لقد سمعنا جزءًا مما يُطلق عليه “عظة يسوع الكبرى” في إنجيل لوقا. فيسوع، بعد أن اختار تلاميذه وبعد أن أعلن التطويبات، أضاف: “أَمَّا أَنتُم أَيُّها السَّامِعون، فأَقولُ لَكم: أَحِبُّوا أَعداءكم، وأَحسِنوا إِلى مُبغِضيكُم” (لو 6، 27). وكلمة يسوع تتوجّه إلينا أيضًا اليوم، نحن الذين نصغي له في هذا الاستاد.
إنه يقول هذا بوضوح وبساطة وحزم، ويرسم طريقًا، دربًا ضيّقا يتطلّب بعض الفضائل. لأن يسوع لا يسعى للمثالية، التي تتجاهل الواقع؛ فهو يتحدّث عن العدو الملموس، وعن العدو الحقيقي الذي وصفه للتو في التطويبات (6، 22): من يكرهنا، وينبذنا، ويهيننا ويحتقر اسمنا على أنه سيئ السمعة.
لا يزال الكثير منكم يقدر أن يروي القصص التي عاشها هو شخصيًّا من عنف وكراهية وخلاف؛ فبعضكم قد عاشوها جسديا؛ وبالنسبة لآخرين، فإنها تتعلق بقصص معارفٍ لهم غابوا عن هذه الدنيا؛ وآخرون أيضًا خوفًا من أن تتكرّر جروح الماضي نفسها وتحاول أن تعرقل مسيرة السلام التي بدأوها، كما هو الحال في مدينة كابو ديلجادو.
إن يسوع لا يدعونا إلى حبّ تجريديّ أو أثيريّ أو نظريّ، نضعه خطّيا على مكاتبنا لإلقاء الخطب. فالطريق الذي يقترحه يسوع علينا هو الطريق الذي اجتازه هو أوّلا، الدرب التي جعلته يحبّ الذين خانوه، والذين حكموا عليه ظلمًا، والذين سوف يقتلونه.
من الصعب التحدّث عن المصالحة عندما تكون الجراح التي سبّبتها السنين لا تزال مفتوحة، أو الدعوة للقيام بخطوة غفران -والتي لا تعني أن نتجاهل الألم ولا أن نطلب محيِ الذاكرة أو المبادئ (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 100). إن يسوع يدعونا، بالرغم من هذا، لأن نحبّ ونصنع الخير. يتعلق الأمر بالقيام بخطوة أعظم من مجرد تجاهل الشخص الذي أساء إليّ أو تجنّب أن تلتقي حياتي بحياته: إنه تفويض يهدف إلى محبّة فعّالة ومجّانية واستثنائية تجاه الذين ألحقوا بنا الأذى. بيد أن يسوع لا يتوقّف عند هذا الحدّ؛ بل يطلب منّا أن نباركهم ونصلّي من أجلهم، أي أن نتكلّم بالخير عنهم، فنهب هكذا الحياة لا الموت، ونلفظ اسمهم لا للإهانة أو الانتقام، بل لبدء علاقة جديدة تقود إلى السلام. فالمقياس الذي يقترحه علينا الربّ هو سامٍ!
وعبر هذه الدعوة، يريد يسوع –وهو بعيد كلّ البعد عن أن يكون مازوشيًّا عنيد- أن يضع حدًّا نهائيًّا للممارسة الشائعة –اليوم كما بالأمس- بأن نكون مسيحيّين، وفي ذات الوقت نعيش بحسب شريعة الانتقام. لا يمكننا أن نفكّر في المستقبل، وأن نبني أمّة، أو مجتمع يقوم على “عدالة” العنف. لا أستطيع أن أتبع يسوع إذا كان القانون الذي أروّج له وأعيشه هو: “العين بالعين، والسنّ بالسنّ”.
لا يوجد مستقبل لأية عائلة، ولا أية مجموعة من الأقرباء، ولا أية مجموعة عرقية، ولا حتى أي بلد، إذا كان المحرّك الذي يوحّدهم، ويجمعهم ويغطّي الاختلافات، هو الانتقام والكراهية. لا يمكننا أن نتّفق ونتّحد على الانتقام، وأن نصنع مع الشخص العنيف ما صنعه هو معنا، ونخطّط لفرص انتقام تحت أشكال قانونية ظاهريًّا. “السلاح والقمع العنيف، يولّدان نزاعات جديدة وأسوأ شرًّا بدلًا من أن يقدّما حلولًا” (نفس المرجع، 60). “عدالة” العنف هي على الدوام دوّامة بلا مخرج؛ وتكلفتها، مرتفعة جدًّا. هناك سبيل أخرى ممكنة، لأنه من الأساسيّ ألّا ننسى أن لشعوبنا الحقّ في السلام. لديكم الحقّ في السلام.
كيما تكون دعوته أكثر واقعية وقابلة للتطبيق في الحياة اليومية، يقترح يسوع قاعدة ذهبية أولى في متناول الجميع -“كَما تُريدونَ أَن يُعامِلَكُمُ النَّاس فكذلِكَ عامِلُوهم” (لو 6، 31)- ويساعدنا على اكتشاف ما هو الأهمّ في المعاملة بالمثل: أن نحبّ ونساعد بعضنا بعضًا وأن نُقرض دون انتظار أيّ شيء بالمقابل.
أن “نحبّ بعضنا بعضًا”، يقول لنا يسوع. ويترجمه بولس بأن “نلبس عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ” (را. قول 3، 12). فالعالم كان يجهل –وما زال يجهل- فضيلة الرحمة، والشفقة، فيقتل ويتخلّى عن الأشخاص المعاقين أو المسنين، ويبيد المجروحين والمرضى، ويتسلى بتعذيب الحيوانات. إضافة إلى عدم ممارسة اللطف والرحمة اللذان يقوداننا إلى الاهتمام بخير القريب مثلما نهتمّ بخيرنا الشخصي.
إن تخطّي الانقسامات والعنف لا يعني القيام بعمل مصالحة وحسب، والسلام لا يعني غياب أي صراع وحسب، ولكن الالتزام اليوميّ من جانب كلّ واحد منّا بإلقاء نظرة متنبّهة وناشطة تقودنا إلى معاملة الآخرين بتلك الرحمة واللطف اللذين نريد أن يعاملوننا به الآخرون؛ الرحمة واللطف قبل كلّ شيء تجاه الذين، بسبب حالتهم، يُرفَضون ويُستَبعدون بسهولة. وليس هذا التصرّف من شيمة الضعفاء بل الأقوياء، إنه موقف الرجال والنساء الذين يكتشفون أنه ليس من الضروري إساءة معاملة الآخرين أو تشويه سمعتهم أو سحقهم كيما يشعرون بأهميتهم الشخصية؛ لا بل على العكس. وهذا الموقف هو القوّة النبوية التي علّمنا إياها يسوع المسيح نفسه الذي أراد أن يتماهى معهم، (را. متى 25، 35- 45) وأظهر لنا أن الطريق الصحيح هو الخدمة.
يملك الموزمبيق أرضًا مليئة بالثروات الطبيعية والثقافية، ولكن من المفارقة أنه يوجد عدد هائل من السكّان دون مستوى الفقر. ويبدو أحيانًا أن الذين يأتون مظهرين الرغبة المفترضة بالمساعدة، لديهم مصالح أخرى. ومن المحزن أن يحدث هذا بين إخوة من الأرض نفسها، يسمحون بأن يسيطر عليهم الفساد؛ من الخطير للغاية القبول بأن يكون الفساد هو الثمن الذي علينا أن ندفعه مقابل المساعدات الخارجية.
“لا يَكُنْ هذا فيكُم” (متى 20، 26؛ را. آيات 26- 28). إن يسوع يحثنا من خلال كلماته على أن نكون روّاد لنمط حياة آخر، نمط ملكوته: روّاد، هنا والآن، لبذور فرح ورجاء وسلام ومصالحة. ما يسكبه الروح ليس نشاطًا ساحقًا، ولكن أوّلًا وقبل كلّ شيء، الاهتمام بالآخر، رائين ومقدّرين فيه الأخ إلى حدّ أن نشعر بحياته وألمه كحياتنا وألمنا. هذا هو أفضل ميزان لاكتشاف جميع أنواع الأيديولوجيات التي تسعى إلى التلاعب بالفقراء وبحالات الظلم لمصلحة المقارب السياسيّة أو الشخصيّة (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 199). يمكننا، وبهذه الطريقة فقط، وأينما كنا، أن نكون بذورًا وأدوات للسلام والمصالحة.
نريد أن يسود السلام في قلوبنا وفي نبض شعبنا. نريد مستقبلًا يسوده السلام. نريد أن “يَسُد قُلوبَكم سَلامُ المسيح” (قول 3، 15)، كما ذُكر في رسالة القدّيس بولس، الذي يستخدم فعلًا مُستلهَمًا من عالم الرياضة ويشير إلى شخص الحَكَم الذي يتّخذ القرار بالأمور غير الواضحة: “عسى أن يكون سلام المسيح هو الحَكَم في قلوبكم”. إذا كان سلام المسيح هو الحَكَم في قلوبنا، عندما تكون المشاعر في صراع فينا ونحن نتردّد بين حِسيّن متعارضين، “نلعب لعبة” المسيح: فقرار المسيح سوف يبقينا في طريق المحبّة، في طريق الرحمة، في اختيار الفقراء، في الدفاع عن الطبيعة. في طريق السلام. إذا كان يسوع هو الحَكَم بين مشاعر قلبنا المتضاربة، وبين قرارات بلدنا المعقّدة، فالموزمبيق قد ضمنت مستقبلًا من الرجاء؛ وعندها سيقدر بلدكم على ترتيل المزامير والترانيم والأغاني الملهمة لله بامتنان وبصدق (را. قول 3، 16).
***********
©جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana