تُعتبر فترة “زمن الصوم الكبير”، من الأزمنة الكبرى والمهمّة والضروريّة للإنسان المُعمَّد والمؤمن والمُمارس لإيمانه. إنّها حالة “شعب” يسعى من خلال مسيرته الزمنيّة والإيمانيّة، نحو التوبة والارتداد، والمصالحة والتجدّد، والغوص بالعمق بعلاقته مع الخالق وبيسوع المسيح المخلّص. بالمُطلق، تتغيّر أساليب الصوم وعيشه وممارسته، وعاداته وتقاليده، بحسب الأزمنة المتراكمة على السنين؛ إنّما يبقى مضمونه وجوهره واحدًا ومتجدّدًا.
ماذا يقدّم الصوم لنا؟ أو بالأحرى ماذا نقدّم ونفعل خلال فترة الصوم؟ أَوَليس الصوم دخولاً في “صحراء الذّات”، للوقوف أمام الله من جديد وبطريقة متجدّدة؟ أَلاَ يقودنا نحن المؤمنين، صالحين كنّا أم خاطئين، إلى العيش مع الله بسلامٍ وحبٍّ؟ أَلاَ نَجدُّ السير نحو أرض الميعاد الجديدة؟ أَليس هو “الزمن” المؤاتي والأقوى، للتوبة والارتداد والرجوع إلى الله والمصالحة مع الآخر؟ بالرغم من مرور “زمن الصوم” بمراحل كثيرة ومتعدّدة، حيث بنية الإنسان تمرّ من حالة القوّة إلى حالة الضعف، جسديًّا وروحيًّا ومعنويًّا وأخلاقيًّا، تؤثّر على ممارسة الصوم. مع ذلك يبقى الإنسان منجذبًا، من خلال تقواه، إلى طلب الصفح والتكفير والتعويض عن أعماله السيّئة، والدّخول من جديد في حالة من التجدّد الروحيّ والأخلاقيّ، أي عيش الأخوّة الإنسانيّة. أَلسنا بحاجةٍ اليوم إلى تقوية الإرادة أمام مُغريات وتجارب “عصرنا”؟ “ولكن ستأتي أيّامٌ فيها يُرفع العريس من بينهم، فحينئذٍ يصومون” (متّى 8: 15).
يساعد “الصوم الماديّ”، أي الانقطاع عن أشياء كثيرة، على الدّخول في الراحة النفسيّة والفرح الروحيّ، وحبّ الحياة وفهمها، والترفّع عن أمورٍ دنيويّةٍ وماديّةٍ، لا تُسهم في عمليّة الخلاص. هل نعرف كيف نعيش “صومنا”؟ “وإذا صمتم فلا تكونوا ]…[ فادهن رأسكَ واغسل وجهكَ، لكيلا يظهر للناس أنّكَ صائمٌ، بل لأبيكَ الذي في الخِفية…” (متّى 6: 16-17). يُدخلنا “زمن الصوم” المقدّس، في الصلاة العميقة، التي يعَبَّر عنها بالصدقة والتوبة، حيث يكتسب الإنسان قوّةً عظيمةً “هذا الجنس من الشياطين لا يُطرد إلاّ بالصلاة والصوم” (متّى 17: 21).
هل إنسان عصرنا مستعدّ للدخول في عمليّة التحوّل والتجدّد؟ أي إخضاع جسده وروحه وفكره وقلبه لتعاليم الربّ يسوع؟ نعم، يتجدّد الصوم ويُجدِّد ويتجدَّد الإنسان معه. ألا يتجدّد مسلكنا وأداؤنا مع الله والذّات والآخر؟ لندخل في هذه “الفسحة الزمنيّة”، التي تهبنا القوّة والشجاعة والمثابرة والصَّبر على تحمّل بعض الصِّعاب والمشقَّات، والآلام و”الاعتداءات”، والظلم وغيرها من الأوضاع النفسيّة والروحيّة، التي تطال حياتنا اليوميّة على كافة الصُّعُد.
نعم، أحيانًا نكرّر طريقة ممارسة “صومنا”، ولكن كلّ مرّة بطريقة متجدّدة، فيجدّدنا نحو الأفضل، أي نحو “المسيرة الصياميّة”، التي تقودنا إلى المشاركة في آلام وموت وقيامة السيّد المسيح. نعم، نكرّر طريقة ممارسة “صومنا”، لكنّنا على ثقة تامّة، أنّ ثمار تلك الفترة، تعود بالخير على “تصرّفاتنا” وأدائنا ونظرتنا الإيجابيّة، لمسيرة حياتنا الروحيّة والعلائقيّة مع الربّ المخلّص، ولاسيّما مع الآخر.
نعمّ، نكرّر طريقة ممارسة “صومنا”، لكنّنا نتجدّد من خلال تقوية مقدّراتنا ومؤهّلاتنا، التي تقودنا نحو علاقة ناضجة وعميقة وثابتة، مع الله والقيم والمبادئ، وممارسة الأخوّة الإنسانيّة. نعم، نكرّر طريقة ممارسة “صومنا”، لكنّنا نتجدّد من خلال توبتنا الصادقة ومقاصدنا الحقيقيّة، ونوايانا السليمة، وإرادتنا القويّة، وعزيمتنا الصلبة، كي نكون شهودًا لقيامة السيّد المسيح.
نعم، نكرّر طريقة ممارسة “صومنا”، لكنّنا سنعبر بامتياز، الحواجز التي تمنعنا من العيش مع الله، والخلاص المُعطى لنا، بطريقة جدّية، متّكلين على عمل الروح القدس.
نعم، نحن نكرّر طريقة ممارسة “صومنا”، لكنّنا نلتزم ونعي تلك الحقيقة: “أُذكر يا إنسان، أنّكَ من التراب وإلى التراب تعود” و”اذكر يا إنسان، أنّكَ من الحياة وإلى الحياة تعود” و”أنّكَ من الله، وإلى الله تعود”.
لنتجدّد كي يجدّدنا الروح القدس… جدّدنا يا روح الله كي نتجدّد…