مساء الخير لكم جميعا!
شكرًا، مونيكا ويوناس، على شهادتكم! لقد قبلتها كصديق، كما لو كنّا جالسين معًا، في مقهى ما، نتشارك بأمور الحياة، حول كأس من البيرة أو الجيرا، بعد ذهابنا إلى “مسرح الشباب“.
لكن حياتكم ليست عملًا مسرحيًّا، إنها حقيقة، ملموسة، مثل كلّ واحد منّا الموجودين هنا، في هذه الساحة الجميلة التي تقع بين هذين النهرين. ومَن يدري إن كنّا نحتاج إلى كلّ هذا لنقرأ قصصكم ونكتشف فيها مرور الله… لأن الله يمرّ دومًا في حياتنا. يمرّ دومًا. كان يقول أحد الفلاسفة الكبار: “أنا أخاف، عندما يمرّ! الله! أخاف أن أغفل عنه!”
على غرار هذه الكاتدرائية، لقد اختبرتم أوضاعًا جعلتكم تنهاروا، حرائق، كان يبدو لكم أنكم لن تستطيعوا الوقوف مجدّدًا بعدها. لقد التهمت النيران هذا المعبد عدّة مرّات، فانهار، ولكن كان هناك دومًا أشخاصٌ قرّروا أن يعيدوا بناءه، ولم يدعوا المصاعب تتغلّب عليهم، ولم يستسلموا. هناك أغنية رائعة يغنّيها متسلّقو الجبال أثناء تسلّقهم، تقول الأغنية: “في فنّ التسلّق، الشيء المهمّ ليس هو عدم السقوط، إنما هو عدم البقاء في وضع السقوط”. البدء من جديد دومًا، والصعود بهذه الطريقة. مثل هذه الكاتدرائية. وحرّية وطنكم قد بُنِيَت أيضًا على أساس الذين لم يسمحوا للرعب والمصاعب أن تطيح بهم. كان باستطاعة حياة أبيك، ووضعه وموته مونيكا؛ ومرضك يوناس؛ أن يدمّروكما… ولكنكما هنا، تشاركاننا باختباركما، مع نظرة إيمان، وتجعلانا نكتشف أن الله قد أعطاكما النعمة كي تتحملّا، وكي تقفا مجدّدا، وكي تكمّلا مسيرة الحياة.
وأنا أتساءل: كيف انسكبت عليكما نعمة الله هذه؟ لا من الهواء ولا بطريقة سحريّة، ليس هناك من عصًا سحريّة للحياة. لقد حدث هذا بواسطة أشخاص عبروا حياتكما، أشخاص صالحين غذّوكما بخبرات إيمانهم. هناك دومًا أشخاص، في الحياة، يمدّون لنا يد العون كي يساعدونا على الوقوف. مونيكا لقد كانت لك أمّك وجدّتك والرعيّة الفرنسيسكانيّة مثل التقاء هذين النهرين: مثلما يتّحد نهر الفيلنيا بنهر النيريس، لقد انضممتِ، وسمحتِ لتيار النعمة هذا بأن يقودك. لأن الربّ يخلّصنا إذ يجعلنا ننتمي إلى شعب ما. الربّ يخلّصنا إذ يجعلنا ننتمي إلى شعب ما. يدخلنا في شعب، وهويّتنا في النهاية سوف تكون انتماءنا إلى شعب. لا أحد يستطيع القول: “أنا أخلص بمفردي”، فنحن جميعًا مترابطون، نحن جميعًا “في شبكة”. لقد أراد الله الدخول في ديناميكيّة العلاقات هذه ويجذبنا إليه في الجماعة، فيعطي حياتنا شعورًا كاملًا بالهويّة وبالانتماء (را. الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا، عدد 6). أنت أيضًا يوناس، لقد وجدت في الآخرين، في زوجتك، وفي الوعد الذي قطعته يوم زواجك، الدافع للمضيّ قدمًا، وللكفاح، وللعيش. لا تسمحوا إذًا للعالم بأن يجعلكم تظنّون أنّه من الأفضل أن تسيروا بمفردكم. فبمفردنا لا نصل أبدًا. أجل يمكنك أن تتوصّل للنجاح في الحياة، لكن دون محبّة، ودون رفاق، ودون انتماء إلى شعب، ودون تلك الخبرة الجميلة للغاية التي هي المخاطرة معًا. لا يمكننا السير بمفردنا. لا تقعوا في تجربة التركيز على ذواتكم، فتنظروا إلى أنفسكم، ولا تجربة أن تصبحوا أنانيّين أو سطحيّين، إزاء الألم والمصاعب أو إزاء النجاح العابر. لنؤكّد مرّة جديدة أن “ما يحدث للآخر، يحدث لي”، ولنذهب عكس التيّار بالنسبة لهذه الفرديّة التي تعزل، والتي تجعلنا نصبح أنانيّين، وتجعلنا نصبح مغرورين، نهتمّ فقط لصورتنا الخاصّة ورفاهيّتنا. نهتمّ لصورتنا، لمظهرنا. قبيحة هي الحياة أمام المرآة، قبيحة. أما الحياة مع الآخرين فجميلة، مع العائلة، مع الأصدقاء، مع كفاح شعبي… الحياة هي جميلة هكذا!
إننا مسيحيون ونريد أن نركّز على القداسة. ركّزوا على القداسة بدءًا من اللقاء والتواصل مع الآخرين، والتنبّه لاحتياجاتهم (را. نفس المرجع، عدد 146). هويّتنا الحقيقيّة تفترض انتماءً لشعب ما. ليس هناك من هويّة “مختبر”، ليست موجودة، ولا من هويّة “مقطّرة”، هوية “دم صافٍ”: ليست موجودة. توجد هوية السير معًا، الكفاح معًا، المحبّة معًا. توجد هويّة الانتماء إلى عائلة، إلى شعب. توجد هويّة تعطيك المحبّة، والحنان، والاهتمام بالآخرين… توجد الهويّة التي تعطيك القوّة كي تكافح، وفي الوقت نفسه تعطيك الحنان كي تعانق الآخرين. كلّ منّا يعرف جمال الانتماء إلى شعب، وأيضًا مصاعبه –من الجميل أن يتعب الشبيبة، فهي علامة على أنهم يعملون-، وفي الكثير من الأحيان، ألم الانتماء إليه، وأنتم تعرفون هذا. هنا تترسّخ هويّتنا، لسنا أشخاصًا دون جذور. لسنا أشخاصًا دون جذور.
لقد ذكر كلاكما الانتماء إلى الجوقة، والصلاة في الأسرة، والقدّاس الإلهيّ، والتعليم المسيحيّ، ومساعدة الفقراء؛ إنها أسلحة قويّة يعطينا إياها الله. الصلاة والترتيل، كي لا ننغلق في حضوريّة هذا العالم: عبر توقكما لله خرجتما من ذواتكما واستطعتما التأمّل بما يحدث في قلبكما بأعين الله (را. نفس المرجع، عدد 147)؛ وعبر العزف انفتحتما على الاصغاء وعلى الجوهر الداخلي، وسمحتما لإحساسكما بأن يتأثّر وهذه تشكّل دومًا فرصة جيّدة للتمييز (را. السينودس المكرّس للشبيبة، أدوات العمل، عدد 162). ويمكن للصلاة بالتأكيد أن تكون خبرة “جهاد روحي”، ولكن هكذا نتعلّم الإصغاء للروح، وتمييز علامات الأزمنة، واستعادة القوى من أجل الاستمرار بالبشارة بالإنجيل اليوم. وإلّا فكيف يمكن أن نكافح الإحباط إزاء الصعوبات التي نواجهها ويواجهها الآخرون، إزاء أهوال العالم؟ وكيف كنّا لنتصرّف دون صلاة، كيلا نظنّ أن كلّ شيء يعتمد علينا، وأننا وحدنا إزاء المواجهة المباشرة للشدائد؟ “أنا ويسوع، أغلبيّة مطلقة!”. لا تنسوا هذا، هذا ما كان يقوله قدّيس، القدّيس ألبيرتو هورتادو. فاللقاء به، وبكلمته، بالافخارستيا، يذكّرنا أن قوّة العدوّ لا تهمّ؛ لا يهمّ إن كان فريق الـ زالجيريز كاوناس الأوّل أم فريق الـ فيلنيوس ريتاس [تصفيق، يضحكون]… بالمناسبة، أسالكم: من هو الأوّل؟ [يضحك، يضحكون]، لا يهمّ من هو الأوّل، لا تهمّ النتيجة، إنما المهمّ هو أن يكون الربّ معنا.
لقد ساندتكما أنتم أيضًا خبرة مساعدة الآخرين، واكتشاف أن هناك أشخاص بالقرب منّا يمرّون بصعوبات، وأسوأ منّا. مونيكا، لقد أخبرتنا عن التزامك مع الأطفال المعاقين. إن رؤية هشاشة الآخرين يضعنا في الواقع، ويمنعنا من العيش ونحن نضمّد جراحنا. من القبيح أن نحيا في الشكاوى، قبيح. من القبيح أن نحيا ونحن نضمّد جراحنا! كم من الشبّان يغادرون بلادهم بسبب نقص الفرص! كم من ضحايا الاكتئاب والكحول والمخدّرات! أنتم تعرفون ذلك جيّدًا. كم من كبار السنّ يعانون من الوحدة، دون أن يكون هناك من يشاركهم الحاضر ومع الخوف من أن يعود الماضي. باستطاعتكم أنتم الشبيبة الإجابة على هذه التحدّيات عبر حضوركم وعبر اللقاء بينكم وبين الآخرين. إن يسوع يدعونا للخروج من ذواتنا، والمخاطرة “وجهًا لوجه” مع الآخرين. صحيح أن الإيمان بيسوع غالبًا ما يعني القيام بقفزة إيمانٍ في الفراغ، وهذا أمر مخيف. وفي أحيان أخرى يقودنا إلى أن نتساءل، إلى الخروج من أنماطنا، وهذا قد يجعلنا نعاني، ونميل للإحباط. ولكن كونوا شجعان! إن اتّباع يسوع هي مغامرة مثيرة، تملأ حياتنا بالمعنى، وتجعلنا نشعر بانتمائنا إلى جماعة تشجّعنا، إلى جماعة ترافقنا، وتلزمنا في الخدمة. أيّها الشبيبة الأعزّاء، إن اتّباع المسيح جدير بالمجازفة، جدير بالمجازفة! لا نخافنّ من المشاركة في الثورة التي يدعونا إليها: ثورة الرقة (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 88).
لو كانت الحياة عمل مسرحيّ أو لعبة فيديو، لكانت محدودة الوقت، لها بداية ونهاية، عند إنزال الستارة أو عندما يفوز أحدهم في اللعبة. لكن الحياة تُقاس بأوقات مختلفة، لا بأوقات المسرح أو لعبة الفيديو؛ الحياة “تُلعب” في أوقاتٍ تتعلّق بقلب الله؛ أحيانًا نتقدّم، وأخرى نتراجع، نختبر ونجرّب طرق، نغيّر… يبدو أن التردّد يأتي من الخوف من سقوط الستارة، أو من أن تضعنا “ساعة التوقيف” خارج اللعبة، خارج الصعود إلى مستوى أعلى في اللعبة. لكن الحياة هي دومًا مسيرة، الحياة هي مسيرة، لا تتوقّف؛ الحياة هي دومًا مسيرة بحثٍ عن الاتّجاه الصحيح، دون الخوف من العودة للوراء عند الخطأ. الأمر الأخطر هو الخلط بين المسيرة والمتاهة: ذاك الدوران في الفراغ عبر الحياة، حول ذواتنا، دون أن نأخذ الطريق الذي يؤدّي إلى الأمام. من فضلكم لا تكونوا شبيبة المتاهة، التي يصعب الخروج منها، إنما شبيبة في مسيرة. لا متاهة: في مسيرة!
لا تخافوا من أن تتّبعوا يسوع، وأن تعانقوا قضيّته، قضيّة الإنجيل، قضية الأنسانية، قضية البشر. لأنّه لن ينزل من قارب حياتنا، سيكون دومًا على تقاطع طرقنا، لن يتوقّف أبدًا عن إعادة بنائنا، حتى وإن عملنا أحيانًا على هدم أنفسنا. إن يسوع يعطينا أوقاتاً واسعة وسخيّة، حيث هناك مجال للفشل، وحيث لا يحتاج أحد إلى الهجرة، لأن هناك مكان للجميع. سوف يريد الكثيرون أن يشغلوا قلوبكم، ويغمروا حقول طموحاتكم بالزؤان، ولكن في النهاية، إذا أعطينا حياتنا للربّ، فسوف تنتصر دائمًا البذور الجيّدة. إن شهادتكما، مونيكا وجوناس، تحدثتا عن الجدّة، وعن الأم … أودّ أن أقول لكما-ومع هذا انتهي، لا تقلقوا!- أودّ أن أقول لكما ألّا تنسيا جذور شعبكما. فكّرا بالماضي، وتحدّثا إلى كبار السنّ: ليس من المملّ الحديث مع كبار السنّ. اذهبا وابحثا عن كبار السنّ واجعلاهم يتكلّمون عن جذور شعبكما، وعن الأفراح، والمعاناة، والقيم. وهكذا، انطلاقا من الجذور، وسوف تحملان شعبكما وتاريخه للتقدّم من أجل ثمرٍ أكبر. أيها الشباب الأعزاء، إذا كنتم تريدون شعباً كبيراً، حراً، فعليكم أن تأخذوا الذاكرة من الجذور وأن تحملوها للتقدّم. شكرًا جزيلًا!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018