Flickr - Steve Rainwater - CC BY SA

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة -16

تسلّل العصر الجديد في العلوم وفي علم النفس – 2

Share this Entry

تسلّل العصر الجديد في بعض العلوم، خصوصًا في العلوم الطبّية وعلم النفس، بخلطها عمْدًا بتعاليم وعقائد من العلوم الباطنية والخفائية وصوفيات الشرق الأقصى. يروّج لها بمسميّات علمية كاذبة ومستحدثة من أجل إضفاء المصداقية العلمية عليها. في المقالة السابقة، أعطينا كمثال على ذلك،  تقنية الوعي الكامل Mindfulness  أو

MBSR (Minfulness Based Stress Reduction)  أي “الحدّ من التوّتر بواسطة تقنية الوعي الكامل”. وتبيّن لنا أنّها مستوحاة من التأمّل البوذي والصوفية البوذية، يعني هي نوع من أنواع اليوغا التي يتمّ فيها تعديل مستويات الوعي وتعليق قوى النفس بما فيها الإرادة الحرّة وتخدير الحواس وتغييب الأنا حتى ذوبانها كليًا!

وأكثر من ذلك …

يقوم، ويا للأسف، بعضُ علماء النفس باستعارة أفكارٍ قديمة، هي أقرب إلى الشعوذة والسحر ولا أساس علمي لها، أو هي من ابتداعات المبتدعين وبعض المتفلسفين، يقدّمونها بشكلٍ جديد، مدعومًا بإحصائيات وجداول رقمية ومعلومات من هنا وهناك. له ظاهريًا شكل العلم والمنهجية العلمية لكن لا علاقة له بالمرّة بالعلم الحقيقي.

قبل أن نستفيض في شرح بعض هذه الإنحرافات ، نوّد في البداية أن نوضح بإيجاز ماهية المنهجية العلميةLa Méthode scientifique  لأنّ هذا الأمر بالغ الأهمية وسيساعدنا في التمييز بين ما هو من العلم الحقيقي وما هو من العلم الزائفpseudo Science.

العلم الحقيقي والعلم الزائف والمنهجية العلمية

أولاً/ في تعريف العِلمScience  علينا أن نميّز بدايةً بين المظاهر الأولى التي مارسها الأقدمون، وبين العلم بمفهومه الثاني الدقيق والمنهجي الذي نعرفه اليوم. مع الإشارة إلى أنّ بعض العلوم الحديثة كان لها جذور في الممارسات القديمة التي مهدّت لها: فمن الخيمياءAlchimie  و التنجيمAstrologie  وُلدت الكيمياءChimie  وعلم الفلك Astronomie ومن الطب التنجيميMedecine astrologique والعلاجات البدائية وُلد الطب الكلاسيكي والأدوية الصيدلية.

بناءً على ذلك، ما يدّعيه العصر الجديد أنّ الخيمياء والتنجيم والعلاجات البدائية وما شابهها من الممارسات، هي من العلوم المنهجية والحقيقية، هو ادّعاء كاذب و ملفّق.

ثانيًا/ العلم في اشتقاقه اللغوي، اللاتينية والعربية، هو من عَلِمَ أو عرَفَ. لكن هذا لا يعني أيّة معرفة. فهناك أنواع من المعارف لا يمكن اعتبارها معارف علمية. العلم إذن هو نوع محدّد من المعرفة: الموضوعية، الأكيدة، الدقيقة، الوضعية، التي يمكن قياسها ويمكن التحقّق منها وإعادة إثباتها على نحوٍ مُطرد.

هذا الأمر لا ينطبق على الكثير من العلوم التي يروّج لها العصر الجديد، كالعلوم الباطنية والخفائية والماورائية. يقول رودولف كارناب (1891-1970) وهو من ممثلي تفكير “الوضعية المنطقية”،Logicisme أنّ لا علاقة بالمنطق ومنطق العلم بالميتافيزيقيا والفلسفة، فهو علم مضبوط يرتكز على منهج علمي.

 مثلاً فرضية الطاقة الكونية التي تتخلّل كل المخلوقات وتقودها بحسب ادعائهم، وأنّ كلّ عطب فيها هو سبب كلّ علّة ومرض، جميعها ادعاءات غير علمية. هذه الطاقة غير موجودة بحسب المنهجية العلمية، لأنّها ليست موضوعية وغير أكيدة، ولا يمكن قياسها ولا التحقّق منها وإعادة إثباتها. (كلّ الآلات التي يستعملونها لقياس هذه الطاقة المزعومة هي آلات زائفة عديمة الفائدة وأغلبها يقيس الطاقة الكهرومغناطيسية أو لا يقيس شيئًا بالفعل).       كذلك كلّ ما له علاقة بالإدراك ما فوق الحسيPerception Extra Sensorielle مثل التيلباتي والتيليكينيزي وما شابهها، غير مثبت وليس له منهج علمي. وحده المنهج يجعل من الموضوع علمًا. المنهج هو الخاصية الأساسية التي تسمح لنا بالتمييز بين المعرفة العلمية والمعارف غير العلمية.

ثالثًا/ تتباين تقنيات المنهج العلمي بين حقل وآخر، إلاّ أنّه يمكن عمومًا تحديد أسُسِه على الشكل التالي:

1-الملاحظة والمشاهدة Observation يعني الملاحظة الحسّية، ما يمكن مراقبته ومشاهدته. والمشاهدة لكي تكون علمية يجب أن تكون قابلة للتكرار موضوعية وخالية من الأخطاء. لذلك لا تكتسب نتائج المراقبة صفتها العلمية إلا إذا تمكّن العلماء من تكرارها غير مرة على نحوٍ مستقلّ وبلغوا النتائج نفسها.

كلّ هذه الشروط لا تنطبق على ممارسات وتقنيات العصر الجديد خصوصًا ما له علاقة بالغيبيات والقدرات الفائقة للطبيعة وعلاجات الطب البديل التي يروّجون لها.

2- المشكلة موضوع البحث  problèmeبعد المشاهدة والمراقبة، نطرح سؤالاً: كيف تحدث تلك الظاهرة؟ ما الذي يجعلها تحصل بهذا الشكل وفي هذه الظروف؟ سؤال علمي يحتاج إلى إجابة. ولهذا السؤال شرطان ليكون علميًا: أن يكون سؤالاً منسجمًا ذو معنى وغير متناقض / وأن يكون بالإمكان البحث علميًا لإيجاد إجابة أو حلّ له. مثلاً هناك أسئلة ماورائية خفائية لا نجد وسائل علمية للبحث فيها والإجابة عنها وهذا ما نشهده في أغلب الظواهر التي يتناولها العصر الجديد.

3- تشكيل الفرضيةHypothèse  بعد المشاهدة وطرح السؤال، يمكن للعالِم أن يفكّر بفرضية ما ويقترحها. وللفرضية عدّة شروط أيضَا: أن تكون واضحة، دقيقة، غير متناقضة، أن تسعى للإجابة عن سؤال واحد لا أكثر وأن تصاغ بأقلّ عدد ممكن من الكلمات أو المصطلحات وهذه الفرضيات تخضع للإختبار والتجريب.

إنّ كلّ ما يقدّمه العصر الجديد هو من الفرضيات الخيالية غير المثبتة علميًا. عندما يتكلّمون مثلاً عن “قانون الجذب”Law of attraction  فهو ليس قانونًا ولا نظرية، بل افتراضًا غير منطقي لقوة خفائية لا قياس لها، يمكن للإنسان أن يتحكّم بها بشكل فائق للطبيعة وبحسب مشتهى قلبه. إذا فكّر سلبيًا جذب إليه المصائب والأمراض والمحن وسائر الموبقات، وإذا فكّر إيجابيًا جلب له الطاقات الكونية الإيجابية وذبذباتها مثل الغنى والشهرة والصحّة الخ. هذا الفكر مقتبس عن ممارسة السحرLa Magie  الذي يرتكز على مبدأين هما المتشابهات والعدوى[1]

4- التجربة أو الإختبارExpérience et expérimentation  تحتاج الفرضية لكيْ تكون علمية إلى إثبات أو دليل نجده في التجربة والإختبار. إنّ أجوبة كثيرة قامت عبر تاريخ العلم ثم زالت إمّا لأنّه لم يكن هناك دليل علمي عليها، أو لأنّ الدليل الذي استندت إليه كان ضعيفًا ولم يصمد أمام أدّلة أخرى نقضته. والإختبار سلسلة طويلة من الإجراءات المعقّدة التي تبدأ بالتفكير بالتجربة، ثم تحديد عناصرها، وتنظيم إجراءاتها وتنفيذها ومراقبة نتائجها وتصنيفها تكرارًا. وكلّ ما يجري مصادفة أو اعتباطًا أو على عدد محدود من الحالات ليس مقبولاً في التجربة العلمية.

5- النظرية العلميةThéorie  إذا أثبتت الإختبارات الفرضية تتحوّل بعد سلسلة من إجراءات التحقّق الإضافية، إلى نتيجة علمية. وإذا حدث العكس يبحث العالِم عن فرضية أخرى. وتتحوّل النتيجة إلى نظرية علمية. وهذه النظرية ليست مطلقة بل محتملةً جدًا فالمطلقات ليست في العلم وليست من الروح العلمية.

رابعًا/ يكون البحث العلمي بحسب الروح العلمية التي تخضع لعدّة شروط :

هو تفكير حرّ لا يخضع لأيّ أفكار مسبقة أو مطلقة/ هو تفكير وضعي يدرس المعطيات المحسوسة/ هو تفكير نقدي مشكّك وخاضع للإختبار والتأكّد/ هو تفكيرٌ موضوعي يحيّد كلّ العوامل “الذاتية” مثل الميل والهوى والإعتقاد والمصلحة والتعصّب.

خلاصة: إنّ كلّ شروط المنهجية العلمية والروح العلمية، غير متوّفرة في طروحات وتعاليم وممارسات قادة وأتباع تيّار العصر الجديد. كما لا نجدها في إحصاءاتهم ولا في أبحاثهم المزعومة التي غالبًا ما تخضع لأفكارهم المسبقة والمطلقة،  وتتعاطى في الخفائية والباطنية والعوالم اللامحسوسة وتنحاز بدون أدنى منطق علمي لمعتقداتهم المضلّلة. وهي غير موضوعية لتتماشى مع ميولهم ومصالحهم وغاياتٍ دنيئة في أنفسهم بإيحاء من عدوّ الخير.

ينطبق عليهم تمامًا ما قاله الربّ يسوع لليهود الذين شكّكوا فيه ولم يؤمنوا به: “أنتم تعملون أعمال أبيكم … أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا”(يو8/ 44 و41)

وعلى هذا الأساس وجب أخذ الحيطة والحذر من كلّ التقنيات التي يروّج لها العصر الجديد والتي تتداخل فيها العلوم الحقيقية بالعلوم المزيّفة، خصوصًا في مجال الطب البديل بشكلٍ عام والتقنيات النفسية البديلة، والتي قد تتسلّل بشكلٍ من الأشكال إلى الممارسات الكنسية الرعائية والأكاديمية.

حقًا! لمجد المسيح!

(يتبع)

[1] لمعرفة المزيد مراجعة كتاب: تيار العصر الجديد من وجهة نظر الايمان المسيحي، جيزل فرح طربيه، دار المشرق (قيد الطباعة)

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير