- ضياع حياة
يعاني أجيالُ هذا العصر، يومًا بعد يوم، من أزماتٍ فادحة وصعوباتٍ جمّة، وتعقيداتٍ خانقة، وتحدّياتٍ كبيرة. أصبح عصرنا في مهبّ الرياح العاتية، التي تعصف بقوّةٍ في مصير أفراد المجتمع، لاسيّما الشباب ومستقبلهم.
يبحث علماء الاجتماع والنفس والاقتصاد، كما الديانات السماويّة عن أسباب تلك “الحالة” القاسية، التي تؤثّر سلبًا وبشكلٍ مباشر على حياة أفراد المجتمع. دخل عصرنا في عتمة الظلمة الموحشة، رافضًا نور الفكر والمنطق، كما التعاليم السماويّة، والمبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة.
نعم، ارتكزت وراهنت شريحةٌ من شرائح المجتمع، على أنّ الحلول لتلك الأزمات، تأتي بالهروب إلى الأمام، من خلال العزلة والتخاذل والضعف وعدم المواجهة والارتهان إلى الخيال ومن خلال استخدام المخدِّرات.
نعم، يحاول قسمٌ كبيرٌ من مستخدمي المخدِّرات، الهروب من الواقع، عبر اللجوء إلى حلول خياليّة ووهميّة، تؤدّي إلى نتائج سلبيّة ومؤذية. لن ندخل كثيرًا في المسببّات المتعدّدة للإدمان على المخدِّرات، لكن سنتوقّف قليلاً عند بعض “الأسباب والعوامل” المتعارف عليها علميّاً، وأبرزها: العوامل الشخصيّة، ومنها: عدم توفير وامتلاك المعلومات الصحيحة حول المخدِّرات، وتأثيرها ونتائجها على الحياة الصحيّة والنفسيّة، والعلائقيّة والاجتماعيّة، على المدى القريب والبعيد، عدم النضج والوعي، وانعدام المهارات الشخصيّة والحياتيّة، مثل تقدير الذات، والقدرة على اتّخاذ القرارات الصائبة، وحلّ الصعوبات ومواجهة التحدّيات والضغوطات الحياتيّة على جميع الصّعد.
لا بدّ أن نذكّر، أنّ الأمراض والاضطرابات النفسيّة تجتاح عالمنا، ممّا يؤثّر على الذين يعانون كثيرًا من صعوبات جمّة (على جميع الأصعدة)، للإرتهان للمخدِّرات.
- أسباب ونتائج
يومًا بعد يوم، تتكاثر الأسباب التي تؤدّي إلى الإدمان على المخدِّرات، على سبيل المثال، العوامل الاجتماعيّة والعلائقيّة، الأوضاع الاقتصاديّة والعاطفيّة والأخلاقيّة، ونعني بها التربية على المفاهيم الصحيّة، والقيم والمبادئ الإنسانيّة. زِد على ذلك عدم وجود أُطُر كافية للنشاطات الثقافيّة والفنيّة والرياضيّة، أو حتى لأوقات التسلية، فيقع الفرد في حالة من الفراغ والضجر، ممّا يعزّز لديه روح الكآبة والقلق، والإحباط والاشمئزاز. يتحدّث أغلب علماء النفس والطبّ والاجتماع، عن الرابط بين الخصائص الجينيّة والتأثير لسائر العوامل، في عمليّة الارتهان في تطوّر استخدام المخدِّرات والتبعيّة لها.
نعم، ينتج عن الإدمان على المخدِّرات مخاطر ومشاكل جمّة، وأعراض صحيّة ونفسيّة، وعلائقيّة واقتصاديّة وقانونيّة. تلك المخاطر والأذية تطال المدمن بطريقة مباشرة، لكنّها أيضًا تطال سائر أفراد المجتمع. من هنا، لا بدَّ من التعاون والنضال، لتفادي تلك الأعراض والأخطار، أو على الأقلّ التخفيف من حدّتها. بالتأكيد، هناك خطر الإصابة بأمراض مختلفة: فيروس نقص المناعة البشريّ، التهاب الكبد “ب” و”ج” والالتهابات المنتقلة جنسيّاً وغيرها. لا يمكننا أن نغفل عن العوارض الاجتماعيّة والاقتصاديّة ومنها: انعزال المدمن عن أفراد الأسرة، وتردّي وانتكاس علاقته وعلاقاته بأفراد المجتمع. تظهر أيضاً التأثيرات على أداء الشخص، على صعيد إنتاجه المدرسيّ أو الجامعيّ أو المهنيّ. من الآثار السلبيّة التي تنعكس على مدمني المخدِّرات، الوصمة والتمييز، وما يتأتّى عن ذلك من حرمان وتهميش ودونيّة ومعاناة، وحرمان من حقوقهم الإنسانيّة الأساسيّة. تنعكس تلك الحالات السيّئة والمؤذية على العلاقات الزوجيّة والعائليّة، ويتأثّر أفراد العائلة نفسيّاً، ممّا يترك مفاعيله على حياتهم اليوميّة على جميع الأصعدة، وبخاصة على المستوى الاقتصاديّ.
ينتج عن الإدمان على المخدِّرات مشكلة قانونيّة، حيث يُعتبر المدمن مخالفًا للقانون، فيتمّ إيقافه وسجنه، مع العلم أنّ قانون مكافحة الإدمان على المخدِّرات تطوّر من خلال إعطاء المدمن فرصة أو الحقّ بطلب العلاج حتى الشفاء الكليّ.
- علاجٌ وتأهيل
يُعتبر المدمن على المخدِّرات مريضًا نفسيّاً، ومع هذا ينظر إليه المجتمع نظرة سلبيّة بوضعه في خانة المجرمين. أوَليسَ المدمن إنساناً يتمتّع بكامل حقوقه وكرامته دون تمييز؟ أليست نتائج الوصمة والتمييز تعزّز لدى المدمن التعلّق بالمخدِّرات؟ أين دور المجتمع في تخفيف الآلام والعزلة؟ هل يمكننا تقديم العلاج والوقاية والمرافقة والمتابعة والتأهيل؟
نعم، “من هنا تكمن أهميّة التعامل مع المدمن كمريض يحقّ له تلقيّ العناية الصحيّة، مع احترام خصوصيّته وفقاً لقانون الآداب الطبيّة، وتفادي الوصمة والحرص على عدم التمييز ضدّه”. يُطلب من أفراد المجتمع، اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، العمل على تخفيف أو إنهاء الشعور بالذنب لدى مدمني المخدِّرات، أو رفضهم كأشخاص والنهي عن وصمهم وتمييزهم. ألسنا بحاجة في عصرنا، إلى تقديم المساعدة والعون والعضد لمستخدمي المخدِّرات، من أجل إنقاذهم، وإنقاذ سائر أفراد المجتمع؟ نعم، يحتاج هؤلاء الأشخاص إلى المرافقة والمتابعة، والمحبّة والرحمة، من أجل أخذ المبادرة، لطلب العلاج وإعادة رونق وجمال الحياة، بالرغم من الأزمات والصعوبات والتعقيدات على جميع الصّعد. ألم يحاول هؤلاء الهرب إلى الأمام من “واقع الحياة المرير والمؤلم والظالم”؟ علينا أن نفهم ونتفهّم حالتهم، لكي نساعد أنفسنا ونساعدهم للدخول في عمليّة التأهيل والتخلّص من النتائج السلبيّة والتبعات المؤلمة لاستخدام المخدِّرات، والمساعدة على الاندماج الاجتماعيّ الذي هو مسؤوليّة المجتمع أوّلاً وأخيراً.
لا يحقّ لنا أن نعزل هؤلاء المرضى، أو نرفض مساعدتهم، أو استعمال العنف معهم، أو إذلالهم عند حرمانهم الرعاية والعناية، وسوء معاملتهم من قبل بعض رجال الأمن وغيرهم باستخدام العنف اللفظيّ والجسديّ. لنعمل على تشجيعهم لاستعادة ثقتهم بذاتهم وبالآخرين، وإعطائهم القدرة على عدم الشعور بالنقص والاختلاف وعدم الكفاءة وتقدير الذات. لنبثّ “بداخلهم” الأمل والرجاء بإمكانيّة التصدّي للخلل والمواجهة للتحديّات التي يتعرّضون لها. لنرافقهم لنبذ الشعور بالكراهية تجاه الذات، والغضب تجاه الضعف، والعار ولوم الذات، والعيش بالكآبة والتوتّر والإحباط والحزن واليأس. لنعطِهم الأمل بإعادة نجاح التأهيل والحدّ من الاضطهاد والملاحقة القضائيّة، مع القضاء على حالة الوصمة وتنظيف سجلّاتهم العدليّة، بفترة قصيرة جدّاً، للدخول مجدّدًا في حياة المجتمع على جميع الصّعد.
تعالوا معاً، للعمل على الحدّ من مخاطر استخدام المخدِّرات. نعم، لنعمل على التوعية والإرشاد، باستخدام طرق الوقاية بعملية إستباقيّة، بتثقيف الأفراد حول المخدِّرات ومخاطرها، التي تؤذي الذات والآخر. لنعتمد الاستراتيجيّات والبرامج التي تهدف إلى تأمين مناخ ووسائل متكاملة من أجل معالجة الإدمان والوصول إلى نتائج إيجابيّة. لنعزّز برنامج العلاج بالبدائل: العلاج بالبدائل للمواد الأفيونيّة، والعلاج الجسديّ والنفسيّ والاجتماعيّ. يعطي العلاج بالبدائل، القدرة للمدمن على تخفيف التبعيّة للمخدِّرات، وتحسين الصحّة النفسيّة والجسديّة، والحدّ من السلوك “الشاذ” الذي يؤدّي إلى ارتكاب بعض المعاصي والجرائم. يساعد هذا البرنامج على الحدّ من معدّلات المرض والوفيّات الناجمة عن استخدام المواد الأفيونيّة، كما يسهّل إعادة إدماج المدمنين في الحياة العامّة والعودة إلى الدراسة والعمل وتحسين الأداء العلائقيّ والاجتماعيّ.
نعم، لنعمل معًا على إنجاح عمليّة تخفيف الآلام والأحزان، بالتعاون والتعاضد والمناصرة، من أجل مساعدة المدمنين على المخدِّرات، بهدف تصويب حياتهم وحياة جميع أفراد المجتمع. لننشر التوعية ولنعمل على الوقاية ولنحقّق العلاج ولنطوّر الدعم، ولنسهم في عمليّة “التواصل” لتغيير السلوك، من أجل تحسين المهارات وتعزيز الشعور بالكفاءة الذاتية، والثقة بالذات، ممّا يحمل المدمن على اتّخاذ قرارات لحماية نفسه والشفاء من المرض، أو التعايش معه من دون العودة إلى الوراء.
لنؤمن بقدرة العلاج وفاعليّته. لنؤمن بقدرة المدمن على قبوله العلاج وحمايته من الانتكاس، لنؤمن بالقدرة على الاندماج الاجتماعيّ.
لنؤمن بالحياة…
الأب د. نجيب بعقليني
رئيس جمعيّة عدل ورحمة