من إشكاليات التنمية البشرية: هل تساعد التنمية البشرية Le développement Personnel في أن نصبح قدّيسين؟؟؟
“القداسة هي وجه الكنيسة الأجمل!” البابا فرنسيس
“لا وجود في الحقيقة لشخصية كاملة إلّا لدى القدّيسين. لكن كيف ذلك؟ وهل اهتمّ القدّيسيون بتنمية شخصياتهم؟ كلا. لقد وجدوها بدون أن يفتّشوا عنها. لأنّهم لم يبحثوا عنها بل عن الله فقط.” (كاردينال أنجيلو سكولا Cardinal Angelo Scola). هذا الكلام يتوافق تمامًا مع الذي يقوله الرب يسوع في الإنجيل: “من حفظ حياته يخسرها، ومن خسر حياته من أجلي يحفظها” (مت 10/ 39) و”من أراد أن يخلّص نفسه يُهلكها ومن يُهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلّصها” (مر 8/ 35).
“والقدّيسون لا يُخلقون بالولادة ولا يُرتجلون بل يصيرون، تاركين الله أن يسكن فيهم يوماً بعد يوم، وأن يحوّلهم إليه” (الأب ماسيمو أستروا).
إذاً الكنيسة والبشرية اليوم كما بالأمس، بحاجة خاصة إلى قدّيسين وليس فقط إلى مجرد بشرٍ كاملين، بل إلى بشرٍ متقدّسين بالآب والإبن والروح القدس.
يقول البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي “افرحوا وابتهجوا” إنّ القداسة هي وجه الكنيسة الأجمل. ويُضيف إنّ الدعوة إلى القداسة يوجّهها الربّ لكلِّ فرد منّا…“كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس” (أح ١١، ٤٥؛ ١ بط ١، ١٦). وقد سلّط المجمع الفاتيكاني الثاني الضوء على هذا الأمر بقوّة: “إنّ كلّ المؤمنين المزوّدين بوسائل خلاصيّة غزيرة وعظيمة، أيًّا كان وضعهم وحالهم، يدعوهم الربّ، كلٌّ حسب طريقه، إلى قداسة تجد كمالها في كمال الآب السماوي نفسه”.
“كلٌّ حسب طريقه”… فلا يجب إذًا أن يفقد المرء الشجاعة عندما يتأمّل أمثلة القداسة التي تبدو له بعيدة المنال. هناك شهادات مفيدة تُحفِّزنا وتحثّنا، ولكن لا لأننا نسعى لتقليدها لأنَّ هذا الأمر قد يُبعدنا عن المسيرة الفريدة والمميّزة التي يحفظها الربّ لنا. ما يهمُّ هو أن يميِّز كلُّ مؤمن مسيرته ويُظهر أفضل ما في ذاته، والمواهب التي منحه الله إياها (را. ١ قور ١۲، ۷) وألَّا يُنهك نفسه في السعي للتَّشبُه بشيء لم يُعدّ له. إننا جميعًا مدعوّون لنكون شهودًا ولكن هناك أشكال وجوديّة متعدّدة للشهادة. وبالتالي عندما كتب القدّيس يوحنا للصليب كتابه النشيد الروحي، فضّل أن يتحاشى قوانين ثابتة للجميع وبيِّن أنَّ هذه الأبيات الشعريّة قد كُتبت لكي يستفيد منها كلٌّ “على طريقته”. لأنَّ الحياة الإلهيّة تُنقل “إلى البعض بشكل وإلى آخرين بشكل آخر”[1].
تنمية بشرية متكاملة
إذَا القداسة هي عمل الله فينا وهي ليست نوعاً من الكمال الشخصي أو بلوغ مستويات من الرفاه البشري أو الإنجازات البشرية مهما بلغ تطوّر التكنولوجيا والعلوم الإنسانية. والقداسة ليست نتاج الجهد البشري مهما نما وسما، بل هي سُكنى نعمة الله فينا بالروح القدس متى جاوبنا على محبة الله، بملء إرادتنا، بالقبول والمحبة. لأنّ هدف الحياة المسيحية هي اقتناء الروح القدس، كما يقول القديس الروسي ساروفيم ساروفسكي. من هذا المنطلق، تسعى الكنيسة المقدّسة من خلال كهنتها وأساقفتها ومدبرّيها وخدّامها إلى تنمية بشرية متكاملة تتخطّى كلّ مفهوم بشريّ للكمال الشخصي.
هذه هي “الأنسنة المتكاملة المسيحية” Integral Christian Humanism التي تكلّم عنها الفيلسوف المسيحي جاك ماريتان Jeacques Maritain، ردًا على الأشكال المعلمنة للأنسنة[2] التي هي من دون أدنى شك، ضدّ الإنسانية لأنها ترفض الرؤية المتكاملة للإنسان كوحدة جسدًا ونفساً وروحاً. فعندما تهمل الأنتروبولوجيا البُعد الروحي المسيحي للطبيعة البشرية، لا يعود لدينا رؤية لإنسانية متكاملة بل رؤية مجتزأة ومنقوصة لأنها تهمل فيها جزءًا أساسياً حقيقياً للشخص البشري.
هذه “الأنسنة المتكاملة” تتخطّى كلّ أخلاقياتٍ بشرية مهما سمت وكلّ فكرٍ فلسفي مهما كان متقدّماً. إنها لا تكتمل إلّا بلقاء فريد واستثنائي ومصيري. لأنّه “في أصل واقع الكيان المسيحي لا يوجد قرارٌ أخلاقي أو فكرةٌ عظيمة، بل إنّه اللقاء مع حدث، مع شخص، يُعطي الحياة أفقًا جديدًا، وبالتالي توجّهاً حاسمًا”. كان يوحنا قد عبّر في إنجيله، عن هذا الحدث بهذه الكلمات: “لقد أحبّ الله العالم حتّى إنّه بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3/16) (البابا بندكتس السادس عشر، الله محبة، 2005، 1)
لقد اهتمّت الكنيسة دائماً بالقضايا الإجتماعية ولا تزال، ونشأ ما نسمّيه التعليم الإجتماعي الكاثوليكي في القرن التاسع عشر ردّاً على الثورة الصناعية ورأسمالية متوحّشة هي أشبه باقتصاد مدمّر للإنسان، “إنّه اقتصاد قاتل” كما وصفه البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل“. ولم يتوانَ باباوات عديدون عن واجب القيام بوظيفتهم بأن يسلّطوا نور الإنجيل على القضايا الإجتماعية في أيّامهم، وقد أصدروا في هذا الصدد رسائل جامعة كبرى مثل “الشؤون الحديثة” 1891 للبابا ليون الثالث عشر، و”السنة الأربعون” 1931 للبابا بيوس الحادي عشر، و”الأم والمعلّمة” 1961 و”السلام في الأرض” 1963 للبابا يوحنا الثالث والعشرين – علاوة على رسائل البابا بيوس الثاني عشر إلى العالم. و”ترقّي الشعوب” 1967 و”الذكرى الثمانون” 1971[3] للبابا بولس السادس، “العمل البشري” 1981، “الإهتمام بالشأن الإجتماعي” 1987[4] و”السنة المئة”[5] 1991 للبابا القديس يوحنا بولس الثاني، “المحبة في الحقيقة” 2009[6] للبابا بندكتس السادس عشر، “لك التسبيح” 2015[7] للبابا فرنسيس… وأصبح للكنيسة اليوم تعليمها الإجتماعي Docat دوكات أرست فيه مبادئ عن الإنسان في ذاته وقدراته، والتضامن والإمدادية Subsidiarité. ويؤكّد قداسة البابا فرنسيس أنّ “تعليم الكنيسة الإجتماعي لم يأتِ من هذا البابا أو ذاك أو من هذا العلامة أو ذاك، إنه صادر عن قلب الإنجيل، من يسوع بالذات. فحياة يسوع هي تعليم الله الإجتماعي” (من مقدمة دوكات Docat).
يقول قداسة البابا بولس السادس في رسالته العامة “ترقّي الشعوب” (1967) إنّه أنشئت أمانةٌ رسولية خاصة، مهمّتها أن “تبعث، في شعب الله بأجمعه، معرفةً تامّة بالدور الذي يجب أن يلعبه في الأزمنة الحاضرة، بحيث يدفع عجلة التقدّم في الشعوب الفقيرة؛ وينشر لواء العدالة الإجتماعية بين الأمم؛ ويكفل للأمم الأقلّ نماءً، المَددَ الذي يمكّنها من ضمانة رقيّها بنفسها”: “فالعدالة والسلام” هو اسمها، وهو منهاجها أيضاً. من أجل ذلك، توجّه إليهم اليوم جميعاً، هذا النداء الخطير، للعمل المتضافر من أجل النماء الكامل للإنسان، والإنماء المتكامل للإنسانية.” (5، ترقّي الشعوب، Populorum progression).
هذا الإنماء المتكامل للإنسانية وصولاً إلى الإنسانية المتكاملة، يحترم كرامة الآخر، وإرادة السلام وتقاسم الخير العام، وهو لا يكتمل برأي البابا بولس السادس إلا باعتراف الإنسان بالقيم الإلهية التي هي المصدر والمضمون. لهذا لا يتردّد البابا في طرح الإيمان، كعطية الله التي يتلقّاها الإنسان بملء إرادته والوحدة في محبة المسيح، كحلٍّ جذريّ للمعضلات البشرية. إنّ نظرة المسيح للجماعة تحفّزنا للتأكيد على المفهوم الحقيقي للأنسنة المتكاملة التي هي تنمية متكاملة للإنسان ككلّ ولكلّ الإنسانية”.
“ما يجب السعي إليه هو الأنسنة الكاملة. وهل يعني هذا إلا التنمية الكاملة للإنسان كلّه، والناس كلهم أجمعين. إنّ أنسنةً مغلقة، مقفلة من دون قيم الروح ومن دون الله الذي هو مصدرها، قد يُكتب لها النصر ظاهراً: فالإنسان، ولا شك، يستطيع تنظيم الأرض بدون الله، ولكنه، “بدون الله لا يستطيع تنظيمها، في النهاية، إلّا ضدّ الإنسان بالذات: فالأنسنة المحض أنسنة غير إنسانية”. من أجل ذلك لن تكون أنسنةٌ حقيقيةٌ إلّا المنفتحة على المطلق، مع الاعتراف بدعوة تعطي الفكرة الحقة عن الحياة الإنسانية. ذلك بأنّ الإنسان ليس هو القاعدة الأخيرة للقيم. إنه لا يحقّق نفسه إلّا بتجاوز نفسه… ” (42، ترقّي الشعوب)
إنّ ما يسمّى بحركة التنمية البشرية لا ترى في الإنسان إلّا حاجات جسدية ونفسية. وإذا ما أضافت بُعدًا روحياً، فهو في أغلب الأحيان، مقتبسٌ من روحانيات العصر الجديد الملتوية التي تُدخل التباساً في معرفة الله. فالألوهة عندهم طاقة كونية مبهمة تكتنفها الحلولية ووحدة الوجود ومادية ملحدة. إذ لا وجود لإلهٍ شخصي ولا لكشفٍ إلهي. ما يؤدّي إلى ضياع الحقيقة المطلقة وطغيان الرؤى النسبية والفوضى والفساد الأخلاقي وكلّ أنواع الحروب والنزاعات والمآسي الإنسانية.
يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني عن معنى الله ومعنى الإنسان:
“عندما يفقد الإنسان معنى الله، فهو يفقد معنى الإنسان أيضًا، وكرامته وحياته. ثمّ إنّ انتهاك الشريعة الأخلاقية بطريقة منهجية وخصوصًا في المجال الخطير المتّصل بالحياة البشرية وكرامتها يُحدِث نوعاً من الغشاوة المتكاثفة في قدرة الإنسان على إدراك حضور الله حضوراً حيًّا ومنقذًا”. (البابا يوحنا بولس الثاني، إنجيل الحياة، 1995، 21)
إذًا، لا إنسانية متكاملة بدون هذا البُعد الإيماني المسيحي وتحديداً بدون البُعد الإلهي في “الكلمة” الرب يسوع المسيح. كذلك كلّ روحانية بديلة عن الإيمان الرسولي هي أيضًا لا تؤدّي إلى إنماء متكامل للإنسانية.
يقول الكاردينال روبير سارا إنّ التجديد في الكنيسة لا يكون بتغيير الهيكليات، لكن بإعادة التمحور حول صليب الرب يسوع المسيح.
لأنّه فقط بعيش سرّ الصليب المحيي والحياة الأسرارية، بإخلاء الذات والطاعة للوصايا الإلهية، بالتوبة القلبية الصادقة والتواضع والإيمان والرجاء والمحبة، نصير أشخاصًا كاملين ونستعيد برارتنا الأصلية بمجد الصليب ومجد الإله – الإنسان المصلوب القائم والممجّد!
وهذه ديناميكية إلهية وإنسانية معاً، “سينيرجيا” متكاملة تطال الإنسان بكلّيته جسداً ونفساً وروحاً. وهي ليست عملية نفسانية أو عقلية محدودة. بل هي خلق جديد بالمسيح وولادة جديدة بالروح القدس. من أجل بلوغ “كمال المحبة” التي فيها يكون “تجلّي أبناء الله” المدعويين إلى المجد، مجد الملكوت السماوي.
المجد للمسيح!
- يتبع…
[1] فقرات 10 و11 ar.zenit.org/articles/الإرشاد-الرسولي-إفرحوا-وابتهجوا
[2] ليس المقصود بأشكال العلمانية هنا فصل الدين عن الدولة في المجتمعات الحديثة، بل المقصود العلمانية الملحدة أي التحول عن الايمان المطلق بالله نحو اللاأدرية واللامبالاة، حتى الكفر وإنكار وجود الله ومحاربة الإيمان بالله والكنيسة الكاثوليكية.
[3] لمناسبة مرور 80 سنة على الشؤون الحديثة واعتبارات في شأن عدّة مشكلات خاصة لا سيما البطالة والتلوّث والنموّ الديموغرافي العالمي
[4] بعد مرور 20 سنة على ترقّي الشعوب، أفكار جديدة حول نموّ العالم الثالث: يجب ألا يكون النمو إقتصادياً فقط، بل شاملاً أيضًا للمستوى الأخلاقي.
[5] لمناسبة مرور مئة سنة على الشؤون الحديثة ولمناسبة سقوط الشيوعية: إبراز الديموقراطية والمبادرة الفردية، واستنكار الليبرالية الإقتصادية عندما تدمّر البشر والعائلات
[6] بالاشارة إلى ترقي الشعوب تحليل مسهب لأوجه العولمة المختلفة
[7] الرسالة العامة الثانية للبابا فرنسيس حول مسألة حماية البيئة على خلفية حق الكائن البشري في الحياة وحول النموّ الشامل ضمن احترام الكرامة البشرية