A priest hearing confession in a parish in the Philippines

WIKIMEDIA COMMONS

التقسيم: معايير التمييز

القسم الرابع والأخير من مقالة التقسيم: خدمة، أنجلة جديدة ومرافقة روحيّة

Share this Entry

أهمّية التّمييز والحس الرّاعوي

إنّ التمييز والحكمة أي الحس الرّعوي أمران لا يمكننا إهمالهما في موضوع التقسيم. ويقيننا أنّ المقسّم هو كاهن مثلُه مثلُ أخوته الكهنة وليس إنسانًا خارقًا أو أكثر قداسة، مع ضرورة اتصافه بالتقوى وأن يكونَ  صاحبَ روحانيّة وإتّزان نفسيّ وإنسانيّ، وهي الصفات الواجبة  لكل كاهن، مع الأخذ في الإعتبار أن المُقسّم كاهن انتدبه الأسقف ليقوم بهذه الخدمة في الأبرشيّة، ما يمنحه ثقةَ إخوته الكهنة إذ ما يؤدّيه  امتدادٌ  لعمل الأسقف وفي حاجةٍ دائمة إلى صلاة هؤلاء. هذا البعد يعطي خدمته طابعًا رعويًّا بامتياز. أنّه كلّما يرسل اليه أحد إخوته الكهنة مؤمنًا أو مؤمنة ًيعيشان إضطرابات تستوجب التمييز، عليه هو بدوره أن يعيدهما إلى رعيّتهما ليمارسا فيها حياتهما الإيمانيّة والأسراريّة. وهكذا يُنتِجُ التنسيق بين كاهن الرّعيّة والمقسّم خيرًاعلى الجماعة المؤمنة. المقسّم لا يأخذُ  دور كاهن الرّعيّة. أو يسعى لخلق  شعبيّة لشخصِهِ واجتذاب المؤمنين، بل يعيدهم إلى رعيّتهم التي أتوا منها ويشجّعهم على الإلتزام الإيمانيّ بها. وبغير هذا التنسيق، يقع المؤمنون، الذين تقع مسؤوليّة تنشئتهم على عاتقنا، في التشرذم وإضاعة الإنتماء. هذا الواقع يجعل من دور الكاهن المقسّم ضرورة في كلّ أبرشيّة، لأنّ عمله الرعوي يدخل في بُعد البشارة والأنجلة الجديدة. ولا بدّ من عرض بعض معايير هذا التّمييز تأديَةً ناجحة لهذه الخدمة.

معايير التمييز

للتمييز معايير مهمّة وأساسيّة نستطيع اختصارها في أربعة أبعاد: الفضائل الإلهيّة الثلاث: الإيمان والرّجاء والمحبّة؛ عطايا الرّوح القدس وبخاصة السّلام والفرح؛ الاضطرابات النفسيّة والجسديّة؛ الخبرة وصلاة التقسيم.

الفضائل الإلهيّة : الإيمان والرّجاء والمحبّة

أولى نقاط التمييز ترتكز على الفضائل الإلهيّة الثلاث. فالله زرع فينا الإيمان والرّجاء والمحبّة لكي نبادله حبّه الّذي ظهر لنا بابنه يسوع المسيح. وسعيُ المجرّب وهدفُهُ تجريدُنا من هذا السلاح[1]. وليس للعوارض غير الإعتياديّة أن  تكون نقطة الإنطلاق إذ يجدر في البداية أن تكون حديثًا يبدأُه من يأتي الى المقسّم فيستمع هذا اليه بحب وفرح ورجاء، آخذًا الأمور في مجراها الصحيح فيسأله عن حياته الإيمانيّة كي يضعهُ أمام مجهر الفضائل الإلهيّة كمعيار أوّل لهذا التمييز. حتّى إذا تبيّن للمُقسّم أنّ المُلتجىء اليه لا يُصلّي ولا يعيش الأسرار، عمِدَ الى  تشجيعه أوّلًا على الإلتزام وتنمية الإيمان. فعلى كلّ كاهن والمقسّم على غراره أن يتحلّى بما سمّاه البابا في رسالته أعطيكم رعاة “بالمحبّة الرعويّة” التّي هي مصدر خدمته الكهنوتيّة وروحُها، علمًا بأن الرّوح القدس هو مصدر هذه المحبّة الرعويّة، وهو الّذي يقود الكاهن في خدمته إتمامًا لمشيئة الله وعمله الخلاصي. إنّ خدمة  المقسّم ليست سحرًا ، بل عملٌ رعويّ مُتَمِّم.

عطايا الرّوح القدس : السلام والفرح

يقول الكاردينال جوزف رتزنغر بأن فاضح العالم الشيطاني، هو الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس أي الروح القدس[2]. هو الذي يزرع فينا الفرح والسلام، وهاتان العلامتان تساعداننا على التمييز: الإنسان الّذي يعاني اضطراباتٍ آنيةً حقيقية روحيّة، والّتي يرجّح أن يكون مصدرها تأثير شيطانيّ، يمكن أن ينعم بالسلام والفرح، على عكس من يتخبّط مثلاً في الإحباط النفسي أو غيره من العوارض النفسيّة. غير أنّ ذلك لا يُدرَك، أحيانا، إلاّ بالخبرة والمرافقة.

الإضطرابات الروّحيّة والنفسيّة والجسديّة المتعذّرة التفسير

إنّ معظم الّذين يبحثون عن مقسّمين يعرضون عليهم أوّلا الإضطرابات الّتي يعيشونها. فيأخذ الكاهن المقسّم ما يُعرض عليه على محمل الجد من دون التّسليم بأن هذه هي الركيزة المُستَنَدُ. فالبداية للفضائل الإلهيّة، ثمّ لعطايا الرّوح القدس، ثمّ للعوارض والإضطرابات النفسيّة والجسديّة غير الإعتياديّة. فالمُقسم لا يأخذ مكان عالم النفس، والتمييز النفسي  يجب أن يكون قد حصل قبل وصول الشخص إلى المقسم وذلك بواسطة مركز الإصغاء أو على الأقل الإصغاء الأوّل (la première écoute) من قبل الأبرشيّة. لكن هناك  بعض الحالات الّتي يصعب التمييز فيها خارجًا عن صلاة التقسيم بالذات كمعيارٍ وحيدٍ وأخير للتمييز.

الخبرة في حدّ ذاتها و صلاة التقسيم

إنّ خبرة المقسّم تلعب دورًا كبيرًا وبارزًا في التمييز، إذ إن بعض العوارض خلال صلوات التقسيم لا تعني بالضرورة أنّ الشخص ممسوس. لذلك ثمّة معايير للتمييز خلال صلاة التقسيم هي:

العلامات الّتي ترافق التقسيم مثل: التعب المفاجىء والمتعذّر تفسيرُه، حالة ُنعاس لا يمكن السيطرة عليها، شعورٌ أو إحساس قويٌ بالبرودة أو الحرارة، خفقانُ القلب، عدم القدرة على التنفّس، صداعٌ عنيف، ألمٌ في الحنجرة، وجعٌ أو حريق في العينين أو أي جزء آخر من الجسم، الألمُ المفاجئ، شعور بالتقيُّوء، شعور بوخزات في مناطق مختلفة من الجسم، اهتزازٌ لا يمكن السيطرة عليه، شعور بالاختناق، الخ[3].

كما أنّ تمييزًا أوّليًا يمكن أن يبدأ مع كاهن الرّعيّة عبرَ أسئلةٍ يطرحها على ابن(ة) رعيّته، قبل أن يوجّهه إلى أيّ مكان آخر. سواء إلى مركز الإصغاء والتمييز أو إلى الكاهن المقسّم. من هذه الأسئلة: كيف ومتى بدأت تظهر هذه العوارض؟ هل مارستَ الشعوذات وقصدت العرّافين؟ هل سقاك أحدهم سائلاً بقصد رُقيةٍ أو ما شابه؟ ما الظروف التي تُضعف وتُقوّي هذه العلامات؟ هل هناك أوقات تختفي فيها؟ هل تظهر هذه العوارض بشكل مفاجئ وغير متوقّع أم بشكل تدريجي؟ أتظهر هذه العوارض بصورةٍ أقوى في الأوقات المخصّصة للصلاة و المناسبات الروحيّة؟ هل قصدت طبيبًا نفسيًا؟ وماذا قال لك؟ هل استطاع تشخيص الحالة أم عجز عن شرحها؟ كيف تشرحُ أنت وضعك؟ أترى أسبابًا للعوارض التي تعيشها؟[4]

خاتمة

حان الوقت لِنَضَع موضوع التقسيم في مكانته السّليمة! ورأيُنا أنّ ما ينقص هذا الموضوع هو بعدُه الرعويّ. وعدم إعطائه حقّه في الإكليريكيّات وجامعات اللاهوت، جعل منه موضوعًا تتداوله وسائل الإعلام بشكلٍ مبتذل كما بالغ بعض الكهنة في التحدّث عنه، بطريقة لا تساعد المومنين على تقوية إيمانهم وتزرع الخوف والرّعب بدلاً من التبشير بحبّ الله وافتدائه لنا وعنايته الأبويّة بنا، والتركيز على قوّة كلمته وتأمّلها.

إنّ دراستنا لا تعدو كونها محاولةً متواضعة وآليّةً عمليّة نُقدّمُها لتبقى الكنيسة قريبة من هؤلاء الأشخاص ومرافقتهم، تعيَ آلامهم وتحرّرهم بواسطة السلطان الذي خصّها به سيّدها ومعلّمها وفاديها ومخلّصها وعريسها. فالكنيسة مالكة هذه الأسلحة االمقدّسة لا ينقصها إلاّ مقاربة الموضوع بالنظرة الإيمانيّة الرعويّة التبشيريّة. نُبادر فنضع أمامَ عيوننا مثالَنا الوحيد يسوع المسيح وأسلوبَه الرعويّ، إن صحّ التعبير، في تعاطيه مع النّاس. فهو يدرك تمامًا الفرق بين المريض والممسوس، فيلمس الأوّل ويشفيه والأمثلة كثيرة؛ أمّا الممسوسون فكان يتوجّه إليهم بكلام مباشر وبسلطان قائلا: “أخرج منه أيّها الروح النجس…” (مر 5،8). و من المهمّ معرفةُ أنّ للشرير حدودًا لا يستطيع تخطّيها هي: سيادة الله، حرية الإنسان وإرادته، انتصارُ المسيح على الصليب، حماية الملائكة والقديسين وشفاعتهم، صلاة الآخرين والجماعة.

إستنادًا وإضافةً الى كل ما ذُكِر سابقًا نقدّم بعض الإقتراحات العمليّة:

1 – ترجمة رتبة التقسيم الموجودة في أرشيف بكركي[5]، من اللّغة السّريانيّة بخطّها الكرشوني الى اللغة العربيّة وذلك من قبل اللجنة الليتورجيّة المختصّة.

2 –  إنشاء جمعيّة للكهنة المقسّمين يلتقون مرّة في السنة، تحت إشراف الكنيسة من أجل تبادل الخبرات والتنشئة المستمرّة.

آنَ الأوان للكفِّ عن الإنقياد وراء معتقداتنا الخاصّة حول هذا الموضوع فنُقارب أخطارَهُ بالإستناد الى إختبار الكنيسة والآباء القدّيسين. ولعلَّ خير ما أُنهي به مقالتي كلماتٌ للقدّيس يوحنّا الذهبي الفم، يومَ خَتَم إحدى عظاته في موضوع الشيطان قال ما معناه: ليس لديّ بالطبع أيةُ رغبة لأحدّثكم عن الشيطان، ولكنها العقيدة تتيحُ لي فتَدفعني فأوصل اليكم فوائدها الكثيرة[6].

[1] Cf. Études carmélitaines, « Satan », Desclée de Brouwer, 1948; L-J. GONZALEZ, Stimolazione spirituale, Tecniche e risorse di spirituelità pastorale, Ed. OCD, 2004, 44; C. POIRIER, Guérison et combat spirituel, petit traité des pathologies de l’âme, Salvator, 2011, 30.

[2] Cf. Cardinal J. Ratzinger, “Entretien sur la foi“, in R. Chenesseau, Journal d’un exorciste, Ed. Nova millenium, Paris 2007, 207.

[3] Cf. R.CHENESSEAU, Journal d’un prêtre exorciste, Ed. Bénédictines, 2007, 246-258.

[4] Cf. R. CHENESSEAU, Journal d’un prêtre exorciste, Ed. Bénédictines, 2007, 141-145.

[5] لدينا خمس مخطوطات في أرشيف بكركي تتحدّث عن موضوع التقسيم. راجع: المطران فرنسيس البيري، التقسيم في تعليم الكنيسة وفي المخطوطات المارونيّة، جامعة سيّدة اللّويزة، بيروت – لبنان 2004.

[6] Cf. J. CHRYSOSTOME, De diabolo tentatore, homil. II, 1 P.G., 49, 257-258, in Congrégation pour la doctrine de la foi, « Foi chrétienne et démonologie », dans Cedrus-Libani, n˚72, 2006, 7.

Share this Entry

الخوري بولس مطر

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير