“مثل مريم، نريد أن نتعلّم أن نكون حاضرين. علّمنا يا رب أن نكون حاضرين عند أقدام الصليب، وأقدام الصلبان الأخرى. أيقِظ هذه الليلة عيوننا وقلوبنا. أنقِذنا من الشلل والارتباك، ومن الخوف واليأس. علّمنا أن نقول التالي: هنا، أنا مع ابنك ومع مريم ومع الكثير من التلاميذ المحبوبين الذين يودّون استقبال ملكوتك في قلوبهم”.
هكذا انتهت صلاة البابا فرنسيس بانتهاء الاحتفال برتبة درب الصليب مع الشباب الذين تجمّعوا في باناما لأجل الأيّام العالميّة الخاصّة بهم مساء الجمعة 25 كانون الثاني 2019، بناء على ما ورد في مقال أعدّته أنيتا بوردان من القسم الفرنسي في زينيت. وكان الظلام قد حلّ على “شينتا كوستيرا” عندما ابتدأ البابا بالكلام ببطء وفي ظلّ صمت كبير، لم يخترقه إلّا التصفيق في نهايته!
“مثل مريم” كان التعبير الذي كرّره الأب الأقدس خلال صلاته وتأمّله في وقوف مريم عند صليب ابنها وصلباننا، خاصّة وأنّ موضوع أيّام الشبيبة العالميّة هو مريميّ: “ها أنذا خادمة الرب، فليكن لي بحسب قولك”.
ومِن أبرز ما قاله البابا في صلاته: “أيها الرب أب الرحمة، يُظهر لنا درب الصليب كم تحبّنا وكم أنت ملتزم في حياتنا. إنّ طريق يسوع نحو الجلجلة طريق معاناة ووحدة ما زال يتتابع حتّى يومنا هذا. فيسوع يمشي ويتألّم في الكثير من الوجوه التي تعاني من اللامبالاة، في مجتمع يتجاهل الألم لدى كثيرين… ونحن أيضاً أيها الرب يصعب علينا أحياناً أن نرى وجهك في أخينا المتألّم… ويسهل علينا أن نكون أصدقاء في النصر والمجد والنجاح والتصفيق، ويسهل علينا أكثر أن نكون أقرب ممّن يُعتبر شعبيّاً وفائزاً. كم يسهل السقوط في فخّ التخويف والتهديد والسخرية والتحرّش! لكن أنت يا رب لست هكذا، لأنّك على صليبك تتّحد بجميع الآلام وبِمَن يشعرون أنّهم منسيّون. لقد أردت أن تقبّل من نعتبرهم غالباً لا يستحقّون معانقة أو قبلة أو بركة، والأفظع أننا لا ندرك حتّى أنّهم بحاجة إلى ذلك!
أيها الآب، درب صليب ابنك يطول اليوم: في صرخة الأجنّة الذين نمنعهم من الولادة، وفي أصوات كثيرة يُمنع عليها عيش طفولتها، وتُحرم من العائلة والعِلم واللعب والغناء والحلم… في النساء اللواتي تُساء معاملتهنّ واستغلالهنّ وتركهنّ وتجريدهنّ من كرامتهنّ… في عيون الشباب الذين يرون آمالهم بالعلم والعمل الكريم تتضاءل… في مَن يسقطون ضمن شبكات تدّعي خدمتك، لكنّها تتغذّى من حياة ضحاياها… في كلّ من التهمتهم آفة المخدّرات والكحول والدعارة والاتجار… وفي كلّ مَن فقدوا القدرة على الحلم والخلق والتفكير في الغد… وفي وحدة كبار السنّ والمتروكين والمهمّشين، والشعوب الأصيلة التي تُحرَم من أراضيها وجذورها وثقافتها… في صرخة أمّنا الأرض المجروحة بسبب التلوّث وقذارة المياه… وفي مجتمع فقد القدرة على البكاء بوجه المعاناة!
نعم يا أبانا، يسوع يتابع السير حامِلاً كلّ هذه الوجوه التي تعاني، فيما العالم لامبالٍ. ونحن، ماذا نفعل؟؟ ما هي ردّة فعلنا أمام يسوع الذي يعاني والذي يمشي ويهاجر على وجه الكثير من الغرباء الذين تعلّمنا أن نجعلهم غير مرئيّين؟ ونحن يا أبا الرحمة، هل نرافق ونعزّي الرب المتروك والمتألّم في الأشخاص الأصغر والمتروكين؟ هل نساعدهم على حمل صلبانهم كالقيروانيّ وبصفتنا فعلة سلام، وخميرة أخوّة؟ وهل نبقى عند أقدام الصليب مثل مريم؟
فلنتأمّل بمريم المرأة القويّة. ومنها، فلنتعلّم أن نبقى واقفين قرب الصليب بالعزم نفسه والشجاعة نفسها، إذ عرفت هي كيف ترافق معاناة ابنها، وابنك. وهي لم تستسلم على الرغم من الألم الذي شعرت به. كانت امرأة النَعَم القويّة، وهي حارسة الرجاء.
نحن أيضاً نودّ أن نكون كنيسة تدعم وترافق وتعرف أن تقول “أنا هنا” في حياة وصلبان العديد من المسحاء الذين يمشون إلى جانبنا. فلنتعلّم من مريم قول “نعم” لصبر العديد من الأمّهات والآباء والأجداد الذين لا يكفّون عن دعم أولادهم عندما لا يمشون في الاتّجاه الصحيح. من مريم، فلنتعلّم قول نعم للصبر العنيد كالذين لا يضعفون، بل يعاودون المحاولة كلّما بدا لهم أنّ كلّ شيء قد فُقد…
وفي مريم، فلنتعلّم قوّة قول “نعم” لِمن لم يصمتوا ولا يصمتون بوجه ثقافة إساءة المعاملة والاعتداء… ولنتعلّم استقبال مَن عانوا من التخلّي، ومن تركوا أراضيهم وجذورهم وعائلاتهم وعملهم.
فلنتعلّم من مريم البقاء عند أقدام الصليب، ليس بقلب مصفّح مُدرّع ومُغلق، بل بقلب يُجيد المرافقة، ويعرف اللطف والتكرّس ويفهم معنى الرحمة”.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّه طوال مراحل درب الصليب الأربعة عشر، حمل شباب من بلدان مختلفة صليب أيّام الشبيبة العالمية الذي قدّمه يوحنا بولس الثاني، وتأمّلوا بصلبان عالمنا الحاليّ وأنواره، على وقع موسيقى وترانيم عزفتها أوركسترا وأنشدها كورس، بالإضافة إلى رقصات زيّنت المسرح الذي اعتلته شاشات عملاقة لمتابعة ما يحصل.
أمّا في كلّ مرّة كان اسم مريم يُذكر، فقد كان يُضاف إليه، كما في حجّ روحيّ مريميّ، صفات “سيّدة الوردية، سيدة المعونة الدائمة، سيدة غوادالوبي، سيدة العناية الإلهية، سيدة الحبل بلا دنس”، إلخ…
وبعد صلاة الختام، أعطى البابا البركة ودعا الجميع إلى عيش هذه اللحظة بصمت مع يسوع ومريم، إلّا أنّ الشباب لم يستطيعوا احتواء حماستهم، فبدأوا يصفّقون.