إنتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة غريبة في الكنيسة، هي عبارة عن أفكارٍ يقول بها بعض الكهنة أو حتّى بعض اللاهوتيين المعروفين جدًا في الوسط الكاثوليكي الأكاديمي، لا علاقة لها لا بتعليم الكنيسة المقدّسة ولا بالتقليد الرسولي والإيمان المستقيم ولا بالآباء القدّيسين. وحتى لم نقرأ عنها البتّة في كتابات القدّيسين المعاصرين ولم يردْ ذكرها في أيّة روحانية من روحانيات كنيستنا لا شرقًا ولا غربًا. وهي بأغلبها بإيحاء وبتأثير من فكر العصر الجديدNew Age الذي يمتدّ كالأخطبوط، لابسًا تارةً لباسَ العلوم الكاذبة pseudo sciences وطورًا لباسَ الحداثة والعلوم الإنسانية حتى تلك المتقدّمة منها مثل فيزياء الكمPhysique Quantique . فيقتطع منها بطرقه الملتوية ما يشاء من مصطلحات ونظريات علمية، ليضعها في غير محلّها. هدفه أن يأخذ له مصداقية علمية من جهة ويُثبت صحّة ادّعاءاته الكاذبة من جهةٍ أخرى. كلّ هذه الأفكار ينفثها كالسمّ الزعاف في عقول وألباب المؤمنين، خصوصًا الشباب المتعلّمين والمثقّفين منهم، فيصدّقونها على أنها علمًا أكيدًا وينحرفون عن الإيمان الصحيح.
بالفعل العصر الجديد غنوصية ووثنية جديدة، بشهادة خبراء كثيرين، تحضّر بلا شك “لمسيّانية كاذبة” سبق وحذّرت منها الكنيسة المقدّسة وقالت إنّه لا بدّ للكنيسة، قبل مجيء المسيح، “من أن تجتاز امتحانًا أخيرًا يزعزع إيمان كثير من المؤمنين (لو18/ 8 ومت24/ 12). والاضطهاد الذي يرافق زيارته للأرض يكشف “سرّ الجور” في شكل تدجيلٍ ديني يقدّم للبشر حلّاً ظاهرًا لقضاياهم ثمنُه جحود الحقيقة” (بند 675 من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية). وكما قال الرسول بولس لتلميذه تيموتاوس إنّه يأتي زمنٌ “لا يحتمل فيه الناس التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمّين مستحكة مسامعهم فيصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات” (2تم4/ 3-4).
إذن صار هذا الفكر مقبولاّ ورائجًا لكثرة ما روّجت له وسائل الإعلام والإنترنت. وهو جذّابٌ وأنيق يلبسُ لباسَ التقوى والمصطلحات العلمية الفارغة من العلوم ويحمل رايات الأنسنةhumanisme والدفاع عن حقوق الطفل والمرأة والأقليات الجنسية LGBT والحريات الجنسية (بما فيها الحرية الجنسية للأطفال) والمساكنة والحفاظ على البيئة والحيوان والمطالبة بتشريع زواج المثليّين وتبنّيهم للأولاد وتشريع الإجهاض والقتل الرحيم الخ…
نذكر بعضا” من هذه الأفكار الغريبة والأكثر شيوعاً بين بعض المؤمنين إكليروساً وعلمانيين:
-1 إنكار وجود الشيطان ككائن حقيقي والتكلّم عنه كمجرّد فكرٍ سلبي أو طاقةٍ سلبية موجودة في فكر الإنسان وفي الطاقات الكونية المخلوقة. بإيحاء من تعاليم العصر الجديد التي تروّج للحلولية ولطاقة كونية حيوية يسمّونها تشيChi أو كيQi أو براناprana وكلّها مأخوذة من ديانات الشرق الأقصى كالهندوسية والبوذية والطاوية. لذلك فهؤلاء لا يعتقدون بالإستحواذ الشيطاني أو بالمسّ الشيطاني، بل كلّ الحالات المرَضية عندهم هي حالات نفسية أو نفسية فيزيولوجيةPsychosomatique، يمكن علاجها فقط بالتحليل النفسي أو بتقنيات مستحدثة هي عبارة عن بدائل نفسية لا يقبل بها علم النفس الكلاسيكي عمومًا. تعطى هذه البدائل في غالب الأحيان بشكل دورات قصيرة الأمد تمتدّ لأسبوع أو أسبوعين في معاهد ونوادٍ أو بواسطة دورات عبر الإنترنت لقاء مبالغ مادية غير قليلة. (نشير إلى أنّ الحالات المرَضية النفسية بالتأكيد ليست جميعها استحواذاً أو مسّاً ولا بدّ من التمييز ما بين الحالات النفسية والروحية، ولا شك أنه بإمكان علم النفس الكلاسيكي والأكاديمي مساعدة المريض بشكلٍ كبير حتى يخطو خطوات إلى الأمام في مسيرة العلاج.)
كلّ هذا إذن هو وليد مفهوم الطاقة الحيوية والألوهة غير الشخصية والحلولية التي ينادي بها العصر الجديد. وأيضًا بتأثيرٍ من ثنائية السالب والموجب، الذكورة والأنوثة، ومبدأيْ الين واليانغYin et Yang المتلازمَين والمكمّلَين بعضهما بعضًا في هذه الطاقة الكونية. لذلك يتكلّمون أيضا عن “الخنثية”Androgynie ونظرية الجندرgender theory أي وجود جنسيْ الذكورة والأنوثة معا” في الشخص الواحد لتشريع المثلية وممارساتها على أنها أمرٌ طبيعي .(تعليم الكنيسة واضح بخصوص هوية الشيطان فالشرّ ليس شيئًا مجرّدًا بل هو يدلّ على شخص (بند 2851 من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية).
2- إنكار وجود جهنم بتأثير من الإعتقاد بالتقمّص وميزان الكارما والزمن الدوري وعدم وجود الخطيئة. وهي تعاليم أخذها العصر الجديد عن ديانات الشرق الأقصى وأيضًا بتأثير من الفكر النسبي أو “النسبوية”، الذي يجعل الخير والشر أمرًا نسبيا” ويهمّش الحق المطلق المعلن في الوحي الكتابي. بالتالي هم ينكرون الخطيئة ويجمّلونها بالمساحيق العصرية ويتساهلون ويتهاونون بخصوصها، بحجّة مسايرة الشباب لجذبهم إلى الإيمان بالمسيح ومجاراة تطوّر العصر.
3- الإيمان بقدرات روحية فائقة للطبيعة خارجًا عن المسيح وعمل النعمة، مصدرها الإنسان نفسه وقدراته الخفية أو مصدرها قوى كونية أو كائنات روحية لا تمتثل لسلطة المسيح. لذلك يروّجون مثلاً لما يسمى بالإدراك ما فوق الحسيPerception extra sensorielle أو لمواهب روحية خفائية كالكتابة الأوتوماتيكية والرؤى والمعرفة المسبقة. أو التفكير الإيجابيpositive thinking وقانون الجذبlaw of attraction وغيرها. النتيجة هي تهميش عمل النعمة و عمل الروح القدس.
4- إعتقاد البعض بكائنات فضائية وبعوالم موازية في مجرات بعيدة أو بالأطباق الطائرة UFO أو بفرضيات كاذبة كتلك المنسوبة إلى ماسارو إيموتو وآلة تصوير كيريليان وغيرها. مع العلم أنّ لا إثباتات علمية على كلّ هذه الإدعاءات. أو يعتقدون بأسطورية الأحداث البيبلية ويعتبرون شخص المسيح اقتباسًا عن الأساطير الوثنية وإنه مجرّد نبي من الأنبياء أو أفاتار Avatar أيّ أحد تجسّدات “الوعي المسيحاني” Conscience Christique، مثله مثل بوذا وراماكريشنا وغيرهم. هذا أيضا بتأثير من فكر العصر الجديد.[1]
5- إعتقاد البعض بنظرية التطور الدارويني، التي لا إثباتات علمية جديّة عليها. (من الضروري هنا التمييز بين 3 أنواع من التطوّر: التطوّر الطبيعي كأن ينمو الإنسان جسديًا ونفسيًا وهذا الأمر بديهي ومقبول، والتطوّر البالغ الصغر Micro Evolution ضمن الجنس الواحد بحسب الإنتخاب الطبيعي وهذا أيضًا له براهين علمية، والتطوّر الكبير Macro Evolution الذي يدّعي أنّ تطورًا حصل منذ آلاف السنين من جنس إلى آخر، وهذا ما ينادي به الإلحاد المعاصر تحت غطاء العلوم الزائفة وليس له براهين علمية)
6- الميل إلى عقلنة الدراسات البيبلية على حساب الوحي الإلهي. والتخلّي تدريجياً عن التراث الآبائي وكتابات الآباء القدّيسين وتعاليمهم والتقليد الرسولي. والتشكيك في عقائد الكنيسة واعتبارها إرثًا باليًا على الكنيسة تعديلها وتحديثها بما يتناسب مع فكر العصر، بحجّة الحداثة والاكتشافات العلمية الجديدة وتطور العلوم عامة. والإهتمام المبالغ فيه بعلم النفس واعتماد تفاسيره في النصوص البيبلية على حساب التفسير الآبائي الكنسي الموحى به من الله.
7- ظهور بعض المؤلّفات المنحرفة للاهوتيين مهمّين وقد أدانتها الكنيسة وحذّرت منها، يطغى عليها روحٌ غريب: متأثرّ بروحانيات الهندوسية والبوذية والطاوية، فيه تهميش أو تشويه لشخصانية الله الثالوث وللكشف المعلن في الوحي الإلهي، فيه إنكار لألوهية المسيح ومساواته بسائر الأنبياء، الإنسان فيه هو المحور والأساس وهو مصدر لكلّ خيرٍ وصلاح وله قدرات لامحدودة ومخفية عليه اكتشافها لتحقيق أحلامه وبلوغ السعادة المنشودة، دعوة الإنسان إلى اتباع مسار روحي خاص به بمعزل عن الحقّ المعلن (مسار باطني كما في العلوم الباطنية الايزوتيريك)، اعتماد مبدأ النسبية والانسان كمرجع دون الله…
8- إستبدال الإرشاد الروحي والأبوّة الروحية بالتحليل النفسي. روّجت له خصوصًا دورات في الرياضات الكنسية تخلط النفسي بالروحي وتدخل تقنيات نفسية بديلة تتسلّل منها تعاليم العصر الجديد. وقد حذّر باباوات عديدون منهم البابا بندكتس السادس عشر والبابا فرنسيس في عدّة مناسبات من هذا الإنحراف نحو “نفسَنة” ما هو من النعمة. من هذه التقنيات النفسية البديلة الرائجة بقوّة في هذه الأيام: البرمجة اللغوية العصبيةPNL، السوفرولوجيsophrologie، التنويم الإيحائي hypnose ، التاسوعيةenneagrame، التأمل الشرقي الاسيوي مثل اليوغا والتأمل التجاوزي وتأمّل الوعي الكامل، Mindfulness جستالتgestalt وعلم النفس عبر الشخصيpsychologie transpersonnelle وعلم النفس الإيجابيpsychologie positive والتفكير الإيجابي Pensee Positive وغيرها. كل هذه التقنيات تتمحور حول الذات وقدراتها الكامنة اللامحدودة والخفيّة في قوالب وأنظمة ومسارات محدّدة تتعامل مع الإنسان كأنه روبوت يمكن برمجته، هدفها النجاح على المستوى الشخصي والمهني والتميّز والكمال الشخصي بأي ثمن، بطرقٍ وهمية وإيحائية. لا مكان فيها لنعمة الله ولا للقداسة، إقتداء بشخص المسيح الإله والإنسان.
9- إدخال ما يُسمّى بتأمل هجين يجمع اليوغا والتأمل المسيحي ويسمى بيوغا مسيحية. يروّج له بعض الكهنة في الأديرة والمؤسّسات الكاثوليكية مخالفين بشكل صريح تعاليم الكنيسة ولا مبالين لإرشاداتها (مثل ما ورد في وثيقة يسوع الحامل الماء الحي و الرسالة الى الأساقفة الكاثوليك في بعض مظاهر التأمل المسيحي، الصادرتين عن حاضرة الفاتيكان تحذّران فيهما من خلط بين هذين التأملين بسبب التناقض بينهما وخطورة هذا الأمر). وقد تسبّب هذا الخلط ببلبلةٍ كبيرة وبضياع المؤمنين وانقسامهم بين مؤيّد ومعارض له.
10- تسرّب فكر ملتبس إلى بعض اللاهوتيين المولجين بالحوار المسكوني ينادي بنظرية “التعدّدية الدينية” التي أطلقها جون هيكJhon Hick(1922-2012) والتي استوحاها من الفيلسوف إيمانويال كانط Emanuel Kant وهي تدعو لفهم الدين على أساس مركزية الحقيقة (النسبية) بدل مركزية المسيح. وقد أدان البابا بندكتس السادس عشر والبابا القديس يوحنا بولس الثاني “النسبية الدينية” بشدّة ومن ضمنها “النسبية في اللاهوت” في مناسبات عدّة [2] وهذا أيضًا بتأثير من العصر الجديد الذي يروّج لديانة عالمية واحدة ويقول إنّ كل الديانات متساوية وهي طرق مختلفة تؤدي جميعها إلى الله.
هذه باختصار أهمّ الإنحرافات التي سبّبها تسلّل العصر الجديد في الكنيسة ويُخشى أن يتفاقم الأمر مع انتشار وسائل التواصل الإجتماعي والإنترنت حيث يروّج أتباع العصر الجديد بشكلٍ واسع لتعاليمهم المضلّلة ويضطلع عليها مؤمنون يجهل أغلبهم، ويا للأسف، تعاليم الكنيسة المقدّسة والكتاب المقدس.
لمجد المسيح. (يتبع)
جيزل فرح طربيه- باحثة في البدع.
[1] يمكنكم معرفة المزيد حول هذه الفرضيات والردود العلمية عليها في كتابنا الجديد الذي سيصدر قريبا جداً عن دار المشرق بعنوان:” تيار العصر الجديدNew age من وجهة نظر الايمان المسيحي”
[2] http://www.vatican.va/roman_curia/congregations/cfaith/cti_documents/rc_cti_20120308_ladaria_fr.html