إنّ ما يتميّز به يسوع هو أنه كائن حرّ طوال حياته، دون مجاملات ولا سهولة وتزييف. ما يُظهره يسوع من خلال النصوص الإنجيليّة التي قالها، هو هذه الدهشة التي علقت بالجـــميع أمامَ حريّة ذلك الرجل. دهشة الرسل، ودهشة الجموع، وحتى الأحبار والسلطات. يسوع رجلٌ مدهش حقأ. لا بل إنّ حريّته هي مـــحيّرة ! ليس بمعنى السلبيّـــة والتشكيك، لا بل بمعنى: أنّ يسوع ، بحريّته، وضعَ الله في مكان السرّ . إنه الآخر – المختلف – المحيّر – النور المظلم (كما يسمّيه اللاهوت السلبيّ، أو اللاهوت الصوفيّ).
يسوع حرّ تجاه عائلته، وقريته، وشعبه، بكلامه وأعماله. حرّ تجاه الأعراف والتقاليد المتوارثة. تجاهَ الأخلاقيّات والدين، وهذه كانت العمود الفقريّ للمجتمع اليهوديّ. رفضَ يسوع الأحمال التي كانت تثقّل كاهل الإنسان، ورفض الفــــتاوى التي تجعلُ الإنسان ” غبيـّا ” ، أو تجعلَ منه كائنـــــــــــًا خانعا للسلطات، تابعًا طفوليّا على الدوام. كان حرّا في الخدمة، وفي تعلّمها. حرّا في إعطاء هذه الحريّة، فقد اتّجه نحو كلّ مَن يحتاج إلى الإعتراف بإنسانيّته: الفقراء، والمرضى، والمحتقرين، والمعوّقين، والهامشيّين. قال بأنّ الإنسانيّة الحقّة لا توجدُ إلاّ على هامش المجتمع، بل حتى خارج مجتمع الناس الشبعانين الراضين عن أنفسهم.
أعطى يسوع لكلّ من لديه قابليّة على قبوله، فأعلنَ ولادة علاقة جديدة بين البشر، علاقة تتعدّى كلّ التصانيف والدرجات والمستويات: علاقة تتطلّب الإستعداد المشترك، وإقتسام الحريّة المتبادلة. علّمنا يسوعُ أنّ الثالوث أخذٌ وعطاء، أي كما في السماء كذلك على الأمور أن تكون على الأرض. فكما أنّ الابن حرّ مع أبيه، كذلك هو حرّ مع اخوته.
ماذا يبقى من الثروات وأفراحها والمعرفة وطبولها والأخلاقيات وحواجزها، والإنتماءات الدينية وتصانيفها؟ ماذا يبقى من العشائر والإنتماءات القوميّة؟ ماذا يبقى من محاولة فصل الإنسان عن الله؟
في عمق الأعماق، ستبقى حقيقـــــــــة يسوع، وهي دعوة إلى ” التحرّر ” من كلّ ما يقيّد الإنسان ويمنعه من المشي إلى “الأبديّة” برفقة الحبّ والأحباب. يمشي حرّا حتى يموت من الحبّ، وما ألـــــــــذّ ذلك!
بماذا تتميّز تصرّفات يسوع؟
كما ذكرنا أعلاه، إنه حرّ تجاه عائلته التي حاولت مرارًا الإمساكَ به ( مرقس 3 : 12). فقد رفضَ دائمًا أن يضع عليه أحد يده. حتى وإن كانت أمّه وإخوته (مرقس 3 : 31 – 35 ، لو 4 : 26 – 27)، أو أهالي قريته ( مرقس 6 : 1 – 6)، لأنّ عائلـــــته الحقيقيّة (سنرى بعد هذا القسم توراة المسيح والحريّة التي جاءَ بها) هل كلّ إنسان منفتح على ارادة الله. كذا الأمر مع السلطات الدينيّة كالفريسيّين والصدوقيّين والكتبة، الذين حاولوا احتواءه. صحيحٌ أنه كان يتردّد عندهم، لأنه لا يضع أبدًا أيّ ” حاجز ” في علاقاته الإنسانيّو (لوقا 11 : 37) … لكنّه لم يعترف قطّ بسلطتهم بخصوص تفسير الشريعة، وانتقدَ بشدّة دورهم الكابح لأبناء الشعب. ( الكبح هو نقصد به، الإستلاب: حالة الأشخاص الذين يخضعون بسبب ضغوط خارجيّة ” إقتصاديّة، سياسيّة، دينيّة” لحالة استعباد ٍ للأشياء أو للنظم أو أشخاص أخرين، فيفقدونَ بذلكَ أعزّ ما لديهم:الحريّة). هذا الدور الذي نسبوه إلى أنفسهم بدون أيّ مسوّغ قانونيّ، فادّعوا مثلا أنهم ينتمون إلى طبقات عليا لها الحقّ في السيطرة. انتقدَ يسوعُ كلّ إدّعاءاتهم الإجتماعيّة والدينيّة، وتعمّد الإختلاط مع كلّ المرفوضين والمرذولين من قبلهم ومن قبل الناس الذين اعتبروا أنفسهم أسوياء. وأكّد، أنّ هؤلاء المنحطّين، قادرين أكثر منهم على فهم “حريّة أبناء الله”، كلّ الخطأة والمرذولين، والعشّارين والزواني، تجاسَر وقال عنهم، أمام الكهنة والشيوخ، ” الحقّ أقولُ لكم: إنهم يتقدّمونكم إلى الملكوت …” (متى21 : 31).
ولا يقاسِم يسوع موقف معاصريه من المرأة، فقد كانوا، في زمانه، يحتقرونها ويعاملونها كشيء أو كحاجة منزليّة. وأكّد يسوع حقوق الزوجة (متى 5 : 31)، وكان له من بينهنّ صديقات مخلصات، فاختار مرتا واختها مريم ومريم المجدليّة. أمّا بشأن موقفه من السلطة السياسيّة، فهو لم يتردد أن يقول مرّة : ” اذهبوا وقولوا لهذا الثعلبْ (هيرودس الملك …) ( لوقا 13 : 31). إنّ تصرّف يسوع بهذا الشكل، أثار النقمة عليه. ولكن، ممّا يزيد الطين بلة، هو اسلوب عيشه.
فيسوع ليس زاهدًا مثل يوحنا المعمدان. بل يذهبُ إلى حفلات العرس ويقتربُ ببساطة من أبسط الناس، وقيل عنه :” إنه رجلٌ أكول شرّيب خمر … صديق للعشّارين والخاطئين “(متى 11 : 19). وهذه أمورٌ لا تـــغتَفر في العرف السائد. لكن حريّة يسوع كانت عميقة إلى درجة أثّرت حتى بالفريسيين كما شهد أحدهم، ذاك المرائيّ الذي اقتربَ منه يومًا، وقال له وهو يروغ ليُجرّبه : ” يا معلّم، نحن نعلم أنّك صادق، تعرفُ سبيل الله الحقّ، ولا تبالي أحدًأ، لأنك لا تراعي مقام الناس …. (متى 22 : 16).
” شهادة خصم !” وما أصدق شهادة الخصوم. ولكنّ حريّة يسوع كانت تشكّـــــــل خطرًا، لأنها حريّة مُعدية وفعّالة تطلق سراحَ الناس، لأنها حريّة تُحرّر وتطلق الألسن والأرجل، لأنها تطرحُ السؤال الحقيقي. كان هذا السؤال يختلف من جماعة إلى أخرى: فأهلُ الجليل البسطاء الذين شفاهم والذين شغفهم، فكّروا أنّ ليسوعَ علاقة مبـــــــهمةٌ مع العــــــالم العلويّ، إذ إنهم هكذا كانوا يفهمونَ كلّ موهبة. إنها المــخيلة الشعبيّة الساذجة في كلّ مكان وزمان التي تعتبرُ أنّ العالم العلويّ مكوّن من أرواح ٍ خبيثة وسلطة إلهيّة فوقها. هذه العقليّة قديمة قدمَ الإنسان، عنيدة ومتأصّلة فيه تظهرُ في بعض النصوص الإنجيليّة ( مرقس 5 : 1 – 20 ، و 25 34). ماذا كان يجري في فكر كلّ هؤلاء الذين التقوا بيسوع وشفاهم وقال لهم : ” مغفورةٌ لك خطاياك … ” كيف نظروا إلى هذا الرجل ذي ” سلطان وحريّة” يتصرّف بغـــفران الله كما يشاء ؟
إنّ رأي الكتبة كان واضحـــًا، ولربّما رأي العالم اليوم هو : إنه يكفُر ـ يُجدّف! . ولكن، هل يا تُرى فكّرت هكذا تلك الزانية التي غفرَ لها؟ أم بالعكس، شعرت أنه حقا حرّرها من قيودها، ومن المجتمع الذي كبّلها واحتقرها: دينيّا ومدنيّا، ولا يعالج المشكلة من أساسها كما يفعل يسوع! من أينَ ظهر هذا الرجل المُحبّ الحنون الذي لا يدين ولا يحكم (إلا على مَن يحكمون) … لعلّها مثل باقي أصدقاء يسوع، ظلّت كلّ حياتها حائرة تتساءل: من هو يسوع الناصريّ هذاـ وما سرّ حريّته؟
يتبع
المراجع:
محاضرات للأخوة الدومنيكان الواعظين، المطران الدكتور يوسف توما
لاهوت المسيح – دراسات لاهوتية، الصفّ الثالث_ المطران يوسف توما