Messe Au Sanctuaire D'Aglona, Lettonie © Vatican Media

نحن مدعوّون إلى "لمس" معاناة الآخرين على مثال مريم

العظة الكاملة للبابا فرنسيس في أغلونا – مزار السيدة العذراء أم الله

Share this Entry

يمكننا القول إن ما يرويه القدّيس لوقا في بداية سفر أعمال الرسل، يتكرّر اليوم هنا: فنحن متّحدون بشدّة، متفانين في الصلاة، وبرفقة مريم أمّنا (را. 1، 14). ونتبنّى اليوم شعار هذه الزيارة: “أمنا، أظهري نفسك!”، أظهري في أيّ مكان ما زلتِ ترنّمين نشيدك، وفي أيّة أماكن يوجد ابنك المصلوب، كي نجد، عند أقدامه، حضورَك الصامد.

ينقل إلينا إنجيل القدّيس مناسبتين فقط، تتقاطع فيهما حياة يسوع مع حياة مريم: عرس قانا (را. 2، 1- 12)، ومريم عند أقدام الصليب في النصّ الذي قرأناه للتوّ (را. 19، 25- 27). قد يبدو أن الإنجيلي يريد أن يرينا أمّ يسوع في هذه الأوضاع الحياتية، التي تبدو متناقضتين في الظاهر: فرح عرس، وألم من أجل موت الابن. فيما نتعمّق في سرّ الكلمة، تبيّن لنا مريم ما هي البشارة التي يريد الربّ أن يشاركنا بها اليوم.

أوّل أمر يشير إليه الإنجيليّ هو أن مريم “تقف بقوّة” قرب ابنها. إنها ليست طريقة خفيفة في الوقوف، ولا حتى ملتبسة أو بائسة. فهي “مسمّرة”، بحزم، عند أقدام الصليب، معبّرة، عبر وقفة جسدها، أن لا شيء، ولا أحد يمكنه أن يبعدها عن هذا المكان. هكذا تظهر مريم أوّلا: إلى جانب أولئك الذين يعانون، وأولئك الذين يهرب منهم العالم كلّه، وأيضًا أولئك الذين يخضعون للنقد، يُدانون ويُرَحّلون. ولا يقتصر الأمر على كونهم مضطّهدين أو مُستغلّين، ولكنهم “خارج النظام” مباشرة، وعلى هامش المجتمع (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 53). معهم أيضًا، هناك الأمّ، مسمّرة على هذا الصليب، صليب سوء الفهم والألم.

تُظهر مريم لنا أيضًا طريقة في البقاء إلى جانب هذه الوقائع؛ إنه ليس بنزهة أو بزيارة قصيرة، ولا هو “سياحة تضامن”. إنما يجب أن يشعر الذين يعانون من واقع مؤلم، أننا بقربهم وإلى جانبهم، بشكل حازم ومستمرّ؛ يمكن لجميع المهمّشين في المجتمع، أن يختبروا هذه الأمّ القريبة، بكلّ لطف، لأن جراح ابنها يسوع ما زالت مفتوحة في أولئك الذين يعانون. لقد تعلّمتها عند أقدام الصليب. ونحن أيضا مدعوّون إلى “لمس” معاناة الآخرين. لنذهب نحو شعبنا لتعزيته ومرافقته؛ لا نخافنّ من تجربة قوّة الرقّة ولا من إشراك أنفسنا ولا من تعقيد حياتنا من أجل الآخرين (را. نفس المرجع، عدد 270). وعلى غرار مريم، لنبقَ ثابتين وواقفين: قلبنا مرتفع نحو الله، شجعان، فنساعد الذي وقع على القيام، ونرفع المتواضعين، ونساعد في وضع حدّ لأيّ وضع من أوضاع الظلم الذي يجعلهم يعيشون مثل المصلوب.

يسوع يدعو مريم إلى قبول تلميذه الحبيب كابن لها. ويقول لنا النصّ أنهما كانا معًا، ولكن يسوع يرى أن هذا لا يكفي، فهم لم يقبلوا بعضهم البعض. لأنه من الممكن أن يكون المرء قريبًا من العديد من الأشخاص، ومن الممكن أيضًا مشاركة نفس المنزل أو الحيّ أو العمل. من الممكن مشاركة الإيمان نفسه والتأمّل بنفس الأسرار واستمداد الفرح منها، ولكن دون قبول الآخر، دون قبول محبٍّ للآخر. كم من الأزواج يمكنهم أن يخبروا قصّة كونهم قريبين، ولكن دون أن يكونوا معًا؛ كم من الشبّان يشعرون بهذه المسافة التي تبعدهم عن البالغين، وبألم. كم من كبار السنّ يشعرون بأنهم يتلقّون عناية باردة، لا شغف فيها وقبول.

من الصحيح أننا، أحيانا، عندما انفتحنا على الآخرين، قد تألّمنا كثيرا. وصحيح أيضًا أن تاريخ الصدام بين الشعوب، في واقعنا السياسي، لا يزال حديثًا بشكل مؤلم. تُظهر مريم نفسها كامرأة منفتحة على المغفرة، وعلى أن تضع جانباً الحقد وعدم الثقة؛ وترفض أن تتأسّف على “ما كان يمكن أن يكون” لو أن أصدقاء ابنها، ولو أن كهنة شعبه أو لو أن الحكّام تصرّفوا بشكل مختلف؛ لا تسمح لنفسها بأن يتغلّب عليها الإحباط أو العجز. مريم تؤمن بيسوع وتقبل التلميذ، لأن العلاقات التي تشفينا وتحرّرنا هي تلك التي تفتحنا على اللقاء والأخوّة مع الآخرين، لأنهم يكتشفون في الآخر، اللهَ نفسه (را. نفس المرجع، عدد 92). كان مونسينيور زلوسكان، الذي يرقد هنا، بعد أن أوقِف وأرسِل بعيدًا، كتب لوالديه: “أسألكم من أعماق قلبي: لا تدعوا الانتقام أو السخط يشقّ طريقه إلى قلبكم. فلو سمحنا بذلك، فلا نكون مسيحيّين حقيقيّين، إنما متطرّفين”. في الأوقات التي يبدو فيها أن العقليّة التي تدعونا إلى عدم الثقة بالآخرين تعود، وأنهم يريدون أن يثبتوا لنا عبر الإحصائيات أننا، إن كنّا وحدنا، فسنكون أفضل، وسنحظى بالمزيد من الرخاء والمزيد من الأمن، تدعونا مريم وتلاميذ هذه الأرض، إلى القبول، إلى المراهنة، مرّة أخرى، على الأخ، وعلى الأخوّة العالمية.

لكن مريم تَظهر أيضًا كامرأة تسمح لنفسها بأن تُقبَل، والتي تَقبَل بتواضع أن تصبح جزءًا من أشياء التلميذ. وفي ذلك العرس الذي نقص فيه الخمر، وكاد أن يتحوّل إلى طقوسٍ، لا حبّ فيها ولا فرح، هي التي أمرتهم بالقيام بما يقوله لهم (را. يو 2، 5). والآن، مثل تلميذة مطيعة، تسمح بأن تُقبل، وأن تنتقل، وتتأقلم مع نمطِ مَن هو أصغر سنًّا. فالانسجام يكلّفنا دائمًا عندما نكون مختلفين، عندما تجعلنا السنين والقصصُ والظروفُ، نشعرُ ونفكّرُ ونعملُ بطرق تبدو متناقضة للوهلة الأولى. وعندما نُصغي بإيمان إلى أمر القبول والسماح بأن نُقبَل، من الممكن بناء الوحدة في التنوّع، لأن الاختلافات لا تكبحنا أو تقسمنا، ولكننا قادرون على النظر إلى ما أبعد من ذلك، وعلى رؤية الآخرين في أعماق كرامتهم، كأبناء للآب نفسه (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 228).

إننا نتذكّر ذاك اليوم في هذه الذبيحة الإلهية كما في كلّ قدّاس إلهيّ. عند أقدام الصليب، تذكّرنا مريم بفرحِ كوننا أبناءه، وابنها يسوع يدعونا لنحملها معنا إلى بيتنا، ولنضعها في محور حياتنا. وهي تريد ان تهبنا شجاعتها، كي نبقى واقفين بحزم؛ وتهبنا وداعتها التي تسمح لها بالتكيّف مع إحداثيات كلّ لحظة من التاريخ؛ وهي تصرخ في هذا المزار، كيما يعمل الجميع على قبولنا دون تمييز، وكي يعلم الجميع في ليتونيا أننا مستعدّون لإعطاء الأولويّة لأشدّ الناس فقرا، ولإقامة أولئك الذين سقطوا، ولقبول الآخرين هكذا كما يصِلون ويقدّمون أنفسهم لنا.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018

 

Share this Entry

Staff Reporter

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير