العصر الجديد ينتحل زورًا صفة علم النفس ويخلطه بتقنيات من الشرق الأقصى وفرضيات فلسفية لا إثباتات علمية عليها بحسب المنهجية العلمية.
في البداية، نلفت نظر القرّاء أنّ ليس في نيّتنا أن ننتقد بشكلٍ من الأشكال العلوم النفسية والطبّ النفسي الكلاسيكي. بل هدفنا الأساسي هو أن نسلّط الضوء على ممارسات بعض الأشخاص الذين انتحلوا زوراً صفة الطبّ النفسي، بتأثيرٍ من بدعة العصر الجديد. البعض منهم ليسوا أطباء نفسيين متخصّصين، والبعض الآخر هم أخصائيون في الطبّ النفسي لكنّهم، ويا للأسف، يروّجون لفرضيات غير علمية تخلط علم النفس ببعض العقائد والممارسات الوثنية، بحسب روح العصر وبهدف الشهرة والربح المادي.
في المقالة السابقة، قُمنا بتحديد ماهية المنهجية العلمية والروح العلمية وشروطها، حتى نتمكّن من التمييز بين ما هو من العلم الحقيقي وما هو من العلم الزائف، ولكيْ نفهم بشكلٍ أوضح كيف تتسلّل بعض العلوم الزائفة، في بعض معاهد وجامعات التنشئة اللاهوتية وفي بعض النشاطات الرعوية الكنسية.
يقول سفر الجامعة: “لا شيء جديد تحت الشمس” (جا1/ 9).
إنّ كلّ المبادئ والمعتقدات والممارسات التي يروّج لها العصر الجديد ليست جديدة ولا هي من العلوم الحديثة، بل هي أفكار فلسفية واعتقادات قديمة جدًا قِدم الإنسانية، مأخوذة عن ديانات وثنيّة.
يقوم في السنوات الأخيرة بعض علماء النفس وأيضاً أشخاص انتحلوا صفة علم النفس، بتأثيرٍ من روح العصر الجديد، باستعارة أفكارٍ قديمة لا أساس علمي لها وهي أقرب إلى الشعوذة والسحر. أغلبها مقتبس من ديانات وثنية أو من تيّارات فلسفية مثل الخفائية والعلوم الباطنية والأرواحية. يقدّمونها بشكلٍ جديد ويدعمونها بإحصائيات وجداول رقمية ومعلومات غير مؤكّدة من هنا وهناك، لها ظاهريًا شكل العلوم والمنهجية العلمية لكن لا علاقة لها بالمرّة بالعلم الحقيقي!
علم النفس الإيجابي Positive Psychology
أوّل من تكلّم عن علم النفس الإيجابي هو أبراهام ماسلو Abraham Maslow ( 1908- 1970) الذي أسّس فيما بعد مع ستانيسلاف غروف Stanislas Grof (1931-..) علم النفس عبر الشخصيLa psychologie Transpersonnelle. لقد كان لماسلو تأثير كبير في علم النفس المعاصر وحركة التنمية البشرية، واهتمّ بشكلٍ كبير بقدرات الإنسان. وهو أيضًا مؤسّس علم النفس الإنسانيPsychologie Humaniste وما يُعرف بنظرية هَرَمية الحاجات Hierarchy of Needs .
كذلك من المساهمين في نشر هذا الفكر، “نورمان فينسان بيل” Norman Vincent Peale (1898-1993) الذي كان قسيسًا في Marble Collegiate Church . قام سنة 1952 بنشر كتابه: “قوّة التفكير الإيجابي”La puissance de la pensée positive الذي لقي إقبالاً كبيراً وساهم في الترويج لهذا الفكر.
سنة 1998 أسّس أستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا “مارتن سليغمان” Pr Martin Seligman ورئيس جمعية علم النفس الأميريكية American Psychology Association (APA) ، ما يسمّى بعلم النفس الإيجابي، بهدف أن يجعل الناس أكثر سعادة بدل إصلاح التداعيات السلبية للتجارب الإنسانية كما يقول. أيضًا بهدف تعزيز القدرات الشخصية كالتفكير الإيجابي والرضا عن النفس وتدريب الأشخاص على مواجهة الضغوط الحياتية المختلفة (ينصح سليغمان بتقنية الوعي الكامل Mindfulness).كما يهتمّ بمحاولة تحسين جودة الحياة ومساعدة الأفراد والجماعات على تفعيل مهاراتهم لبلوغ أعلى أداءٍ وظيفيّ، والعمل على خلق شخصية إيجابية ذات تفكير إيجابي.
دعم سليغمان نظريته بإحصائيات وبيانات تجريبية، وابتدع ما يسمّى ب “اختبار السعادة الأصيل”Authentic Happiness Inventory وهو عبارة عن اختبارٍ مؤلّف من 24 سؤالاً لمعرفة إذا كان الشخص سعيدًا أو لمعرفة مستوى سعادته. من جهةٍ أخرى، تمكّن من خلال أبحاثه في الحضارات وشخصيات عبر التاريخ مثل أرسطو، أفلاطون، أغسطينس، كونفوشيوس، بوذا، بنجامين فرانكلين وغيرهم، أن يحدّد خلطة من 6 فضائل هي: الحكمة- المعرفة- الشجاعة- الحب – الإنسانية – العدل- الإعتدال – الروحانية والتسامي.
مذّاك، اشتهر عالميًا وأصبح يعطي محاضرات في أهمّ المراكز ويدرّب مئات الأشخاص لقاء مبالغ مالية غير قليلة. (منها مؤتمر قام به مع الدالاي لاما بعنوان: الطاقة الكامنة في العقل وإمكانياته الفائقة). رحّب الكثيرون بأفكاره إلّا أنّه لاقى انتقادات كثيرة من علماء نفس واختصاصيين قالوا إنّ لا أساساً علمياً لنظريته[1].
مثلاً انتقدته الصحافية Barbara Ehrenreich بشدّة في كتابها: “علم النفس الإيجابي يقوّض أميركا” How Positive Thinking Undermining America وأيضًا في كتابها: “علم النفس الإيجابي: هل يعمل حقًا؟” Positive Psychology: Does it Really work? تقول فيه إنّ سليغمان قد أخذ نظريته عن تيّار الفكر الجديدNew Thought .[2]
من بعض نقاط الضعف في هذه النظرية:
– يقتصر محورها على الإنسان بمعزل عن محورية الله، وتعوّل كلّ شيء على جهود الإنسان الشخصية بمعزل عن النعمة. (نتذكّر هنا بدعة بلاجيوس التي أدانتها الكنيسة)
– تعتبر أنّ للإنسان قدرات لا محدودة يمكن تفعيلها ببعض التقنيات، مع العلم أنّ هذه القدرات البشرية اللامحدودة ليست مثبتة علميًا.
– تركّز على تفعيل النقاط الإيجابية في الشخص وتهمل إصلاح الضعفات والجروحات فيه، أي هي تعالج شكليًا ببعض اللمسات التجميلية وتهمل جذر المشكلة.
– لا شك أنّ نفسية متفائلة تساهم في صحّة أفضل ولكن هذه النظرية لم تبحث عن السببية Causality : هل الأشخاص هم بصحّة جيدة لأنهم سعداء أم هم سعداء لأنهم بصحّة جيدة؟ مع العلم أنّ السعادة ليس لها علاقة دائمًا بالصحّة الجيدة. نجد مرضى كثيرين راضين وسعداء في حياتهم أكثر من الأصحّاء!
لمجد الرب يسوع – يتبع –
[1] نذكر من هؤلاء المنتقدين: Jeffrey R. Rubin, The unhappy Truth about positive psychology
Barbara Ehrenreich, Tim Le Bon, Beyond Authentic Happiness 10 reasons to doubt Seligman
Azeen Ghoraychi, The Brain is half full: The science Behind positive psychology
Sonia Lyubomirsky PhD,Shold we Dispense with happiness?, A review of Marty Seligman’s New book
[2] أسس تيار الفكر الجديد شخص اسمه فينايس باركرز كيمبي (1802-1866)Phineas Parker Qiumby كان فيلسوفًا ومنوّماً مغناطيسياً وشافياً. علّم أن ذات الانسان الحقيقية هي إلهية، وأنّ المرض يصدر من العقل وأنّ الفكر الصحيح له تأثير شاف. نتج عنه فيما بعد مفاهيم التفكير الإيجابي وقانون الجذب والطاقة الكونية والتصوّر الخلاق والإيحاء الذاتي وكلّها من تقنيات العصر الجديد.