يُعتبر يونغ مؤسّس علم النفس التحليليPsychologie Analytique وعالم نفس القرن الواحد والعشرين الذي أثّر في علم النفس المعاصر، في المسيحية وفي تيّار العصر الجديد. روّج له أشخاص معاصرون كثيرون[1] من بينهم القسّيس الإنجيلي ريك فارنRick Warren( 1954-..) الذي أخذ عنه نموذج الشخصيات في برنامجه Shape .كذلك استعملته عدّة كنائس أنجليكانية ومؤسّسات أخرى.
سبق وشرحنا في مقالةٍ سابقة عن دور عالِم النفس”كارل غوستاف يونغ”Carl gustave Jung(1875-1961) في بلْورةِ فكر تيّار العصر الجديد، على ضوء وثيقة “يسوع المسيح الحامل الماء الحيّ”.
يتيّن لنا أيضًا من خلال محاضراته وكتاباته و في عدّة أبحاث ودراسات حوله[2]، كيف تأثّر بعقائد الشرق الأقصى، بحيث أنّه استوحى أغلب نظرياته منها، مثلاً نظرية “النموذج الأصلي”Archétype و”اللاوعي الجماعي”Inconscient Collectif و”التزامن”Synchronicité وغيرها.
في شبابه، إعتقد يونغ أنّ له شخصيتان: إحداهما نفسه والأخرى شخصية رجل من القرن الثامن عشر اسمه فيلمون كان يتكلّم معه بشكلٍ دائم بعد الصدمة التي تلقاها على أثر انفصاله عن عالم النفس فرويد. هذه الروح كانت تظهر له بشكل شيخ له أجنحة وله قرنان مثل الثور .
لقد صرّح عنه قائلاً: “فيلمون كان يمثّل قوة ليست مني. هو الذي علّمني الموضوعية النفسية”(James Sundquist, A Review of the Purpose Driven Life)
نشأ يونغ في عائلةٍ تحضّر لجلسات أرواحية[3] وكان خلال حياته على تواصل دائمٍ مع الأرواح. كان يعتقد أنّ كلّ الديانات أساطير وأنّ سرّ الحياة يكمن في قلب تصوّف كلّ الديانات. لم يكن مؤمنًا بالمسيح بل صرّح قائلاً: “الرب يسوع لم يكن مرّة حقيقيًا بشكلٍ كاف لي. ولا مرة مقبولاً ولا هو صديقي… إنه إله الموت وأشكّ في محبته ووداعته”((Jung, Memories Dreams, Reflections, p13
عمل يونغ مع فرويد من سنة 1907 الى سنة 1912 ثم افترق عنه. ويُعتبر مؤلّفُه “تحوّلات ورموز الليبيدو” إعلاناً فعلياً للقطيعة مع فرويد. مع نشأة العصر الجديد، تعرّف على الهندوسية البوذية، الطاوية، التنجيم، الغنّوصية، رمزية الماندلا، تفسير الأحلام، التيوزوفيا، الميتولوجيا اليونانية، وغيرها. كما قضى فترة من الزمن في الهند حيث درس الديانات الشرقية وممارساتها الشعبية. نتيجة لذلك استعمل يونغ وسيلة العرافة آيشينغI-Ching وضمنها في برنامج التنشئة في معهده في زيورخ.
يقول القسّيس الأنجليكاني إيد هيردEd Hird في تقرير له بعنوان:
“كارل يونغ، الغنّوصية الجديدة ومؤشّر مايرز بريغز للطباعMBTI “
“يمكننا القول من دون مبالغة أنّ كارل يونغ هو أب الغنّوصية الجديدة وحركة العصر الجديد“[4]
وفي المرجع نفسه يذكر “هيرد” نقلاً عن المعالج النفسي “جيفري ساتينوفر” Jeffrey Satinover ، الحائز على ديبلوم في علم النفس التحليلي من معهد كارل غوستاف يونغ في زيوريخ :
“إنّ تأثير يونغ المباشر وغير المباشر على المسيحية وبالتالي على الحضارة الغربية كان كبيرًا جدًا. لا نبالغ إذا قلنا أنّ المواقف اللاهوتية لأغلب التقليديين المعروفين في مقاربتهم الرعائية كما في عقائدهم وليتورجيتهم، تتماثل مع اللاهوت النفسي، الرمزي ليونغ”
“لقد كرّس يونغ أغلب حياته في دراسة الخيمياءL’Alchimie[5] . كما شرح معتقدات قديمة كالهرمسية والغنّوصية المسيحية وكتاباته الأولى كانت حول الروحانيات. ويصرّح في سيرته الذاتية أنّه استلهم فكره في علم النفس من الخيمياء والغنّوصية”.
كذلك يستشهد “هيرد” في التقرير نفسه بما قاله د جايمس هيلمانDr James Hillman مدير معهد يونغ في زيوريخ أنّ يونغ كتب أوّل مقدّمة عن البوذية الزن وتناول ميتولوجيا الإغريق كما اهتمّ بالتنجيم.Astrologie
نقرأ في تصريحٍ له في رسالة وجّهها إلى فرويد كيف اهتم بالخفائيات والتنجيم بشكل خاص: “لقد قمتُ بحسابات فلكية كي أجد مؤشرًا لجوهر حقيقة النفس… وأتجرّأ بالقول أنّه علينا يومًا أن نكتشف في التنجيم معرفةَ حدْسية محفوظة في السماوات”[6]
لقد درس يونغ الرمزية الخيميائية وربطها بالمسار الروحي وأدخلها في علم النفس. وقد رأى أنّها تماثل اليوغا. وقدّم على ضوء علم النفس التحليلي تفاسير لنصوص الخيمياء الصينية وباردو تودول التيبتيBardo Todol .
كما استشهد مرارًا بإيزوتيريكيين مثل التيوزوفي ج. ميد G.R.S. Mead وغيرهم. بحسب ما ورد في كتاب عالم النفس ريتشارد نول: “بدعة يونغ” The Jung Cult
إذاً “نفْسَنَ” يونغ الباطنية وقدّس علم النفْس بإدخال أفكار باطنية عليه. نتج عن ذلك، مجموعةٌ من النظريات التي تسمح للناس بالتكلّم عن الله وهم يقصدون فعليًا نفسيتهم الخاصة، وعندما يتكلّمون عن نفسيتهم الخاصة يقصدون الألوهة.
يتبع
[1] مثلاً بول تيليكPaul Tillich(1886-1965) وهو لاهوتي بروتستانت أميريكي، جوزف كامبلJoseph Campbell(1904- 1987) أستاذ في الادب، ريتشارد فوستر Richard Foster(1942-..)لاهوتي إنجيلي وغيرهم.
[2] Carl Gustave Jung et La pensee Indienne, Philippe Sapowicz (https://www.theses.fr/2010PA040150)
-Psychologie du Yoga de la Kundalini, Carl Gustav Jung, Spiritualités vivantes, Albin Michel, 2005
-Les Energies de l’âme: Séminaire sur le yoga de la kundalini donné en 1932,Carl Gustav Jung, Spiritualités Vivantes, Albin Michel, 1999
[3] Jhon Kerr, A most dangerous Method: The story of Jung, Freud and Sabina Spielrein, 1993, p50-54, cite par Ed. Hird
[4] Ed Hird, Carl Jung, Neo-Gnosticism and the Meyers Briggs Temperament Indicator(MBTI)
http://www3.telus.net/st_simons/arm03.htm
[5] الخيمياء مورست في الحضارات القديمة لكنها تطوّرت خصوصًا في القرون الوسطى. هدفها البحث عن حجر الفلاسفة وألكسير الحياة. من أجل معرفة القوانين الطبيعية والسيطرة عليها ومن أجل بلوغ الخلود. ثم أصبح لها معنى روحي وتحولت الى فلسفة روحية اعتمدتها البدع الباطنية.
[6] Richard Webster, Why Freud Was Wrong, Basic Books, 1995, page 385