لقد تسلّلت عبر العصر الجديد، غنوصيةٌ جديدة تشبه بدعة الغنّوصيةGnosticism التي هدّدت الكنيسة في القرنين الثاني والثالث . كتب على أثرها القديس يُستينُس الشهيد مؤلَّفه الشهير: “ضد الهرطقات”، مفنّدًا ادّعاءات الغنوصية ومدافعًا عن الإيمان الرسولي الشريف.
في “العبور إلى الرجاء” سنة 1993 يحذّر البابا القديس يوحنا بولس الثاني من تيّار العصر الجديد قائلاً إنّه إعادة إحياءٍ للغنّوصية القديمة. ونقرأ في وثيقة “يسوع المسيح الحامل الماء الحيّ” في هذا الخصوص:
“يحذّر يوحنا بولس الثاني من “مسألة بعث بعض تقاليد الغنّوصية القديمة بشكل ما يسمّى “العصر الجديد”. “فمن غير الممكن أن يراودَ المرء وهمٌ مفاده أنّ عودة الغنّوصية هذه هي مقدّمة لتجديد الدين. كلّ ما في الأمر، بكلّ بساطة، هو أنّها ترجمة لموقف روحيّ يتوّسل ادّعاء معرفة سامية لله، لينتهي به الأمر إلى الرفض النهائي لكلمة الله واستبدالها بكلامٍ إنسانيّ محض.”
وتضيفُ الوثيقة وتؤكّد قائلةً: “لم تختفِ الغنوّصية قطّ من حقل المسيحية. لقد تساكنتْ معها دائمًا، أحيانًا كتيّارٍ فلسفيّ، وأغلب الأحيان بأشكالٍ دينية أو مقاربة للدين، وكانت دائمًا، حتّى عندما لا تكون صريحة، في تعاكسٍ أكيد مع جوهر المسيحية”[1] وتعطي مثالاً على ذلك “التاسوعية” Enneagramme وهي آلة لتحليل الطبع وفق فئاتٍ تسع متى تستعمل كأداةٍ للنموّ الروحي تُدخلُ التباسًا في العقيدة المسيحية وممارسة الإيمان فيها.[2]
من بعض المعتقدات المضلّلة التي أخذها تيّار العصر الجديد عن الغنّوصية :
-الإيمان بألوهةٍ غير شخصية لا يمكن للأشخاص العاديين التقرّب منها.
-الإدّعاء بامتلاك معرفة تمكّنهم وحدهم، بما أنّهم النُخبة العارفة، كشفَ سرّ الألوهة بجهدهم الخاص.
-الإيمان بما يشبه نظرية “الفيض” التي تقول أنّه ينبثق عن الألوهة “إيونات” Aeons أو آلهة صغيرة تعمل كوسيطٍ بين الألوهة المطلقة والعالم المادي. من هذه الآلهة الصغيرة “الديميورج”Demiurge الذي خلق العالم المادي الشرّير.
-الشرّ عندهم ليس نتيجة سوء استعمال الإنسان لحريته، بل هو بسبب جهل الإنسان لجوهر طبيعته الإلهية.
-الرب يسوع هو أحد الإيونات، أيّ إنّه إلهٌ صغير منبثق عن الألوهة المطلقة وهو أدنى منها. لذلك ينكرون التجسّد الإلهي.
– الجسد عندهم شرّ والروح سجين الجسد. ويقولون أنّ المسيح تكلّم بالأمثلة للعامة الذين ليس بإمكانهم أن يخلصوا وأعطى تعليمًا سريًا لنخبة قليلة من الناس هم تلاميذه.
– الخلاص عندهم هو أن يستنير الإنسان بمعرفة التعليم السرّي الباطني المخبّأ.
كما أخذ العصر الجديد من عقائد الهندوسية والبوذية، خصوصًا تلك المتعلّقة بالحلوليةPantheisme. فكلّ شيء هو واحد “البراهمان”، أيّ الألوهة والألوهة موجودة في كلّ شيء. لا يميزون بين طبيعة الخالق والطبيعة المخلوقة فهما من جوهر واحد. العالم المادي بنظرهم ليس حقيقيًا بل هو وهم “مايا”. يتهيّأ لنا أنّنا نرى أمورًا مختلفة وتناقضات كالخير والشرّ، لذلك علينا أن نُعيد اكتشاف الوحدانية والألوهة في كلّ المخلوقات وفي داخلنا وأننا آلهة بالطبيعة! أن نسعى لنتحدّ ونذوب في الألوهة المطلقة وهذه هي النيرفانا المنشودة.
من أجل بلوغ هذا الهدف، نحن بحاجة لحيوات متعدّدة يعني أن نتقمّص مئات وآلاف المرات من أجل تحقيق وعيٍ أسمى نعرف فيه أولهيتنا. من أجل ذلك، لدينا معلمّون حكماء “أفاتار”Avatar بلغوا الإستنارة وهم يتجسّدون بين الحين والآخر من أجل إرشاد ومساعدة البشرية. منهم معلّمو اليوغا الهندوس”الغورو” الذين يساعدون بواسطة تقنيات التأمّل ووضعياته. ومنهم الرب يسوع، هو “أفاتار” مثل بوذا وراماكريشنا وغيرهم من المعلّمين الكبار الذين أتوا خلال حقب متعدّدة من التاريخ.
الغنّوصية والفلسفات الحديثة
يشرح ألين باسكال Alain Pascal [3] وهو باحث في التاريخ السرّي، كيف أنّ الفلسفات المعاصرة تأخذ لها شكلاً عدائيًا للكنيسة، بما أنّ لها جذورًا في الغنوصية والتيوزوفية والخفائية والكابالا. ويؤكّد أنّها لم تبدأ في القرن السابع عشر مع رينيه ديكارتRené Descartes ( 1596-1650) كما يعتقد أغلب الباحثين، لكن مع التيوزوفي الألماني “المُستنير”Illuminé المنتمي إلى الوردة – الصليب، ” يعقوب بويم”Jacob Boehme(1575-1624) وهو من عصر النهضة، اهتمّ بالماورائيات والخيمياء والعلوم الباطنية والتنجيم و أثّر في ديكارت وأطلق التيوزوفية في كلّ أوروبا.[4]
ويؤكّد “ألين باسكال” أنّ عصر النهضة، بعكس ما يقال، لم يكن عصر العقلانية، بل عصر ضد- السكولاستيك (الفلسفة المدرسية التي انتمى إليها القديس توما الأكويني) Anti-scholastique و عصر انتشار الغنوصية اليهودية (الكابالا) والباطنية الخفائية التي بدأت منذ القرن الثاني عشر.[5] ويؤكّد أنّ الفلسفة المعاصرة لها تاريخٌ سرّي غير مُعلن، متأصّل في هذه المبادئ، نتج منه كلّ ما نشهده في زمننا الحاضر من انحطاط للقيم وفساد على كلّ المستويات. إذاً الفلسفة المعاصرة برأي “ألين باسكال” مبنية على الباطنية والخرافة والسحر والأساطير وعلى الخبرة الصوفية والتنوير المساري المعرفي. وهي لاعقلانية، نتج عنها المادية والأنسنة وكل التيّارات الملحدة المعاصرة.
يشرح قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، من جهته، في الرسالة الجامعة في الإيمان والعقل تناقضَ هذه الفلسفات ومنها الفلسفة المثالية والإلحاد والعدمية، مع الإيمان المسيحي ويقول: “لا نغالي في القول إنّ معظم الفكر الفلسفي المعاصر قد تطوّر متباعداً شيئاً فشيئاً عن الوحي المسيحي إلى حدّ معارضته بطريقة سافرة. وهذا التيّار بلغ ذروته في القرن الفائت. بعض ممثّلي الفلسفة المثالية سعوا، بكلّ الطرق، إلى تحويل الإيمان ومحتواه، بما في ذلك سرّ موت يسوع المسيح وقيامته، إلى مقولات جدلية في متناول الإدراك العقلي. هذه الفكرة تصدّت لها بعض أشكالٍ من الأنسِية الملحدة المبنيّة فلسفياً التي صوّرت الإيمان بصورة الخطر الوبيل الذي يتهدّد العقلانيّة في تطوّرها الكامل. هذه التيّارات لم تخش الظهور للناس بمظهر ديانات جديدة أمست مرتكزات لخطّطٍ سياسية واجتماعية أدّت إلى قيام أنظمة توتالية خلّفت للبشرية صدمة عنيفة.”[6]
وقد ساعد التقدّم العلمي على تفاقم الوضع، ممّا أدّى كذلك إلى انتشار “العقلانية” و”العدمية” :” في إطار البحث العلمي توصّلت تلك المذاهب الفلسفية إلى فرض ذهنية وضعيّة لم تكتفِ بالإبتعـاد عن كلّ نظرة مسيحية إلى العالم، بل أهملت أيضاً وخصوصاً كلّ مرجعيّة إلى أيّ رؤية ميتافيزيقية وأخلاقية. وبالتالي، فهناك قبضة من رجال العلم فقدوا كلّ مرجعيّة أدبيّة فلم يعد الإنسان ومجمل حياته محور اهتمامهم. ويُضاف إلى ذلك أنّ بعضاً منهم، لعلمهم بالطاقات المخزونة في التطوّر التكنولوجي، أخذوا ينقادون لا لمقتضيات السوق بل لما تسوّله لهم نفوسهم من تسلّط مقتدر على الطبيعة وعلى الكائن البشريّ نفسه.”
” هناك أخيراً العدَمية التي جاءت نتيجة أزمة العقلانية. وقد أفلحت، بوصفها فلسفة العدم، في أن تخلب أذهان معاصرينا…العدمية هي مصدر العقلية الشائعة والقاضية بأنّ على الإنسان ألاّ يتقيّد بالتزام دائم. ولا غرو فكل شيء عابر ووقتي.” [7]
“هذه الأشكال العقلانية تنـزع أو بإمكانها أن تنـزع إلى أن تكون «وسيلة وظيفية» في خدمة الأهداف المنفعية، أهداف الإمتلاك أو التسلّط، بدلاً من أن تتجّه إلى تأمّل الحقيقة والبحث عن الغاية الأخيرة ومعنى الحياة. “[8]
بالفعل، لقد أخذت أغلبُ الفلسفات المعاصرة عن الغنوّصية والديانات الوثنية، وعبّرت عنها بمصطلحات حديثة فلسفية وعلمية.
مثلاً نلمسُ تأثير “الحلولية” في فكر “جيوردانو برونو” Giordano Bruno(1548-1600). وعند سبينوزا Baruch de Spinoza(1632-1677) الذي أسّس تيّارًا فلسفيًا ألهم فيما بعد روّاد العصر الجديد. لا ننسى تأثير هيغل G.W.F. Hegel الذي اعتقد بأنّ الله هو مطلق لاشخصاني وأنّ التطوّر هو مبدأ كلّ نموّ. لذلك يروّج العصر الجديد بقوّة لنظرية التطوّر الدارويني الإلحادية ويقول إنّ المسيحية هي بكلّ بساطة مجرّد مرحلة من مراحل هذا التطوّر الماديّ.
عبّر أيضًا عن هذا الفكر الحلولي كارل غوستاف يونغCarl G. Jung (1875-1961) مؤسّس علم النفس الحديث بعد فرويد و الذي تأثّر بمعتقدات الشرق الأقصى خصوصًا الحلولية. وهو يؤمن أنّ على المعتقدات الدينية أن تتأسّس على التجربة الشخصية النسبية لتستبدل الحقائق الإلهية المطلقة. أطلق فرضية “الوعي الجماعي” التي تقول أنّ كلّ خبرات الإنسانية مجموعة في وعيٍ يمكن لكلّ واحد أن يتواصل معه.
كذلك نلمس الفكر الحلولي هذا، عند المعالج النفسي ويلهالم ريشWilhelm Reich(1897-1957)الذي ادّعى أنّ طاقة ما سمّاها “طاقة الأورغون”Orgone Energy تتخلّل الكون. بالتالي فكلّ نموّ نفسي أو نضوج له علاقة بالتواصل مع هذه الطاقة. (غير المثبت وجودها علميًا).
كلّ هذه الأفكار مهّدت أيضًا لظهور ما يسمّى بحركة التنمية البشرية Human Potential Movement إبتداءً من خمسينيات القرن الماضي، في مراكز لتيّار العصر الجديد مثل مراكز إيسالينEsalen وفندورن Findhorn في الولايات المتحدة الأميركية.
يتبع
لمجد المسيح
[1] Jean Paul II, Entrez dans l’esperance, Paris( Plon), 1994, p.147
[2] وثيقة يسوع الحامل الماء الحيّ، الفصل الأول، الفقرة الرابعة
[3] Alain Pascal, Les sources occultes de la philosophie moderne, de la Gnose à la Théosophie, Ed.des Cimes 2017, coll ”face cachée”.
[4] من هؤلاء المؤلفين الذين تأثروا ب بويم نذكر مثلاً: Valentin Weigel (1533-1588)- Heinrich Khunrath (1560-1605)- Johan Arndt(1555-1621)- Johann Gichtel (1638-1710)- Robert Fludd (1574-1637)- Jhon Pordage (1608-1681)- Jane Leade (1623- 1704)-Pierre Poiret (1646-1719)- Antoinette Bourignon (1616-1680)
[5] Alain Pascal, La Renaissance, cette Imposture, Ed. Des Cimes 2006
[6] رسالة جامعة في الايمان والعقل فقرة 46. تجدها على الرابط التالي:
http://w2.vatican.va/content/john-paul-ii/ar/encyclicals/documents/hf_jp-ii_enc_15101998_fides-et-ratio.html
[7] المرجع السابق نفسه
[8] رسالة جامعة في الايمان والعقل، قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، فقرة 47