فخامة رئيسة الجمهورية،
السادة أعضاء الحكومة والسلطات،
السادة أعضاء السلك الدبلوماسي المحترمين،
أصحاب السيادة،
سيداتي وسادتي،
إنه لمِن دواعي سروري أن أكون في وسطكم هنا في تالّين، العاصمة الأكثر شماليّة التي سمح لي الربّ أن أزورها. أشكرك فخامة الرئيسة على كلمات الترحيب وعلى الفرصة لمقابلة ممثّلي شعب إستونيا هذا. أعلم أنه يوجد بينكم أيضًا منتدبون عن قطاعات المجتمع المدنيّ وعالم الثقافة ممّا يسمح لي بأن أعبّر عن نيّتي لمعرفة المزيد عن ثقافتكم، ولا سيما عن تلك القدرة على المرونة التي سمحت لكم بأن تبدأوا من جديد إزاء الكثير من الشدائد.
إن هذه الأراضي تحمل اسم “أرض مريم” (Maarjamaa) منذ عصور. وهو اسم لا ينتمي إلى تاريخكم وحسب، إنما هو جزء من ثقافتكم. عندما أفكّر في مريم تثير في نفسي كلمتين: ذاكرة وخصوبة. فهي امرأة الذاكرة التي تحفظ كلّ ما تعيشه، ككنز، في قلبها (را. لو 2، 19)؛ وهي الأمّ الخصبة التي تولّد حياة ابنها. لهذا السبب أودّ أن أفكّر في إستونيا، كأرض الذاكرة والخصوبة.
أرض الذاكرة
لقد اضطرّ شعبكم إلى تحمّل أوقات صعبة من المعاناة والضيق، في فترات مختلفة من التاريخ. الكفاح من أجل الحرّية والاستقلال اللذين كانا دومًا عرضة للتشكيك والتهديد. ولكن المجتمع الإستوني، في السنين الخمسة والعشرين الأخيرة ونيف –التي فيها دخلتم بالكامل في عائلة الأمم- قد قام “بخطوات عملاقة”؛ وبلدكم، بالرغم من صغره، هو من بين أوائل المؤشّرات للتنمية البشريّة، بفضل قدرته على الابتكار، إضافة إلى إظهار مستوى عالٍ فيما يتعلّق بحرّية الطباعة، والديموقراطية والحرّية السياسيّة. وقد نميّتم أيضًا أواصر التعاون والصداقة مع بلدان مختلفة. إذ ننظر إلى ماضيكم وإلى حاضركم، نجد دوافع للنظر إلى مستقبلكم برجاء إزاء التحدّيات الجديدة التي تواجهونها. أن تكون أرضكم أرض الذكرى يعني أن تعرفوا التذكّر بأن المكانة التي توصّلتم إليها اليوم، إنما هي بفضل جهد آبائكم، وعملهم، وروحهم، وإيمانهم. إن تنمية الذاكرة الممتنة تسمح بتحديد كلّ النتائج التي تتمتّعون بها اليوم مع تاريخ رجال ونساء جاهدوا من أجل أن تصبح هذه الحرّية ممكنة، والتي بدورها تحثّكم على أن تشيدوا بهم، فتفتحوا طرقًا من أجل الذين يأتوا من بعدكم.
أرض خصوبة
كما قد أشرت في بدء رسالتي كأسقف روما، “تعيش البشرية في هذا الوقت، منعطفًا تاريخيًّا يمكن أن نشاهده في التقدّم الحاصل في الميادين المختلفة. من الواجب مدح النجاحات التي تسهم في رفاهة الأشخاص” (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 52)؛ ولكن، يجب التذكير بإلحاح أن الرفاهة لا تعني دومًا العيش بشكل جيّد.
إن إحدى الظواهر التي يمكننا أن نراها في مجتمعاتنا التكنوقراطية هي فقدان معنى الحياة، وفرح العيش وبالتالي، انخماد بطيء وصامت للقدرة على الاندهاش والذي غالبًا ما يُغرق الأشخاص في صراع وجوديّ. قد يُفقد شيئًا فشيئًا أيضًا الادراكُ بالانتماء إلى الآخرين وبالكفاح من أجلهم، وبترسّخ الجذور في شعب ما، وفي ثقافة ما، وفي أسرة ما، فيُحرم الشبيبة بصورة خاصة، من الجذور التي منها يبنون حاضرهم ومستقبلهم، لأنهم بهذا يُحرَمون من قدرتهم على أن يحلموا ويخاطروا ويبدعوا. ووضع “الثقة” في التطوّر التكنولوجي كطريقة وحيدة ممكنة للتطوير، قد يؤدّي إلى فقدان القدرة على إنشاء روابط شخصيّة، وبين مختلف الأجيال والثقافات. أي باختصار، فقدان الأنسجة الحيويّة المهمّة للغاية التي تشعرنا بأننا جزء من بعضنا البعض وشركاء في مشروع مشترك بأوسع معاني الكلمة. وبالتالي، إن أهم مسؤوليّة نحملها عندما نأخذ دورًا اجتماعيًا أو سياسيًا أو تعليميًا أو دينيًا، تكمن في كيف نصبح صانعي روابط.
الأرض الخصبة تتطلّب سيناريوهات، تترسّخ منها وتؤسّس شبكة حيوية يمكن أن تجعل أفراد المجتمع يشعرون أنهم “في المنزل”. لا يوجد انسلاخ أسوأ من تجربة عدم امتلاك جذور، وعدم الانتماء لأحد. فالأرض تكون خصبة، والشعب يعطي ثمرًا، ويولّد غدًا، فقط بقدرِ إحيائه علاقات انتماء فيما بين أعضائه، وبقدر ما يخلق روابط إدماج بين مختلف الأجيال والجماعات التي تكوّنه؛ وأيضًا بقدر ما يكسر الدوامات التي تحجب الحواس، فتبعدنا أكثر فأكثر عن بعضنا البعض. أودّ أن أؤكّد لكم أيها الأصدقاء الأعزاء، أنه بإمكانكم، في مجهودكم هذا، أن تعتمدوا على عون الكنيسة الكاثوليكية ومساعدتها؛ إنها جماعة صغيرة في وسطكم، ولكن ذات رغبة كبيرة في المساهمة في خصوبة هذه الأرض.
فخامة الرئيسة، سيداتي وسادتي، إني أشكركم مجدّدًا على الاستقبال والضيافة. ليبارككم الربّ وليبارك شعب إستونيا الحبيب. وليبارك بشكل خاص، المسنّين والشبّان كيما، بحفظهم الذاكرة وبأخذها على عاتقهم، يجعلون من هذه الأرض نموذجًا للخصوبة. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018