أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، مساء الخير!
يمكننا أن نشعر هنا معكم بدفء العائلة، محاطون بالصغار والكبار. من السهل أن نشعر وكأننا في بيتنا إذ نراكم ونصغي إليكم. البابا وسطكم يشعر وكأنه في بيته. شكرًا على استقبالكم الحارّ وعلى الشهادات التي قدّمتموها لنا. لقد عانقكم جميعًا مونسنيور بيترو في كلامه، كربّ عائلة صالح وفخور، عند تقديمه لكم، وقد أكّدته لنا، إدوارد، عندما قلت لنا أن هذا الاجتماع ليس للشبيبة فقط ولا للبالغين ولا لغيرهم، لكنكم أردتم “أن يحضر معنا الليلة آباؤنا وأجدادنا”.
اليوم هو يوم الطفل. لنصفّق للأطفال! أودّ أوّلًا أن نصلّي من أجلهم: لنسأل العذراء بأن تحفظهم في ظلّ حمايتها. لقد جعلهم يسوع وسط رسله؛ ونريد نحن أيضًا أن نجعلهم وسطنا ونؤكّد من جديد التزامنا بمحبّتهم بنفس محبّة الربّ لهم، ونلتزم بمنحهم الحقّ بالمستقبل. إنه لإرث جميل هذا: أن نعطي الأطفال الحقّ بالمستقبل.
يسعدني أن أرى أنه يوجد في هذه الساحة وجه عائلة الله التي تضمّ الأطفال والشبيبة والأزواج والمكرّسين والشيوخ الرومانيين من مختلف المناطق والتقاليد، كما ومن مولدوفا، وأيضًا الذين أتوا من الجانب الآخر من نهر بروت، والمؤمنين الناطقين بلغة الكسانجو واللغة البولندية والروسية. إن الروح القدس يدعونا جميعًا ويساعدنا على اكتشاف جمال وجودنا معًا، والقدرة على الالتقاء والسير معًا. كلّ بلغته وتقاليده، ولكن سعداء بأن نلتقي كإخوة. ذاك الفرح الذي شاركانا به إليزابيث ويوان، مع أبنائهما الأحد عشر، جميعهم مختلفين، والذين أتوا من أماكن مختلفة، لكنهم “يجتمعون اليوم كلّهم معًا، كما كانوا منذ بعض الوقت يأخذون الطريق معًا صباح أيام الآحاد باتّجاه الكنيسة”. سعادة الوالدين لرؤية أبنائهم مجتمعين. هناك اليوم احتفال في السماء بالتأكيد لرؤية الكثير من الأبناء الذين قرّروا أن يجتمعوا.
إنها تجربة عنصرة جديدة، كما سمعنا في القراءة. حيث يعانق الروح اختلافاتنا، ويمنحنا القوّة كي نفتح مسارات رجاء، إذ يعطي كلّ منّا أفضل ما فيه؛ هو نفس المسار الذي بدأه الرسل منذ ألفي سنة والذي صار اليوم من مسؤوليّتنا أن نستلم عصاه ونقرّر أن نزرع. لا يمكننا انتظار الآخرين للقيام به، الأمر متروك لنا. نحن مسؤولون! الأمر متروك لنا!
من الصعب أن نسير معًا، صحيح؟ إنها عطيّة يجب أن نلتمسها، عمل حرفيّ نحن مدعوّون لبنائه، وموهبة ثمينة يجب نقلها. ولكن من أين نبدأ كي نسير معًا؟
أودّ أن “أسرق” مرّة أخرى كلمات الجدّين إليزابيتا ويوان. جميل أن نرى متى يتجذّر الحبّ بتفانٍ والتزام، بعملٍ وصلاة. لقد ترسّخ الحبّ فيكما وأعطى ثمارًا كثيرة. كما يقول يوئيل، عندما يلتقي الشبّان والشيوخ، لا يخاف الأجداد من أن يحلموا (را. يوئيل 3، 1). وكان هذا هو حلمكما: “نحن نحلم أن يتمكّنوا من بناء مستقبل دون أن ينسوا من أين انطلقوا. نحلم ألّا ينسى كلّ شعبنا جذوره”. أنتم تنظرون إلى المستقبل وتفتحون الغد لأبنائكم، لأحفادكم، لشعبكم، عبر تقديم أفضل ما تعلّمتموه خلال مسيرتكم: ألّا ينسوا من أين انطلقوا. أينما ذهبوا، ومهما فعلوا، ألّا ينسوا الجذور. إنه نفس الحلم، ونفس توصية القدّيس بولس لطيموتاوس: الحفاظ على إيمان والدته وجدّته (را. 2 طيم 1، 5- 7). فعلى قدر نموّك -بكلّ معنى الكلمة: قوّي، عظيم، وحتى ذات شهرة- لا تنسَ كم من أمور أجمل وأثمن تعلّمتها في العائلة. إنها الحكمة التي نكتسبها مع مرور السنين: عندما تكبر، لا تنسَ أمّك وجدّتك وذاك الإيمان البسيط والقويّ الذي ميّزهما والذي أعطاهما القوّة والثبات للمضيّ قدمًا، وعدم الاستسلام. إنها دعوة لتقديم الشكر وإعادة سخاء وشجاعة ومجانيّة إيمانٍ “صِنعِ المنزل”، والذي لا يلاحظه أحد، ولكنه يبنيشيئًا فشيئًا ملكوت الله.
والإيمان بالطبع، الذي لا “يدرج في البورصة”، لا يبيع، وكما ذكر إدوارد، فقد يبدو أنه “لا يخدم أيّ غرض”. لكن الإيمان هبة تحافظ على يقين عميق وجميل: انتمائنا كأبناء، وأبناء محبوبين من الله. والله يحبّ بمحبّة أب. فكلّ حياة، كلّ واحد منّا، ينتمي إليه. إنه انتماء أبناء، ولكن أيضًا أحفاد وأزواج وأجداد وأصدقاء وأقرباء؛ انتماء إخوة. الشرّ يقسم، ويشتّت، ويفصل، ويخلق الشقاق، ويزرع الارتياب. يريدنا أن نعيش “منفصلين” عن الآخرين وعن أنفسنا. أمّا الروح، فعلى العكس، يذكّرنا بأننا لسنا مجهولين، لسنا كائنات مجرّدة، دون وجه، دون تاريخ، دون هويّة. لسنا كائنات فارغة أو سطحيّة. هناك “شبكة” روحيّة قويّة للغاية توحّدنا و”تصلنا ببعضنا” وتدعمنا، وهي أقوى من أيّ نوع آخر من الاتّصال. وهذه الشبكة هي الجذور: أن ندرك أننا ننتمي إلى بعضنا البعض، وأن حياة كلّ منّا هي راسخة في حياة الآخرين. قال إدوارد “إن الشبّان يونعون عندما يكونون محبوبين حقًّا”. كلّنا نونع عندما نشعر بأننا محبوبون. لأن الحبّ يتجذّر ويدعونا إلى أن نتجذّر في حياة الآخرين. كتلك الكلمات الجميلة لشاعركم الوطني الذي تمنّى لرومانيا الحلوة: “عسى أن يحيا أبناؤك فقط في الأخوّة، مثل نجوم الليل” (مز إيمينيسكو، “ما أتمنّى لكِ، رومانيا الحلوة”). إيمينيسكو كان عظيمًا، كان يشعر بالنضج، وليس فقط: كان يشعر بالأخوّة، ولذا كان يريد رومانيا، وجميع أهلها، أن يكون إخوة “مثل نجوم الليل”. نحن ننتمي إلى بعضنا البعض، والسعادة الشخصيّة تمرّ عبر إسعاد الآخرين. وكلّ ما تبقّى هو حكايات خرافيّة.
للسير معًا حيث تكون، لا تنسَ ما تعلّمته في العائلة. لا تنسَ جذورك.
ذكّرني هذا بنبوّة ناسك قدّيس من هذه الأراضي. في أحد الأيام، التقى الراهب غاليك إيلي من دير سيهستريا، وهو يسير مع الخراف على الجبل، بأحد الناسكين الذي يعرفه وسأله: “قل لي أبتي، متى ستكون نهاية العالم؟” فقال الناسك الموقّر، وهو يتنهّد من قلبه: “أيها الأب غاليك، هل تعرف متى ستكون نهاية العالم؟ عندما تزول الطرق بين القريب والقريب! أي أنه عندما تزول المحبّة المسيحيّة والتفاهم بين الإخوة والأقارب والمسيحيين والشعوب! عندما يتوقّف الناس عن المحبّة، ستكون حقًّا نهاية العالم. لأنه بدون محبة وبدون الله لا يمكن لأيّ إنسان أن يعيش على الأرض!
تبدأ الحياة في التلاشي والتعفن، وتتوقّف قلوبنا عن الضحك والبكاء، ويتوقّف الشيوخ عن الحلم والشبّان عن التنبّوء، عندما تزول الطرق بين القريب والقريب… لأنه بدون محبّة وبدون الله لا يمكن لأيّ إنسان أن يعيش على الأرض.
قال لنا إدوارد أنه، مثل كثيرين آخرين في بلده، يحاول أن يعيش الإيمان وسط العديد من الاستفزازات. هناك بالفعل الكثير من الاستفزازات التي يمكن أن تحبطنا وتجعلنا ننغلق في ذواتنا. لا يمكننا إنكار ذلك، لا يمكننا تجاهل الأمر. الصعوبات موجودة وواضحة. لكن هذا لا يجعلنا نغفل عن أن الإيمان يعطينا أكبر تحدّي: ذاك التحدّي الذي، بعيد عن الانغلاق أو العزلة، يُنمّي أفضلَ ما في كلّ واحد منّا. الربّ هو أوّل من يستفزّنا ويقول لنا أن الأسوأ يأتي عندما “تزول الطرق بين القريب والقريب”، عندما نرى أن الخنادق هي أكثر من الطرق. الربّ هو الذي يمنحنا ترنيمة أقوى من جميع “صفّارات الإنذار” التي تريد أن تشلّ مسيرتنا. ويعطينا إياها بنفس الطريقة: ينشد ترنيمة أكثر جمالًا وجاذبية.
يعطينا الربّ جميعًا رسالة “استفزازية”، كي يجعلنا نكتشف المواهب والقدرات التي نمتلكها، وكي نضعها في خدمة الآخرين. يطلب منّا أن نستخدم حرّيتنا كحرّية اختيار، حرّية قول “نعم” لمشروع حبّ، لوجه، لنظرة. وهذه الحرّية هي أكبر بكثير من القدرة على استهلاك وشراء الأشياء. الرسالة التي تطلقنا، تجعلنا نحطّم الخنادق، ونفتح الطرق التي تذكّرنا بانتمائنا كأبناء وكإخوة.
في عاصمة البلد هذه التاريخيّة والثقافية، كانت تنطلق الجموع سويًّا -في العصور الوسطى- كحجّاج عبر ترانسيلفانيا، باتّجاه سانتياغو في كومبوستيلا. ويعيش هنا اليوم العديد من الطلاب من مختلف أنحاء العالم هنا. أتذكّر اجتماعًا افتراضيًا عقدناه في مارس/آذار مع Scholas Occurrentes(مدارس للتلاقي)، حيث قيل لي أيضًا أن هذه المدينة هي العاصمة الوطنيّة للشبيبة هذا العام. هذا صحيح؟ صحيح أن هذه المدينة هي عاصمة الشبيبة لهذا العام؟ [يجيب الشبيبة: “نعم”]. لتحيا الشبيبة! عنصران جيّدان: مدينة تعرف تاريخيًّا كيف تفتح وتطلق المسارات –مثل مسيرة سانتياغو-؛ ومدينة تعرف كيف تستضيف الشبيبة من مختلف أنحاء العالم كما هي حاليًا. هناك صفتان تذكّران بالإمكانات وبالرسالة العظيمة التي باستطاعتكم تنميتها: فتح سبل للسير معًا والمضيّ قدمًا بهذا الحلم الذي هو نبوءة: بدون محبّة وبدون الله، لا يمكن لأيّ إنسان أن يعيش على الأرض. ومن هنا، يمكن لسبل جديدة للمستقبل أن تنطلق نحو أوروبا والعديد من الأماكن الأخرى في العالم. حجّاج القرن الحادي والعشرون، قادرون على تصوّرٍ جديد للروابط التي تجمعنا.
لكنها ليست مسألة إنشاء برامج أو مشاريع كبيرة، بل ترك الإيمان ينمو، ترك الجذور تحمل لنا النسغ. كما قلت لكم في البداية: لا ننقُل الإيمان بالكلام فقط، بل بالأعمال، والنظرات، والمداعبات مثل مداعبات أمّهاتنا، وجدّاتنا؛ بنكهة الأشياء التي تعلّمناها في المنزل، بطريقة بسيطة وأصيلة. حيث يوجد الكثير من الضوضاء، لنتعلّم الاصغاء لها؛ وحيث يوجد ارتباك لنكن مصدر انسجام؛ وحيث يلفّ الغموض كلّ شيء، لنحمل الوضوح؛ حيث يوجد استبعاد، لنحمل المشاركة؛ ووسط البحث عن الانبهار والرسائل والأخبار السريعة، لنعتنيَ بشهرة الآخرين؛ ووسط العدوان، لنعطيَ الأسبقية للسلام؛ ووسط الكذب، لنحمل الحقيقة؛ في كلّ شيء، في كلّ شيء، لنعطيَ الأفضليّة لفتح السبل كي نشعر بانتماء الأبناء والإخوة هذا (را. رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الاتصالات الاجتماعية 2018). هذه الكلمات الأخيرة التي قلتها تحمل “موسيقى” فرنسيس الأسيزي. هل تعرفون ماذا نصح القدّيس فرنسيس الأسيزي إخوته كي ينقلوا الإيمان؟ كان يقول: “اذهبوا، وعظوا بالإنجيل، وإذا لزم الأمر، عظوا حتى بالكلام”. [تصفيق] هذا التصفيق هو للقدّيس فرنسيس الأسيزي!
أصل إلى نهاية الكلام، ما زال لدي مقطع واحد، لكنني لا أريد أن أغفل عن اختبار واجهته أثناء دخولي إلى الساحة. كان هناك امرأة عجوز، مسنّة، جدّة. كانت تحمل حفيدا لها بين ذراعيها له من العمر حوالي الشهرين لا أكثر. عندما مررت أظهرته لي. وكانت تبتسم، وتبتسم ابتسامة تواطؤ، كما لو كانت تقول لي: “انظر، الآن يمكنني أن أحلم!” في تلك اللحظة كنت متأثرًا ولم يكن لدي الشجاعة للذهاب ولإحضارها إلى هنا. لهذا أخبركم عنها. يحلم الأجداد عندما يمضي الأحفاد قدمًا، ويكتسب الأحفاد الشجاعة عندما ينالون الجذور من أجدادهم.
رومانيا هي “حديقة أمّ الله”، وفي هذا اللقاء، تمكّنت من إدراك ذلك، لأنها أمّ تزرع أحلام أبنائها، وتحفظ آمالهم، وتحمل الفرح للمنزل. إنها أمّ حنون وعمليّة، تعتني بنا. وأنتم جماعة حيّة ومزهرة، ومليئة بالرجاء يمكننا أن نقدّمها للأم. ولها، للأم، نكرّس مستقبل الشبيبة، مستقبل الأسر والكنيسة. مويتزوميش! [شكرًا!].
***********
©جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana