الله أن يقول من خلالهم. وهذا يتطلّب اتبّاع منهجيّة أدبيّة وثقافيّة وعلميّة وتاريخيّة، للتفسير ولمعرفة نيّة الكاتب المُلهَم، وذلك عبر التنبّه إلى ثقافة عصر الكاتب الذي يستخدم عبارات وصور ورموز من بيئته والبيئة المحيطة، والى الظروف والزمن الذي كتب فيه، والى طرق الشعور والكلام ورواية الأخبار والتعامل بين الناس الشائعة في ذلك العصر، والى الأنواع الأدبيّة المختلفة سواء كانت تاريخية أم نبويّة أم شعريّة أم رؤيويّة أم حكميّة أم غير ذلك[26].
يمكّننا هذا التفسير من الوصول الى المعنى الحرفي او المباشر للنصّ بعد استخلاص معناه من الأسلوب الأدبي الذي كتب به. إن المعنى الحرفي المباشر يختلف عن القراءة الحرفيّة المتطرفة التي تتوقّف عند المعنى الظاهري بدون الولوج الى المعنى المقصود عبر الأسلوب الأدبي، كما عندما يقول يسوع “اذا شكَّكتك يدك فاقطعها” (مر 9: 47). فيسوع لا يريد قطع اليد كما تتوهّم القراءة الحرفيّة المتطرّفة، بل ما تعنيه هذه العبارة عبر أسلوبها الأدبي، وهو عدم القيام بأفعال تشكّك.
توجد منهجيّة أخرى، تكمل الأولى، للتفسير الصحيح للكتاب المقدس، وهي روحيّة وضروريّة، تقودنا الى قراءة الكتاب على نور الروح القدس الذي ألهمه[27]. ويذكر المجمع الفاتيكاني الثانيفي هذا المجال، ثلاثة مقاييس تساعدنا على فهم الكتاب المقدس على نور الروح القدس[28]. وهي:
أ. التنبّه الى وحدة الكتاب المقدّس ومضمونه كلّه. إنّ ركيزة هذه الوحدة هي تدبير الله الخلاصي الواحد الذي ينقله هذا الكتاب.
ب. قراءة الكتاب المقدس في التقليد الحيّ للكنيسة كلّها. لا يمكن أن نفصل بين الكتاب المقدس والتقليد الحي الّلذين يشكّلان وحدة متكاملة. للإبقاء على هذه الوحدة يجب قراءة الكتاب المقدّس في الكنيسة الّتي تتناقل التقليد الحيّ.
ج. التنبّه الى قياس الايمان*. يراد بهذه العبارة أنّ الحقائق الايمانيّة التي يحويها الكتاب المقدس منسجمة ومترابطة فيما بينها، نظرًا الى الله الواحد الذي حقّق التدبير الخلاصي المنقول في الكتاب المقدس، والى الروح القدس الواحد الذي ألهمه.
17. وعلى التفسير أن يجمع بين هاتَين المنهجيّتين المذكورتَين آنفًا، على حسب ما أكدّ البابا بنديكتوس السادس عشر في الارشاد الرسولي “كلمة الربّ“: “فقط في الحالة التي يتمّ فيها المحافظة على المستويَين في المنهجيّة، المستوى التاريخي والنقدي، ومستوى الطبيعة اللاهوتيّة، بالامكان عندها الحديث عن تفسير لاهوتي ملائم للكتاب”[29].
تاريخيّة أحداث الكتاب المقدّس
18. عندما ندعو إلى عدم قراءة الكتاب المقدّس قراءة حرفيّة، وإلى إيجاد المعنى المقصود منه، لا نقصد القول أنّ الأحداث التي يخبرنا عنها الكتاب المقدّس “لم تحصل في التاريخ”.فالأسلوب الرمزيّ، الذي يعتمده الكتاب المقدّس، هو أسلوب في التعبير عن الحدث، حتّى ولو كان تاريخيًّا، فيستخلص من الأحداث العبر والتعاليم التي تنطبق على كلّ إنسان في كلّ زمان. ولكن، من جهة أخرى، لا يمكننا اعتبار الكتاب المقدّس “وثيقةً تاريخيّةً غير قابلة للجدل”. فهو ليس كتاب تاريخ، بالمعنى الشائع للكلمة، بل هو كتاب “تاريخ الخلاص“، وهو “دستور الحياة المسيحيّة” الذي يقود إلى القداسة. لذا يجب أن نترك لذوي الاختصاص، في التاريخ وعلم الآثار والكتاب المقدّس، مهمّة دراسة الأحداث لمعرفة الأساس التاريخيّ لكلّ منها.
الأسطورة*
19. الأسطورة نوع أدبي نجده في الكتاب المقدّس. من خلال الأسطورة سعى الإنسان إلى فهم الحياة ومصدرها وغايتها. وحاول شرح أسباب الألم والموت وغاية الحياة. وبما أنّ هذه المواضيع تختصّ بما يجول في داخل الإنسان من أحاسيس وتساؤلات وهواجس، ولا يمكن بالتالي التّعبير عنها بلغة المحسوس، لذلك تُستعمل صور مضخّمةً للتعبير عن هذه الحقائق. هذا الأسلوب ما زال مستعملاً اليوم، في لهجاتنا المحكيّة وفي كلّ العبارات المستعملة للتعبير عن الحبّ والفرح والألم والحزن، لما فيها من تضخيم يريد إيضاح المعنى. لذا، لا يمكننا قراءة النصوص المدوّنة بالأسلوب الأسطوريّ، إلاّ بعد تحليل لغتها وصورها، من أجل فهم المعنى المقصود من خلالها.
تجب الإشارة أخيرًا إلى أنّ النصوص الأسطوريّة موجودة في الكتاب المقدّس كما في الحضارات القديمة المحيطة. غير أنّ الكتاب المقدّس يتميّز بأنّ نصوصه التي وضعها الكتّاب الملهمون بأسلوب الأسطورة إنما تعبّر عن الحقائق الإلهيّة التي تعالج مسائل يطرحها الوجدان البشري بخصوص هذا الزمان، المطبوع بطابع الصيرورة. نأخذ على سبيل المثال رواية الخلق في سفر التكوين. نجد أساطير الخلق كعمل الآلهة في حضارات أخرى، مثل الحضارة البابليّة. ولكن في رواية كتاب التكوين يتجلّى سموّ الله بصفة مطلقة. فيوم صنع الربّ الإله الأرض والسماوات (تك 2: 4)، لا يوجد زمن أوّلي قد يدور فيه تاريخ إلهي. بعمل الخلق، حدّد الله البداية المطلقة لزمننا البشري. لكن وجود الله سابق لهذا الزمن. وما سيدور فيه من أحداث هو تحقيق لتصميم الله الأزلي الذي ينظّم أوّلًا كلّ الخلق من أجل الإنسان، ثمّ يوجّه مصير الإنسان نحو غايته السامية[30].
أمّا “الخرافة“*، الّتي لا مكان لها في الكتاب المقدّس، فتروي أمورًا خياليّةً لا تمتّ إلى المنطق بصلة. بل غالبًا ما تسعى إلى تضخيم غير منطقيّ للأحداث، يُبعد الأمور عن معانيها وأهدافها السليمة.
النصوص الرؤيويّة
20. النّصوص الرّؤيويّة، مثل نبوءتَي حزقيال ودانيال ورؤيا يوحنا، كُتبت في فترات الاضطهاد القاسيّة، خلال زمن كتابة العهدين القديم والجديد، بهدف تقوية إيمان الشعب ومساعدته على الثبات في المحنة وبثّ روح الرجاء فيه. تعبّر هذه النصوص عن الإيمان بحضور الله الذي يرى جهاد المؤمنين وألمهم واستشهادهم، وعن الثّقة بأنّه لا بدّ آتٍ ليكافئهم على أمانتهم. هذه النصوص تعليميّة، يستعمل فيها الكاتب الملهم لغةً رمزيّةً مألوفةً لدى قرّائه. وهي تبشّر بتدخّل الله السريع لنصرة أحبَّائه المضطهَدين، وتتحدّث أحيانًا عن نهاية العالم والأمور المستقبليّة كما في الفصل الحادي والعشرين من رؤيا يوحنّا.
النبي والنبوءة
21. نشأ التيّار النبويّ في زمن العهد القديم، مع اشتداد الأزمات التي حلّت بشعب الله. حينها اجتمع عدد كبير من الشبّان والشابات في مجموعات متفرّقة، بغية قراءة واقع الحال في البلاد، على ضوء كلمة الله، بهدف التذكير بشريعة الربّ وإعلان تدخّله القريب لإصلاح ما أفسده الإنسان. ومن هنا تظهر النّبوءة على أنّها أساسًا إلتزام بالربّ وبكلمته، وإليها مدعوٌّ جميع المؤمنين. ولذلك تعلن الكنيسة أنّ كلّ معمّد نبيّ، بمعنى أنه مدعو ليشهد لله ولإرادته التي أظهرها بابنه يسوع المسيح، وأنّه شريك في كهنوت المسيح العام وملوكيّته[31]. على ضوء هذا المفهوم، ليس النبي شخصًا “يقرأ المستقبل” ويعلم الغيب. فهذه الأمور مخفيّة عن الإنسان، كلّ إنسان، وهي في علم الله وحده دون سواه: “أمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلمهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن، إلاّ الآب” (مر ١٣: ٣٢). بل النّبي هو المدعو من الله لينقل كلامه إلى الشّعب وإلى الملك والحاكم، كما نشهد في أنبياء العهد القديم، مثل: موسى وصموئيل وعاموس وآشعيا وإرميا وحزقيّال وسواهم.
الفصل الثالث
الإيمان بحقائق الحياة الأبدية
22. عندما يشرح كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية مفهوم الآية من قانون الإيمان: “أؤمن بالحياة الأبدية“، يتكلّم عن حقائق ما بعد الموت وهي بالترتيب: الدينونة الخاصة، والسماء، والمطهر، وجهنّم، والدينونة العامة[32].
الدينونة الخاصة
23. بعد الموت، يخضع كلّ إنسان لدينونة خاصّة تبعًا لحياته وإيمانه واعماله، لينال الجزاء المباشر: إما للتطهير من رواسب خطاياه، وإما للدخول مباشرة في سعادة السماء، وإما للهلاك الفوري والدائم[33].
السماء
24. يحتلّ موضوع السماء مكانًا واسعًا في الكتاب المقدّس بعهدَيه، وفي التقليد الكنسيّ، وفي علم اللاهوت، والصلوات والتأمّلات، والعظات والرؤى والفنّ المقدّس. في كتاب التعليم المسيحيّ تعلّم الكنيسة أنّ “السماء هي تلك الحياة الكاملة مع الثالوث القدّوس، تلك الشركة في الحياة والمحبّة معه ومع مريم العذراء والملائكة والقدّيسين. إنّها غاية الإنسان القصوى، وتحقيق لأعمق رغباته، وحالة السعادة الفائقة والنهائيّة. إنّها الجماعة السعيدة المكوّنة من جميع الذين انضمّوا إلى الله انضمامًا كاملاً”. تربط الكنيسة الوصول الى حالة السماء بحدث المسيح الفصحيّ: فبموته وقيامته “فتح لنا السماء، وهي حالة الامتلاك الكامل لثمار الفداء الذي حقّقه، وفيه يشرك كلّ من آمن به وبقي أمينًا لمشيئة الله”. لذا، “أن نحيا فى السماء يعني أن نكون مع المسيح الذي فيه نجد هويّتنا الحقيقيّة”. هكذا، كلّ “الذين يموتون فى نعمة الله وصداقته، وقد تطهّروا كلّيًّا، يحيون على الدوام مع المسيح. وسيكونون على الدوام شبيهين به، لأنّهم سيعاينونه ” كما هو” (1 يو 23: 2)، وجهًا لوجه” (1 كو 13: 12)”.
السماء هي حالة اتّحاد الإنسان المبرّر اتّحادًا نهائيًّا بالله بواسطة المسيح. ليست مكانًا بل حالة وجود حقيقيّة، فيها يصل المؤمن إلى ملء العلاقة بالثالوث القدّوس مع العذراء وسائر القدّيسين. وليست حالة رتيبة، بل حالة يملأها الفرح والحياة حول العرش (رؤ 7: 9). إن الاستغراق في حضور الله، والامتلاء من حبّه هو ذروة ما ترجوه الخليقة المتجدّدة في المسيح. يعبّر الكتاب المقدّس عن هذه الحالة في صور مثل: الحياة، النّور، وليمة العرس، خمر الملكوت، بيت الآب، أورشليم السّماويّة، الفردوس[34].
المطهر
25. بالتطهير بعد الموت تمحى بقايا الخطيئة في الإنسان الذي لا يزال غير مهيّأ تمامًا لشركة الاتحاد مع الله، فيتهيّأ للكمال في عمليّة تنقية، يساعد فيها الأحياء أمواتهم بالصلاة وتقديم الذبيحة الإفخارستية وأعمال الخير[35]. يورد كتاب التعليم المسيحي مراجع من الكتاب المقدّس عن عقيدة المطهر، التي علّمها مجمعا فلورنسا وترانت وتقليد الكنيسة[36]. وتشدّد الكنيسة على أنّ مشاهدة وجه الله لا ينالها إلا مَن كان خاليًا من الخطيئة ورواسبها. لقد صحّح اللاهوت الكاثوليكي بعض التصاوير الشيئيّة والمكانيّة والزمانيّة للمطهر، واستبدلها بمقولات وجوديّة تنبع من داخل اختبار الإنسان المؤمن، وهو اختبار يبدأ من هذه الحياة، ويكتمل في اللقاء مع الله.
لذا، يجب ألاّ نعتقد أن المطهر مكان، بل هو حالة اللقاء مع المسيح الديّان الرحيم والمخلّص الذي فيه تنحلّ الترسّبات، وتختفي الأنانية، و”تُشفى النفس وتنضج لتتّحد بالله”[37]. فالتطهير في هذا اللقاء ألم في سبيل الاكتمال، ألم محرّر ومؤلم في الوقت عينه، لأنّه يزيل بقايا الخطيئة، التي أصبحت جزءًا من الأنا: “فاللقاء بالربّ، وإن أحرق كالنار، يحوّلنا ويحرّرنا ليجعلنا حقًّا ما يجب أن نكون. إنّ الأشياء التي بنيناها في الحياة قد تبدو آنذاك قشًّا ناشفًا وتبجّحًا فارغًا وتنهار. إنّما في ألم هذا اللقاء، حيث الفاسد والموبوء في كياننا يبدو لنا بوضوح، نجد الخلاص”[38].
من الناحية الراعويّة، تشجّع الكنيسة مؤمنيها على أن يقدّموا الصلوات والقدّاسات والحسنات والغفرانات وأعمال التوبة عن أمواتهم[39]، ولكنّها تحذّر أيضًا من أيّ استغلال مادّي أو معنويّ لهذا التعليم، من قبيل تخويف الناس ممّا ينتظرهم في الآخرة، والتنظير حول حالة الأموات في المطهر، ومدّة إقامتهم فيه، واستعمال التعليم حول الغفرانات في غير معناها وغايتها، واللّجوء المفرط إلى بعض الممارسات التقويّة.
جهنّم
26. يتناول كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة موضوع جهنّم في الفقرات 1033-1037. إنّ الكلام على الهلاك الأبديّ أو جهنّم كلام مؤلم في تعليم الكنيسة النهيويّ. فغالبًا ما استُغلّ الكلام سلبًا، وشوّه وحرّف عن معناه الأساسيّ. تشير تسميات جهنّم إلى طابعها السلبيّ. فهي نقيض السماء، وفقدان السعادة الأبديّة، وعدم اكتمال الرجاء، وفشل الحياة النهائيّ، والإقصاء عن الشركة مع الله ومع الآخرين، وتصلّب في نقص الحبّ، وعذاب. ليست جهنّم عقوبة منزلة من الخارج، بل هي نتيجة انحراف من الشخص البشري وإمعان في رفضه الدائم والجذريّ لله، ورفض محبّته بارتكاب خطايا ثقيلة ضدّه وضدّ الناس وضدّ الذات. وفي هذا المعنى يحذّر يوحنا الرسول: “مَن لا يحبّ يثبت في الموت. كلّ من يبغض أخاه هو قاتل. وتعلمون أنّ كلّ قاتل ليست له حياة أبديّة ثابتة فيه (1يو3: 14-15). وللربّ يسوع تحذير من جهنّم يحضّ به الخاطئ على عدم اعتبار نفسه عاجزًا عن محبّة الله[40]. تجاه هذا التحذير من الهلاك الابدي، وجسامة الدينونة المستقبليّة وخطورتها، يفتح لنا الكلام الإلهي نافذة الرجاء، وهي بكلام الربّ يسوع نفسه، غاية رسالة الابن “لا ليدين العالم، بل ليخلّص العالم” (يو 2: 17)، وبلسان بولس “إرادة الله الخلاصيّة الشاملة (1تيم 2: 4)، والرجاء بأنّ الله سيملك في النهاية “كلاًّ في الكل” (1كور 15: 28). إلاّ أنّ جسامة وخطورة الدّينونة المستقبليّة والتّحذيرات من الهلاك الأبدي يجب أن تبقى منبّهًا مستديمًا لسلوكنا البشري حتّى يكون مصيرنا مع الرّب وليس في الظّلمة البرّانيّة.
غير ان الكنيسة تدين التعليم القائل بخلاص البشريّة كلّها مع الخطأة والهالكين والشياطين في عودة إلى حالة الأصل، وهو معروف في النقاشات اللاهوتيّة بلفظة Apocatastase. إنّه مناف للتحذيرات البيبليّة، ولمفهوم حرية الإنسان. فلا يمكن القول إننّ التاريخ سوف ينتهي بخلاص الجميع. لكنّ الإيمان بمجيء ملكوت الله مع المسيح الآتي ديّانًا في نهية الازمنة، والقول بأنّ سعادة القدّيسين تقوم على انتصار الحبّ، يدعواننا إلى الرجاء بخلاص شامل. لذلك، على المؤمن المسيحيّ أن يرجو خلاص البشر جميعًا، وفي الوقت عينه، أن يعتبر أنّ هناك إمكانيّة لهلاك حقيقيّ. فالإنسان هو “كائن مع إمكانيّة الخطأ” أي مع إمكانيّة حقيقيّة لرفض الله، وهو بهذا يحقّق حريّته الخاطئة. هناك إذًا احتمال لهلاك أبديّ بدونه، لا تستمرّ جدّية تاريخ بشري حرّ. يبقى هذا الاحتمال حقيقيًّا طالما أنّ ثمّة بشرًا يعيشون في الزمن، وأنّ كلّ إنسان سيخضع لدينونة الله.
إنّ المسيحيّ يرجو السماء، لا جهنّم. والكنيسة ترجو وتصلّي ليصل العالم والبشريّة كلّها إلى الكمال بقوّة نعمة الله في يسوع المسيح. أما الانسان الذي يموت في حالة الخطيئة المميتة من دون توبة عنها، ومن دون تقبّل محبّة الله ورحمته، فيقصي ذاته عن الشركة مع الله والقدّيسين باختياره الشخصي الحرّ. هذه الحالة يُدلّ عليها بلفظة “جهنّم”[41]. إنّ الكنيسة تسلّم جميع البشر لرحمة الله، وتدعو إلى الابتعاد عن التصاوير والتنظيرات المادّية والشيئيّة لجهنّم التي تبقى حالة وليست مكانًا. إن إرادة الله الخلاصيّة الشاملة تبقى الأساس للرجاء ولممارسة الحياة المسيحيّة.
الدينونة العامة
27. نعلن في قانون الإيمان: “وأيضًا يأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والاموات”. سمّت الكنيسة هذه الدينونة بالدينونة العامة، ووصفها إنجيل القدّيس متى بلغة صورية مأخوذة عن صورة الراعي والخراف (متى 25: 31-46). وعلّم كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، استنادًا الى الكتاب المقدس، أنّها تجري عند مجيء المسيح الثاني في نهاية الأزمنة، متى تُجمع لديه كلّ الشعوب، ويفصل البشر كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء. في هذه الدينونة يعتلن الربّ يسوع أنّه الحقيقة والمقياس. فالذي قبله وتبعه، يشترك معه في المجد الأبدي، والذي رفضه يُقصي ذاته عن المسيح. ففي الدينونة العامّة يعتلن ما ناله الانسان في الدينونة الخاصة من جزاء، ويعتلن أثر عمله وحياته في مسيرة العالم.
وفي الدينونة العامّة يفصل المسيح الممجّد الخير عن الشر بصورة نهائيّة، كما يُفصل القمح عن الزؤان في الحصاد. وينتهي الشّر، ويكتمل عمل الخلق والفداء بمشاركة الخليقة في مجد الله، وتعتلن طرق العناية الالهيّة التي أوصل بها الله العالم الى غايته الأخيرة، وهي المشاركة في المجد الأبدي. تدعو عقيدة الدينونة العامة إلى التوبة والمسؤوليّة، فالله لا ينفكّ يعطي النعمة والوقت اللّازم للخلاص (2كور6: 2)، والكنيسة تحثّ على مخافة الله وعلى الالتزام بمقتضيات ملكوته[42].
الصلاة من أجل الموتى
28. منذ بداياتها، والكنيسة تصلّي من أجل الموتى، وبخاصّة في احتفالها الإفخارستيّ[43]. غالبًا ما نتصوّر هذه الصلاة كطلب موجّه إلى الله، ليتنازل ويجنّب الموتى المؤمنين المطهر أو يقصرّه. لكن بما أنّ التطهير هو اللقاء مع المسيح في الموت، يكون، بالنّسبة إلينا، نحن العائشين في الزّمن، الكلام على مدّة زمنيّة لعقوبة المطهر. ومن المعلوم أنّه لا يمكننا استعمال المقولات الزمنيّة خارج الزمن والحياة البشريّة. لذا، يجب وضع هذه الصلاة في إطار التشفّع وشركة القدّيسين التي توحّد الكنيسة كجسد واحد متضامن ومتعاون في كلّ أوقات وجودها.
يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني: “في انتظار مجيء الربّ في جلاله… يواصل بعض من تلاميذه رحلتهم على الأرض؛ ويكون بعضهم الآخر، وقد أدركهم الموت، يتطهّرون؛ بعضهم في المجد يشاهدون الله الواحد والمثلّث الأقانيم، كما هو، في كمال النور. ولكنّنا كلّنا نشترك، ولو بدرجات وأنماط مختلفة، في المحبة الواحدة لله وللقريب… إن الإتحاد بين الذين ما زالوا على الأرض وإخوتهم الذين رقدوا في سلام المسيح لا يغشاه أيّ انفصام”[44]. ألصلاة من أجل الموتى هي من ضمن التبادل والتضامن الروحيّ الذي يجمع أبناء الكنيسة في رباط لا ينفصم من الرجاء والمحبّة، ذلك أنّها صلاة الأحياء من أجل الموتى، وصلاة الأموات من أجل الأحياء. فالصلاة الحقّة لا تكون في اتجاه واحد. كما أنّه لا يمكن أن نغفل أنّ الكنيسة لا تصلّي من أجل الموتى المؤمنين فحسب، بل أيضًا من أجل جميع الموتى، ليكون عبورهم من هذه الحياة الزمنيّة عبورًا نحو الحياة الخالدة[45].
الغفرانات
29. موضوع الغفرانات في الكنيسة، كعقيدة وممارسة، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسرّ التوبة. الغفرانات هي “أن يترك لنا الله العقاب الزمنيّ الذي تستتبعه الخطايا المغفورة. ترك العقاب هذا يحظى به المؤمن بشروط معيّنة، بفضل الكنيسة التي جعلها الله قيّمة على ثمار الفداء فتوزّعها بسلطانها، وتطبّق على المؤمنين استحقاقات المسيح والقدّيسين”[46]. نجد في أساس عقيدة الغفرانات العلاقة بين الخطيئة والعقوبة الزمنيّة، وبين استحقاقات السيد المسيح والعذراء مريم والقديسين التي تشكل كنز الكنيسة، وشركة القدّيسين. في سرّ التوبة والمصالحة، يمنح الله الخاطئ التائب رحمته وصداقته، ويمحو خطيئته، ويغفر ذنوبه. لكنّ آثار هذه الخطيئة ونتائجها تستمرّ في الذات، من مثل التعلّق بالمخلوقات، والميل إلى الخطيئة، وضعف الإرادة. لذا، من الضروريّ أن تُستكمل التوبة إلى الله بأعمال تكفيريّة قائمة على المحبّة، ومن شأنها أن تجعلنا ننفتح على استحقاقات المسيح اللامتناهية التي تنقّي الانسان. فالغفرانات هي عطيّة من رحمة الله التي تنقّي الانسان من الخطيئة ومن كلّ رواسبها. أمّا في شركة القدّيسين، فتظهر الكنيسة كشبكة قداسة ومغفرة، ما يُشعر الخاطئ التائب بأنّه محاط بجماعة مصلّية لأجله، متضامنة معه، وتساعده على التّنقية. فيجب عدم المبالغة في قيمة الغفرانات الروحيّة أو التقليل منها. ليست الغفرانات الوسيلة الوحيدة لينال المؤمن ترك العقوبات الزمنيّة، بل يوجد ايضًا، بقيمة كبيرة وأساسية، أعمال التوبة والرحمة للتعويض عن الخطايا.
30. الغفرانات مفيدة لأنّها تنبّه ضمير المؤمن على شرّ الخطيئة، وتذكّره بأنّ عليه التعامل بجدّية مع نتائج خطاياه التي تحتاج إلى التزام ثابت وواثق برحمة الله. لا تحلّ الغفرانات محلّ سرّ التوبة والمصالحة الضروريّ لإزالة الخطايا[47]، لكنّها تساعد المؤمن، المدرك لضعفه وحاجته، على أن يعيش المحبّة والمَثَل الصالح. تطبق الغفرانات بحسب ما يقرره الكرسي الرسولي، وبالشروط التالية: القيام بالعمل المرتبط به نيلها والمحدّد من الكرسي الرسولي نفسه، كزيارة كنيسة ذات باب مقدّس في سنة يوبيليّة؛ الاعتراف والمناولة في هذه المناسبة او قبلها أو بعدها بفترة قصيرة؛ الصلاة على نيّة الحبر الأعظم كالأبانا والسلام والنؤمن؛ القصد الصادق بالتحرّر من كلّ تعلّق بالخطيئة حتى العرضيّة. ويمكن نيلها للشخص نفسه أو للموتى.
الفصل الرابع
إكرام العذراء مريم والقدّيسين والذخائر
إكرام العذراء مريم
31. تفوق العذراء مريم الكلّية القداسة جميع الرسل والشهداء والأنبياء والقدّيسين، لِما لها من دور خاصّ في تدبير الله الخلاصي في سرّ المسيح والرّوح القدس. فهي تُكرَّم وتُمدح لأنّها، حقًّا وحقيقةً، والدة الإله الفادي، وهيكل الرّوح القدس وعروسته؛ أمّ المسيح وأمّ الكنيسة؛ أمّ أعضاء جسد المسيح الذي هو رأسه[48].
مريم هي أمّ المخلّص التي قدّمت ذاتها تقدمة كاملة لشخص إبنها الفادي الإلهي وعمله، لتُسهم معه وتحت أمره من الحبل البتولي به حتّى موته على الصّليب، مشتركة بقلب الأمّ في ذبيحته (يو 19: 25)، وعمله الخلاصي، من أجل ترميم حياة النّفوس الفائقة الطّبيعة. وهكذا أصبحت لنا أمًّا على صعيد النّعمة[49].
32. يُعلّم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: إنّ “الكنيسة تضرع إلى العذراء الطوباويّة مريم وتدعوها مؤيّدة ومعينة ومساعدة ووسيطة. ويجب ألّا تقلّل هذه الألقاب من كرامة المسيحوقدرته بوصفه الوسيط الأوحد، أو تزيد عليها. فما من خليقة يمكن أن تتعادل مع الكلمة المتجسّد والفادي. ولكن كما أنّ كهنوت المسيح يشترك فيه، بطُرُقٍ مختلفة، الأشخاص المقامون في الدّرجات المقدسة والشّعب المؤمن، وكما أنّ صلاح الله الأوحد يفيض حقًّا على الخلائق بصورٍ متباينة، كذلك وساطة الفادي الوحيدة لا تقصي بل تبعث، كمن مصدر أوحد، تعاون الخلائق بطُرُقٍ مختلفة. والكنيسة لا تتردّد في الإعتراف بهذه المهمّة المنوطة بمريم، كما أنّها لا تزال تختبرها وتوصي بها إلى محبّة المؤمنين حتّى يتمسّكوا بالوسيط والمخلّص تمسّكًا أوثق مستندين إلى عون أمّه”[50].
ويضيف المجمع أنّ “الإكرام الحقيقي للعذراء مريم لا يقوم بالعواطف العقيمة العابرة، ولا بالإعتقادات الباطلة، بل يصدر عن الإيمان الحقيقي الذي يدفعنا إلى الإعتراف بسموّ أمّ الله والحبّ البنوي نحو أمّنا والإقتداء بفضائلها”[51]. وتوصي الكنيسة بالتماس شفاعتها الّتي لا تردّ.
إكرام القدّيسين
33. درجت الكنيسة، منذ القديم، على إكرام القدّيسين، وهم الذين تميّزوا بقداسة السيرة، واستقامة التعليم، وقوّة الشهادة للمسيح، وعمق الاختبار الروحاني. من الوجهة اللاهوتيّة، إكرام القدّيسين هو تعبير عن الإيمان بالانتصار على الموت، وبالتضامن الذي يتبادله أعضاء الكنيسة بمعونة النعمة. فلطالما اعتقدت الكنيسة بشفاعة العذراء والقدّيسين، الذين يعضدون بصلواتهم إخوتهم الذين ما زالوا يجاهدون على الأرض ليصلوا هم أيضًا إلى القداسة وميناء الخلاص. ومع ذلك تبقى هذه الشفاعة مرتكزة على وساطة المسيح الوحيدة، لا إلى جانبها أو فوقها. لذا، عندما تنظر الكنيسة في عمليّة تطويب أو تقديس شخص ما، فهي تدقق في حياته، لتجد ما يمكن اعتباره نموذجًا للعلاقة مع المسيح، وقدوة للمؤمنين.
34. في جماعة المؤمنين، يشكّل القدّيسون شهودًا لحياة الإيمان الحقّة؛ لكنّ صدق النموذج وقوّة الشفاعة شيء، والقول إنّه إإنّه بإمكان القدّيسين أن يبدّلوا تصميم الله على البشريّة أو على أشخاص محدّدين شيء آخر. ومن غير المقبول ان تُنسب إليهم رسائل وكلمات إلى المؤمنين، من خارج الوحي الإلهي، يحددّون فيها مصير العالم والأشخاص، ونهاية الأزمنة وسواها. إنّه أمر منافٍ لأسس الإيمان، لأنّ هذه الأمور ترتبط كليًّا بالله وبإرادته الخلاصيّة الشاملة. يبقى إكرام العذراء والقدّيسين وطلب شفاعتهم عادة حميدة في الكنيسة، إذ إنّه يظهرها، في عمقها، كشركة قدّيسين وخيور سماويّة ونعم إلهيّة. لكن من غير الجائز أن نرتقي بهذا الإكرام إلى مستوى العبادة التي تليق بالله وحده، أو أن نجعل منها شرطًا أساسيًّا لنيل الخلاص. فهذا الإكرام يبقى متروكًا لخيار المؤمن الفرد في مسيرته الروحيّة، وللتقوى الشعبيّة التي تحتاج إلى مرافقة وتوجيه، لكي تتنقّى من الشوائب، ويظهر فيها المعنى الروحي، فتساعد المؤمنين على التقدّم في معرفة سرّ المسيح[52].
أما الاختبارات والكشوفات التي حصلت لبعض القدّيسين، فيجب أن توضع ضمن الإطار التاريخي الذي جرت فيه، وأن نفهمها وفق ثقافة عصرها ولغته. فالله يكلّم كلّ إنسان “بلغته”. ولذلك، لا يمكننا اعتبار ما قاله القدّيسون، أو ما عاشوه واختبروه، أمرٌ واجب الاتّباع. بل يعود للكنيسة أن تقرأ هذه الاختبارات والكشوفات والأقوال، لكي تترجمها بلغة التعليم الكنسي، وبحسب ظروف كلّ مجتمع وعصر.
إكرام الذخائر
35. اعتاد المؤمنون، منذ أقدم العصور، على تكريم ذخائر القدّيسين، وبخاصّة ذخائر الشهداء. وقد شرّعت الكنيسة إكرامها في مجمع نيقية الثاني المنعقد سنة 787. فبنت لها الكنائس والمزارات، وعرضتها لتكريم المؤمنين، وألّفت لأصحابها الصلوات والتراتيل والابتهالات، والتجأت اليهم طالبة الحماية في أصعب الظروف. هذا ما يبدو جليًّا في تراثنا الكنسيّ المارونيّ، إذ كان يحتفظ بأعضاء الشهداء تحت مذبح الكنيسة أو في مكان خاصّ. وبسبب هذه الأهمّية، نظّمت مجموعة القوانين الكنسيّة، شرقًا وغربًا، هذا الإكرام، ووضعت له ضوابط وقواعد ضمن الاحتفال الليتورجيّ، وضمن التقوى الشعبيّة. بدوره، دعا المجمع الفاتيكاني الثاني إلى أن “يُكرَّم القدّيسون، وتُكرَّم ذخائرهم الأصيلة وصورهم. فإنّ أعياد القدّيسين تعلن عظائم المسيح في خدّامه، وتقدّم للمؤمنين أمثلة ملائمة يُقتدى بها”[53].
* * *
الفصل الخامس
الشيطان وصلاة التعزيم أو التقسيم
الشيطان
36. يتكلّم كتاب التعليم المسيحي عن الشيطان في أكثر من موضع، ويسمّيه الشرير والشّر كشخص، والملاك الساقط الذي يعاكس عمل الله الخلاصي وقد أتمّه بالمسيح. ويُسمّيه الربّ يسوع في إنجيل يوحنا “القاتل في الأصل والكذّاب وأبا الكذب” (يو 8: 44). به دخلت الخطيئة والموت إلى العالم. فمن أجل النجاة من شرّه تصلّي الكنيسة في صلاة الأبانا: “نجّنا من الشرير”[54].
في الكتاب المقدّس، يجسّد سفر التكوين الشيطان في الحيّة المجرّبة التي أوقعت آدم وحوّاء، فكانت الخطيئة الأصليّة واللّعنة على الأرض (تك 3: 1-24). وتذكر رسالة القديس بطرس الرسول الثانية (2:4) الملائكة الخاطئين الذين رأى فيهم تقليد الكنيسة أنّهم الشياطين. وفي الأناجيل، يجرّب الشيطان يسوع (متى4: 1-11)، والبشر، ويسبّب الأمراض، ويضطهد المؤمنين، ويفسد يهوذا الإسخريوطي (راجع يو 13: 2)، ويسود على العالم، حتى أنّ الرسول بولس يسمّيه “إله هذا العالم” (2 كور 4: 3). لكنّ الرّبّ يسوع انتصر عليه نهائيًّا بموته وقيامته (يو 12: 31) وقد أعطانا حياته. وفي سفر الرؤيا، يُطرح الشيطان في بحيرة النار والكبريت (رؤ 20: 10).
37. في سنة 1215، أعلن مجمع اللاتران الرابع أنّ الشرّ لم يوجد منذ البداية، وأنّ كل شرّ مؤقّت وعابر، وهو نتيجة انحراف الحرّية المخلوقة. مع كلّ ذلك، لا تتوسّع النصوص البيبليّة ولا النصوص التعليميّة في وصف ميزات الشيطان، وخصوصيّة عمله. وهو ليس ندًّا تجاه الله وتدبيره الخلاصيّ، وهذا يجنّبنا الوقوع في ثنائيّة جذريّة، تضع الله بموازاة الشيطان. أما قول الربّ يسوع أنّ الشيطان هو “سيّد هذا العالم” (يو 14: 30)، إنما يعني أنّه يحمل العالم على رفض الله، وأنّه يقود الإنسان إلى الخطيئة. ولكن يجب ألاّ نعتبر أنّ قوّة الشرّير، مهما عظمت، تفعل بمعزل عن الإنسان الذي يرتكب الخطيئة بملء حرّيته، ويجعل من ذاته عبدًا لها (يو 8: 34)، فيتسبّب بشرور كثيرة. في أيّ حال، تجب المحافظة على جودة الخليقة الأصليّة، والابتعاد عن تصاوير الشيطان كما نجدها في المخيّلة الدينيّة الشعبيّة، وعن كلّ تنظير يقدّم الشرّير كإله جانبيّ أو كإله نقيض، ويعطيه قوّة مطلقة على العالم والبشر.
يؤكّد كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة أنّ “مقدرة الشيطان ليست غير متناهية. فهو مجرّد خليقة لا تستطيع أن تمنع بناء الملكوت”[55]. لذا، لا نستطيع أن ننسب كامل الشرّ الذي نصنعه بأنفسنا إلى الشرير. فننتهي بذلك الى فقدان حرّيتنا كبشر، ونصبح بالتالي غير مسؤولين عن أعمالنا، ولا تعود ثمّة ضرورة لتوبتنا عن الخطايا التي اقترفناها بمحض إرادتنا. ليس الشر جوهر الوجود ومحوره بل المسيح وحده هو الجوهر والمحور. وعلينا أن نتمسّك بمضمون الإيمان الذي يعلن أنّ قوّة الله وأمانته، الظاهرة في يسوع المسيح، قد غلبت، بشكل نهائيّ، كلّ قوى الظلمات والشرّ (أف 6: 10-13).
التعزيم أو التقسيم
38. تتمحور حياة المؤمن حول الشركة مع يسوع المسيح. ينمّيها عبر الاصغاء الى كلمة الله، ونيل نعمة الأسرار المقدّسة، والأمانة للسيّد المسيح في حياته، والابتعاد عن السحر والشعوذة، والتصدّي للتجربة والخطيئة، وهذا ما يحصّنه ضدّ الشر والشرير. أما في حالات المسّ أو التأثير الشيطاني، متى وُجدت، فتقوم الكنيسة بصلاة التقسيم التي بها تنتصر على الشرير بسلطان المسيح الإله. فهو طرد الأرواح الشريرة أثناء حياته التبشيريّة، وانتصر على كل شرّ بقيامته من بين الاموات.
39. وفي هذا السياق كنّا قد أصدرنا بتاريخ 26 تموز 2015، بالتوافق مع مجمعنا المقدّس، “تعميمًا راعويًّا حول الشّر والشرير في حياة الكنيسة وتعاليمها“. نجتزئ منه قسمين: اللاهوتي والراعوي.
أ- لاهوتيًّا، “عندما تلتمس الكنيسة علنًا وبقوة سلطانها، باسم يسوع المسيح، حماية الأشخاص أو الأشياء من قبضة المحتال ونفوذه، فهي تُمارس ما يُسمّى “بالتعزيم” (أو التقسيم). وقد مارسه يسوع[56]، والذي منه تستمد الكنيسة القدرة على التعزيم ومهمّة القيام به[57]. يُمارس التعزيم، في شكل بسيط، عند الاحتفال بسرّ المعمودية. أمّا التعزيم الاحتفاليّ أو “التعزيم الكبير” فلا يقوم به إلا كاهن بإذن من مطران الأبرشيّة، ولا بدّ من أدائه بفطنة، والتقيّد بالقواعد التي تضعها الكنيسة. يهدف “التعزيم” إلى طرد الشياطين أو إعتاق النفس من استحواذ الشيطان عليها، وذلك بالسلطان الروحي الذي أوكله يسوع إلى كنيسته[58]. ولكن الفرق شاسع ما بين الاستحواذ الشيطاني والحالات المرضيّة، ولا سيّما منها الأمراض النفسانيّة التي يعود علاجها إلى العالم الطّبي. ومن الأهميّة إذن بمكان أن نميّز، قبل القيام بالتعزيم (أو التقسيم)، بين الاستحواذ الشيطاني الحقيقي والحالة المرضية”[59].
ب- راعويًّا، قرّر الآباء:
1. إنشاء لجنةٍ في كلّ أبرشية تضمّ اختصاصيِّين في الحقل اللّاهوتي والطبّ النفسي، مهمّتها مساعدة الأسقف على التمييز في الحالات المشكوك بأمرها قبل الوصول إلى التقسيم والتعزيم. ممّا يتيح توضيح إذا ما كانت الحالة مرضيّة أم استحواذًا شيطانيًّا.
2. منع ممارسة التقسيم على الأشخاص والأرواح، من قِبل أيٍّ كان، إلاّ بموجب إذنٍ رسميّ وخطّيّ وشخصي من مطران الأبرشيّة، بعد استشارة اللّجنة المذكورة أعلاه، ولكلّ حالةٍ بمفردها.
3. منع التقسيم العلنيّ على وسائل الإعلام كافّة.
4. التزام المعنيِّين بالكرازة والتعليم، عند تناولهم موضوع الشَّر والشرير، بالمقاربة الشموليّة لتدبير الله الخلاصي في المسيح يسوع كما تجلّى لنا في الكتب المقدّسة وتقليد الكنيسة وتعليمها.
* * *
الفصل السادس
توجيهات راعوية
40. في ضوء هذا التعليم التّوضيحي لبعض المسائل المطروحة، وهو مستنِدٌ إلى ما تعلّمه الكنيسة وبخاصّة في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثّاني، وفي كتاب التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، لا بدّ من إصدار توجيهات راعويّة ضروريّة لضبط هذا التّعليم، وللمحافظة على الرّوحانيّة الكنسيّة في مقاربة المسائل الّتي يشوبها بعض الالتباس.
أولاً، العلاقة مع السّلطة الكنسيّة واستعمال وسائل الإعلام ومواقع الاتّصال الاجتماعي
41. تقتضي القوانين الكنسيّة احترام السّلطة الكنسيّة التّعليميّة في ما هي، وفي ما تعلّم عقائديًا ولاهوتيًا وكتابيًا وليتورجيًا وأخلاقيًا. وهي متمثّلة في شخص البطريرك والأساقفة. فإنّهم كخلفاء للرّسل مقلّدون سلطان الحلّ والرّبط (راجع متى 18:18). لذا، عند التباس بعض الأمور التّعليميّة يجب الإحتكام إليهم وقبول قرارهم.
42. فليعلم الّذين يستعملون مواقع التّواصل الإجتماعي لإصدار أحكام وإساءات تنتهك كرامة وقدسيّة الأشخاص المقامين في الدّرجة المقدّسة، الكهنوتيّة والأسقفيّة، والمكرّسين والمكرّسات بنذور رهبانيّة، وتنعتهم بالهرطقة وبالعداوة للكنيسة، انّهم يرتكبون خطيئة جسيمة ضدّ وصيّة المحبّة والإكرام، تُعاقب عليها الكنيسة في قوانينها الجزائيّة[60].
43. إنّ الّذين يستعملون مواقع التّواصل الإجتماعي أو الكتابة أو التّعليم أو الإرشاد أو أي نشاط آخر لبثّ تعليم غير متوافق مع تعليم الكنيسة الرّسمي، بدافع شخصي من التّقوى أو الإقتناع أو الفهم الشّخصاني أو التأثّر بكتاب ما، إنّما يخطأون تجاه المسيح الّذي علّم الحقيقة وسلّمها للكنيسة كي تنشرها وتحافظ عليها، ويعاقبون[61]. فيجب عليهم بروح الطّاعة للكنيسة الإنقياد لتعليمها مثلما أشرنا في هذه الوثيقة بفصولها الخمسة.
44. توجب القوانين الكنسيّة والشّرع الخاص الماروني على أعضاء الإكليروس الأبرشي والرّهباني الّذين يقدّمون، من خلال وسائل الإعلام، برامج أو يعالجون مواضيع تختصّ بالعقيدة والأخلاق والطّقوس، أن يحصلوا على إذن خاص من مطارنة أبرشيّاتهم، ومن رؤسائهم ورئيساتهم في الرّهبانيّات. وهذا واجب على العلمانيّين أيضًا[62]. لذا، يُطلب من الرّؤساء الكنسيين، في الأبرشيّات والرّهبانيّات السّهر على حماية العقيدة والتّعليم، ومطالبة المخالفين، واتّخاذ التّدابير اللاّزمة، بحكم مسؤوليّتهم أمام الله والكنيسة.
45. يُطلب من اللجنة الأسقفيّة للإعلام ومن المركز الكاثوليكي التّابع لها، إنشاء لجنة من اللاهوتيين وذوي الاختصاص في الكتاب المقدّس والخبرة التّعليميّة، للإشراف على ما يُعرض على شاشات التّلفزة، ويُنشر عبر وسائل الإعلام والتّواصل الإجتماعي، والنّظر في ما إذا كان مضمونه مطابقًا للعقيدة والتّعليم أم لا، واتّخاذ التدبير اللازم.
46. لا يحق لأحد الادّعاء بأنّه يمتلك الحقيقة، والاعتبار أن من لا يشاطره الرّأي هو في ضلال. هذا الادّعاء مرفوض عند المسيح. وكان يشكّل نقطة خلاف مع الفرّيسيّين والكتبة وعلماء الشّريعة. وقد حذّرنا من الإدانة: “لا تدينوا لئلاّ تدانوا” (لو 6: 37).
47. تُعنى السلطة الكنسيّة بالمحافظة على نقاوة الإيمان وحمايته من تأثير البدع والإيديولوجيّات المتعدّدة، وعلى حفظ الهويّة المسيحيّة المارونيّة من الإنعزاليّة والتقوقع والأصوليّة.
ثانيًا، الكتاب المقدّس وتثقيف الإيمان
48. في قراءة الكتاب المقدّس يجب الإعتماد على ذوي الإختصاص من أجل توضيح المعنى الحقيقي، وتجنّب قراءته حرفيًا بآيات مجتزأة من إطارها ومجمّعة، لأنّها قد تؤدّي إلى سوء فهم كلام الله، وإلى بثّ أفكار تخالف لاهوت الكتاب المقدّس. المهمّ في تفسير الكتاب المقدّس اكتشاف الحقيقة الموضوعيّة في التّعليم الإلهي والخلاصي.
49. لكي تصل الحقيقة الخلاصيّة الموحاة إلى أكبر عدد ممكن من المؤمنين وسواهم، يجب تكثيف السّهرات الإنجيليّة واللقاءات البيبليّة في الرّعايا والمراكز الدّينيّة، وتقديم برامج تعليميّة في وسائل الإعلام ومواقع الاتّصال الإجتماعي. ومن المهم بمكان إنشاء موقع رسمي خاص لهذا التّعليم يستفيد منه كهنة الرّعايا، ومعلّمو التّعليم المسيحي في المدارس، ومرشدو الأخويّات والمنظّمات والحركات الرّسوليّة.
50. من أجل تثقيف سليم للإيمان يشترط بمعلّم التعليم المسيحي:
1. أن يكون حاملاً شهادة من كليّات اللاهوت والليتورجية، أو من معاهد التّثقيف اللاهوتي.
2. إن يكون شاهدًا في حياته لإيمان الكنيسة، وقدوة في الحياة الخلقيّة، وملتزمًا بالحياة الأسراريّة.
3. أن يكون حائزًا على إذن من أسقفه أو من السّلطة الكنسيّة التّابع لها.
51. يعتني مطارنة الأبرشيّات وكهنة الرّعايا بتثقيف الإيمان في العائلة والرّعية والأخويّات والمنظّمات والحركات الرّسوليّة، لكونها تشكّل أماكن مميّزة لحياة الإيمان، وتناقله من جيل إلى جيل.
ثالثًا، التعزيم او التقسيم
52. ينتدب مطران الأبرشيّة كاهنًا، من الإكليروس الأبرشي أو الرهباني، ليقوم بخدمة مقسّم في الأبرشيّة ككلّ أو في منطقة جغرافيّة محدّدة ولا يحقّ لأحد سواه أن يمارس التعزيم أو التقسيم إلا بإذن خاصّ من راعي الأبرشيّة. ولا يحقّ للمقسّم الأبرشي أن يمارس خدمته في أبرشية أخرى من دون إذن مطرانها.
53. يُشترط بالكاهن المُنتدَب لمهمّة مقسِّم أن يكون ذا خبرة في التعزيم والتقسيم وقد تمرّس على يد كاهن مقسِّم ذي خبرة؛ وأن يكون ناضجًا روحيًّا وإنسانيًّا وعاطفيًّا، ومتجرّدًا في موضوع المال وشفّافًا.
54. لا يحقّ لكاهن الرعيّة أن يرسل أحد ابناء رعيّته أو بناتها مباشرة إلى الكاهن المقسّم، بل إلى الأسقف أو اللّجنة المختصّة، للنظر هل الحالة تقتضي الإرسال إلى الكاهن المقسّم أم لا.
55. يُمنع المقسّم من تلاوة صلاة التقسيم أو التعزيم عبر وسائل الإعلام أو بشكل علني أو في مكان عامّ كصالون المنزل أو قاعة الرعيّة، بل في مكان يضمن السّرّية واحترام هوّية الشخص. من المحبَّذ حضور مجموعة صغيرة من أهل الشخص وأقربائه للمشاركة في الصلاة. ولهم وحدهم أن يلمسوه أو يمسكوه أو يمنعوه من أن يؤذي نفسه. ويمنع الكاهن المقسّم من لمسه، كما يُمنع من أن يروي عن الحالات التي تمّت صلاة التقسيم عليها، وعن مجرى الأحداث التي جرت. أما الصلاة فهي تلك التي تقرّها اللّجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة.
56. من الضرورة إدخال مادّة التعزيم أو التقسيم في كلّية اللاهوت ومعاهد التثقيف الديني، وتخصيص دورة تنشئة عنها في السنة الرعائيّة.
* * *
الخاتمة
57. “إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (متى 28: 19). بهذه الكلمات سلّم الربّ يسوع رسله الأحد عشر، وخلفاءهم الأساقفة من بعدهم وديعة الإيمان لكي ينقلوها إلى جميع الناس بأمانة، على هدي الروح القدس الذي “يقودهم إلى الحقيقة كلّها” (يو16: 13). فانطلقت الكنيسة، أمًّا ومعلّمة، إلى العالم كلّه “كعمود الحقّ ودعامته” (1تيم3: 15)، و”المسيح معها حتى نهاية العالم” (متى 28: 20)، والروح القدس يقود شراعها، والسيّدة العذراء “أمّها” تشفع بأبنائها وبناتها حتى يصلوا جميعهم إلى ميناء الخلاص.
إنّنا نكل إلى إخواننا السادة المطارنة والرؤساء العامّين والرئيسات العامّات هذه الرسالة الراعوية، راجين التعمّق في مضمونها مع كهنتهم ورهبانهم وراهباتهم، كي ينقلوا تعليمها صافيًا إلى إخوتنا وأخواتنا المؤمنين، أبناء الكنيسة وبناتها الأحبّاء.
مع دوام صلاتي ومحبّتي والبركة الرسولية، عربون النعم الإلهية.
عن كرسينا في بكركي في 25 أذار 2018، عيد بشارة السيّدة العذراء،
بداية السنة الثامنة لخدمتي البطريركية.
+ الكردينال بشاره بطرس الراعي
بطريرك انطاكيه وسائر المشرق
[1] مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق 595.
[2] راجع الدّستور العقائدي “في الكنيسة”، 25.
[3] راجع مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، القانونان 600 و601.
[4] راجع ارميا 31: 31 -34؛ عب10: 16؛ حز36؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 53-64.
[5]راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 53؛ الوحي الإلهي، 2.
[6] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 65-66؛ مختصر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 9.
[7] راجع الوحي الالهي 9؛ كتاب التعليم المسيحي، 80 – 82.
[8] راجع الوحي الالهي 9؛ ومختصر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 14.
[9] راجع مختصر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 15.
[10] راجع رسل 2/42؛ الوحي الالهي 10.
[11] راجع الوحي الالهي 10؛ ومختصر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 16.
[12] الدّستور الرّاعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 62.
[13] راجع نور الأمم 25؛ الوحي الالهي 10؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 85.
[14]راجع مجمع عقيدة الإيمان: موجز عقائدي حول الصيغة الختامية لإعلان الإيمان (1998) الفقرات: 5 و6 و8 و10.
[15] مختصر التّعليم المسيحي، 17.
[16] راجع الدليل العام للتعليم المسيحي الصادر عن مجمع الاكليروس سنة 1971، العدد 43؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 90.
Dogme, Dogma*
[17] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عدد 88.
[18] راجع التعليم المسيحي في الكنيسة الكاثوليكية 170.
[19]راجع المرجع نفسه، 88-90؛ 171-175.
Révélation publique* – **Révélations privées
[20] الدّستور العقائدي “كلمة الله”، 14؛ كتاب التّعليم المسيحي، 66-67؛ إعلان “الرّب يسوع” لمجمع عقيدة الإيمان (2000).
* Apparitionsأو Visions
** perception
[21]راجع مجمع عقيدة الإيمان: رسالة فاطيما (2000)، قسم “الشرح اللاهوتي”.
[22] راجع الدستور العقائدي: “في الكنيسة”، 12.
[23] راجع الوحي الإلهي، 11.
[24] المرجع نفسه، 11.
[25] راجع الوحي الالهي عدد 12.
[26] راجع الوحي الالهي12، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عدد 9ـ1ـ110.
[27] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عدد 111.
[28] راجع الوحي الالهي 12؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 112-114.
Analogie de la foi *
[29] كلمة الرّب، 34.
* Mythe
[30]راجع معجم اللاهوت الكتابي: “زمن”، المقدمة، فقرة 1.
* Légende
[31]راجع الدستور العقائدي “في الكنيسة”، 10؛ الإرشاد الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، 14.
[32] كتاب التعليم المسيحي، الفقرات 1021-1041.
[33] المرجع نفسه، 1021-1022.
[34] المرجع نفسه، 1023-1027.
[35]كتاب التعليم المسيحي، 1030 و1032.
[36]المرجع نفسه، 1031 والحواشي.
[37]البابا بندكتوس السادس عشر: “مخلصون بالرجاء”، 45.
[38]المرجع نفسه، 47.
[39]كتاب التعليم المسيحي، 1032.
[40]راجع صورًا بيبليّة عن وقت الهلاك (متى 25: 1-13؛ لو 14: 16-24)، وعن الألم الناتج عنه: “النار” (متى 5: 22؛ مر 9: 43، 48)، و”الظلمة” (متى 8: 12؛ 25، 30)، و”البكاء وصريف الأسنان” (متى 8: 12؛ 13، 30؛ لو 13: 28) وسواها؛ راجع كتاب التعليم المسيحي، 1034.
[41]كتاب التعليم المسيحي، 1033.
[42]المرجع نفسه، 1039-1041.
[43]صلاة الكنيسة تستند إلى ملوك الثاني 12: 42-45.
[44]الدستور العقائدي “في الكنيسة”، 49.
[45]كتاب التعليم المسيحي، 1371.
[46]المرجع نفسه، 1471
[47]كتاب التعليم المسيحي، 1484-1486؛ البابا بولس السادس: في عقيدة الغفرانات.
[48]راجع كتاب التعليم المسيحي، 487-507؛ 721-726؛ 963-975
[49]الدستور العقائدي: في الكنيسة، 58 و62.
[50]المرجع نفسه، 62.
[51]المرجع نفسه، 67
[52]كتاب التعليم المسيحي، 1674-1676.
[53]دستور الليتورجيا المقدسة، 111؛ راجع ايضًا الفقرة 13.
[54]كتاب التعليم المسيحي، 2851-2853
[55] المرجع نفسه، 395.
[56]فانتهر يسوع الروح النجس قائلا: “اخرس واخرج منه. فصرعه الروح النجس وصاح بصوت عظيم وخرج منه” (مر1: 25-26).
[57]“مر3: 15 ويكون لهم سلطان على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين؛ 7:6ودعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين، وأعطاهم سلطانا على الأرواح النجسة؛ 6: 13وأخرجوا شياطين كثيرة، ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم؛ 16: 17وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة.
[58] راجع الحاشية السابقة
[59] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 1673.
[60] راجع مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة: القوانين 1445-1448 و 1452.
[61] راجع القانون 1436.
[62] راجع القانون 653، والشّرع الخاص بالكنيسة المارونيّة (1996)، المادّة 62.