نهار الأحد الماضي خلال القداس الإلهي، لفتتني فتاةٌ صغيرة جميلةٌ جدًا، لا يتجاوز عمرها السنتين أو الثلاث سنوات لا أدري… تكلّل هامتها الصغيرة خصلاتٌ طويلة سوداء، عيناها صغيرتان لوزيّتان لامعتان، ترتدي فستانًا ملوّناً… وتتبخترُ في صحن الكنيسة!
كانت تزرع الأروقة ذهابًا وإيابًا ولا تهدأ، تتسلّق درجات الايقونوستاز ثم تنزل، تجلس هنيهة على الكرسي المخصّص للأسقف وتنظر من علو إلى الناس بفرح كأنّها حقّقت إنجازا” عظيما” ووصلت إلى قمّة الجبل،
تدخل من الباب الجانبي وتسترقّ النظر الى الداخل، تمشي وراء الكاهن في “الدخول الصغير” ثم تركض أمامه في “الدخول الكبير”، تجلس بارتياح تحت قدميه وهو يقرأ الإنجيل، تغفو لهنيهة تحت أيقونة والدة الإله
ثم تستيقظ وتنسل وراء الكاهن لتشدّ أذيال ثوبه وهو يعظ!
أحمد الله أنّه عندما ابتدأ النشيد الشيروبيمي اختفت فجأةً وغابت عن ناظري فرفعتُ قلبي إلى العلاء…
ربما نجحت أمّها في استبقائها بأمر الطاعة على المقعد الخشبي.
ولمّا بدأت المناولة المقدّسة وأنا واقفة في الصفّ الطويل، وجدتُها جالسة عن يميني على الأرض، فمددتُ لها يدي ولامستُ رأسها وأشرتُ إليها أنْ إنهضي لكنّها استحت ولملمت نفسها وهربت منّي…
لمّا عدتُ إلى مكاني وأغمضت عينيّ وأنا أشكر الرب على عطاءاته اللامتناهية ومأكله السماوي المحيي الأطيب والألذّ، سمعتُ في داخلي صوتًا خافتا” حلوا” يوشوشني: يا صغيرتي، يا حبيبتي، يا ابنتي المدلّلة الحلوة جدًا في عيني، أنتِ مثل هذه الطفلة الصغيرة، المتنزّهة في بيت أبيها بغُنج، “المعجوقة” وغير المنضبطة، الطائشة و الغافية، الكسولة والمتهاونة، لكن الفرحة والمطمئنّة على الدوام، التي لا تطيق غمّا” ولا تحمل همّاً، ولا يكبّلها أيّ شكلٍ من أشكال الطقوس بل تسجد بالروح والحقّ المحرّر، ويحلو لها في بعض الأحيان أن تتسلّل بعفويّة إلى قدس أقداسي، إلى قلب قلبي، لتطلب مني بدالةٍ البنوّة، نظرة عطف ورحمة ورأفة، هُنيهة غفران، لأنهّا لا تسعى إلّا إلى رضاي وحدي…
مع أنّها تهربُ أحياناً منّي وتتوارى عن الأنظار لكنّها تسرح في وِسع مساكني لأنّها ابنتي المحبوبة جداً.
مزاجيةٌ هي، تبتسم، تضحك، تغضب أو تحزن وعندما تذرف دموع التوبة وتطلب منّي الغفران وخلاص النفوس بحرقة، كيف لا أصغي؟؟ كيف لا أرى عينيها؟؟
لذلك تعاليْ يا ابنتي “قد سبيتِ قلبي … قد سبيتِ قلبي بإحدى عينيك” (نشيد٤/٩)
“قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالي. لأنّ الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال.
الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سمع في أرضنا.
التينة أخرجت فجها، وقعال الكروم تفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالي.
يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني وجهك، أسمعيني صوتك، لأنّ صوتك لطيف ووجهك جميل”. (نشيد ٢/ ١٠- ١٤)
خرجتُ من الكنيسة لكن بقي قلبي فيها وقلتُ يا ليتني أبقى…
“جيّدٌ أن أبقى ها هنا وأصنعُ لي خيمة” حتّى لا تضيع منّي طفلتي الصغيرة والبريئة… ابنة أبيها السماوي، وارثة الملكوت! ورحتُ أردد ّفي طريق العودة ما قالته عروس النشيد: “أنا لحبيبي وحبيبي لي… أنا لحبيبي، وإليّ اشتياقه…”
“أستحلفكنّ يا بنات أورشليم إن وجدتنّ حبيبي أن تخبرنه بأنّي مريضة… حبّاً!” (نش٥/ ٨ و٦/ ٣ و٧/ ١٠)
يا فرحي المسيح قام!