رومانيا تراث يُلَخَّص بكلمتين: حريّة ورحمة

النص الكامل لعظة البابا فرنسيس أثناء القداس الإلهي بالطقس اليوناني الكاثوليكي

Share this Entry

أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء!

“رابِّي، مَن خَطِىءَ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى؟” (يو 9، 2). إن سؤال التلاميذ هذا الموجّه إلى يسوع يثير سلسلة من الحركات والأفعال التي سترافق رواية الإنجيل بأكملها، وتكشف وتُبرز ما يُعمي حقًا قلب الإنسان.

إن يسوع يرى الأعمى منذ ولادته، كما وتلاميذه، وهو قادر أن يتعرّف عليه ويجعله في المحور. بعد أن أعلن أن عماه لم يكن ثمرة الخطيئة، جَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الأَعْمى؛ ثم أمره أن يغتسل في بِركَةِ سِلوامَ. بعد أن اغتسل، استعاد الرجل الأعمى بصره. من المهمّ أن نلاحظ كيف رويت المعجزة في آيتين لا غير، أمّا باقي الآيات فتلفت الانتباه، لا إلى الرجل الأعمى الذي شُفي، إنما إلى الجدل الذي سبّبه. يبدو أن حياته ولاسيما شفاءه أصبحا أمرًا عاديًّا، قصّة، أو موضوع نقاش، ومصدر حنق وانزعاج. أوّل من استجوب الرجل الأعمى الذي شُفي هو الحشد المندهش، ثم الفريسيّون، الذين استجوبوا أيضًا والديه. يتساءلون عن هويّة الرجل الذي شُفي؛ ثم ينكرون عمل الله، متحجّجين بأن الله لا يعمل يوم السبت؛ حتى أنهم يشكّون في أن الرجل قد ولد أعمى.

إن المشهد كلّه والمناقشات تكشف مدى صعوبة فهم تصرّفات يسوع وأولويّاته -فهو قادر على أن يجعل في المحور الشخصَ الذي كان على الهامش-، لاسيّما حين يعتقد المرء أن الأسبقيّة هي ليوم “السبت” وليس لمحبّة الآب الذي يسعى لخلاص جميع البشر (را. 1 طيم 2، 4)؛ كان على الرجل الأعمى أن يعيش ليس فقط مع عمى عينيه، بل أيضًا مع عمى المحيطين به. وهكذا هي المقاومة، والعداء الذي ينشأ في القلب عندما نضع، في المحور، بدلاً من الأشخاص، المصالح الخاصّة وتصنيف الأشخاص والنظريّات والنزع والأيديولوجيات، التي، حيثما تمرّ، لا تفعل سوى أنها تُفقِدُ النظر لكلّ شيء وللجميع. أمّا منطق الربّ فهو مختلف: بعيدًا عن الاختباء وراء الخمول أو في النزع الإيديولوجية، فإنه يبحث عن الشخص بوجهه وجروحه وقصّته. يذهب للقائه ولا يسمح بأن تخدعه الخطب غير القادرة على إعطاء الأولويّة والمركزيّة لما هو مهمّ حقًا.

إن هذه الأراضي تعرف جيّدًا معاناة الأشخاص عندما يتعالى شأن الأيديولوجية أو النظام على الحياة، وعندما يقيم ذاته كمعيار لحياة الأشخاص وإيمانهم؛ وعندما تتدنّى القدرة على اتّخاذ القرارات، والحرّية ومجال الإبداع، أو حتى تُلغى (را. الرسالة العامة كن مسبّحًا، 108). أيها الإخوة والأخوات، لقد عانيتم من الخطب والإجراءات القائمة على التشهير والتي تتوصّل إلى طرد الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وتدميرهم، وتُسكِت الأصوات المتنافرة. نفكّر، على وجه الخصوص، في الأساقفة اليونانيين-الكاثوليك السبعة الذين سررت بإعلان تطويبهم. فقد أظهروا لشعبهم، إزاء الاضطهاد الشديد للنظام، إيمانًا وحبًّا مثاليّين. ووافقوا بشجاعة كبيرة وقوّة داخلية، على الخضوع لتجربة السجن القاسية ولجميع أنواع سوء المعاملة، حتى لا ينكروا انتماءهم إلى كنيستهم الحبيبة. لقد استرجع هؤلاء الرعاة، شهداء الإيمان، وتركوا للشعب الروماني تراثًا ثمينًا يمكننا تلخيصه بكلمتين: الحرّية والرحمة.

إذ أفكّر في الحرّية، لا يسعني إلّا أن أشير إلى أننا نحتفل بهذا القدّاس الإلهي في “ميدان الحرية”. يشير هذا المكان المهمّ إلى وحدة شعبكم التي تحقّقت في تنوع أشكال التعبير الديني: وهذا يمثّل إرثًا روحيًّا يُغني ويميّز الثقافة الرومانيّة والهويّة الوطنيّة. لقد عانى الطوباويّون الجدد وضحّوا بأرواحهم، لمعارضتهم نظام أيديولوجي غير ليبرالي وقسريّ حيال الحقوق الأساسيّة للإنسان. لقد وضع النظام الديكتاتوريّ والملحد، في تلك الفترة المؤسفة، حياة الجماعة الكاثوليكية موضع الاختبار: فقد تعرّض جميع الأساقفة، والعديد من المؤمنين، من الكنيسة اليونانية-الكاثوليكية والكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، للاضطهاد والسجن.

الجانب الآخر من التراث الروحي للطوباويّين الجدد هو الرحمة. لقد رافق إصرارهم على الأمانة للمسيح، الاستعدادُ إلى الشهادة دون كراهية تجاه المضطّهدين، الذين أظهروا إزاءهم تواضعًا عظيمًا. بليغ هو ما أعلنه الأسقف يوليو هوسو خلال سجنه: “لقد أرسلنا الله في ظلام المعاناة هذا كي نغفر ونصلّي من أجل توبة الجميع”. هذه الكلمات هي رمز وملخّص للموقف الذي ساند به هؤلاء الطوباويّون شعبهم خلال فترة المحن عبر الاستمرار في الاعتراف بإيمانهم دون خضوع ودون انتقام. إن موقف الرحمة هذا تجاه الجلّادين هو رسالة نبويّة، لأنه يظهر اليوم كدعوة للجميع إلى التغلّب على الحقد عبر التسامح، وعيش الإيمان المسيحي باتّساق وشجاعة.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، حتى في يومنا هذا، تظهر مجدّدًا إيديولوجيّات جديدة تحاول، بطريقة خفيّة، أن تفرض ذاتها وتقتلع شعبنا من أغنى تقاليدهم الثقافيّة والدينيّة. إنها استعمارات عقائديّة تحتقر قيمة الشخص، والحياة، والزواج والأسرة (را. الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحبّ، 40) وتؤذي، عبر اقتراحات غريبة وملحدة أيضًا كما في الماضي، لاسيّما شبيبتنا وأطفالنا، فتحرمهم من جذور تسمح لهم بالنموّ (را. الإرشاد الرسولي المسيح يحيا، 78)؛ ثم يصبح كلّ شيء تافه إذا كان لا يخدم المصالح المباشرة للفرد، ويقود الأشخاص إلى استغلال الآخرين ومعاملتهم كمجرّد أغراض (را. الرسالة العامة كن مسبّحًا، 123- 124). إنها أصوات تزرع الخوف والانقسام، وتحاول أن تمحو وتدفن أثمن إرث رأته هذه الأراضي. أفكّر، ضمن هذا الإرث، على سبيل المثال، في مرسوم توردا لعام 1568، الذي كان يعاقب جميع أنواع التطرّف من خلال تعزيز -وهي من أولى الحالات في أوروبا- فعل التسامح الديني.

أودّ أن أشجّعكم على حمل نور الإنجيل إلى معاصرينا ومواصلة الكفاح، مثل هؤلاء الطوباويّين، ضدّ هذه الإيديولوجيات الجديدة التي تنشأ. علينا نحن الآن أن نكافح، كما كان عليهم في ذاك الوقت أن يكافحوا. عسى أن تكونوا شهودًا للحرّية والرحمة، فتسود الأخوّة والحوار على الانقسامات، فتزداد “أخوّة الدم”، التي يعود أصلها إلى فترة المعاناة التي اكتشف فيها المسيحيّون، الذين انقسموا على مرّ التاريخ، أنهم أكثر قربًا وتضامنًا. أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لترافقكم في مسيرتكم حمايةُ العذراء مريم الوالدية، أمّ الله القدّيسة، وشفاعة الطوباويّين الجدد.

 

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019

 

 


© Copyright – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

Staff Reporter

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير