“المهندسٍ الروحي” الذي يريدُ التحكّم بالإنسان.
من المفيد جدًا التأمّل في بعض إرشادات ورسائل وأحاديث قداسة البابا فرنسيس، لنستطيع أن نميّز بشكلٍ أوضح إشكاليات ما يُعرض علينا من تقنيات التنمية البشرية، في إطار النشاطات الرعائية والتنشئة اللاهوتية في المعاهد والجامعات المسيحية، ولنستشفّ منها أيضًا معايير مهمّة للتمييز الروحي.
يحذّر البابا فرنسيس بشكلٍ عام من التقنيات المتطوّرة ويصفُها بأنها تعمل كالمهندس الروحي الذي يريدُ التحكّم بالإنسان. من هذه التقنيات التي سنتكلّم عنها لاحقًا وبالتفصيل، نذكر على سبيل المثال كوتشنغ الحياة Life Coaching، البرمجة اللغوية العصبية NLP، التنويم Hypnose ، التاسوعية Enneagramme، السوفرولوجي Sophrologie وغيرها.
كما يحذّر البابا من التقنيات النفسية -الروحية Psycho – spirituelles ويعتبرها كتجارب، على الأساقفة التصدّي لها ومحاربتها. ويقدّم عدّة اقتراحات للخروج منها.
غسيلٌ للدماغ اللاهوتي Lavage de cerveau théologal
خلال حديثٍ وجّهه ل”المجلس الحبري للإتصالات الإجتماعية” Conseil Pontifical pour les[1] Communications Sociales (CPCS) بتاريخ 21/9/2013 وآخر في جامعة كاغلياري Cagliari[2] بتاريخ 24/9/ 2013 يقول البابا فرنسيس:
“إنّ اهتمام وحضور الكنيسة في عالم الإتّصالات مهمّ جدًا. من أجل التواصل والحوار مع الإنسان المعاصر وحثّه على اللقاء بالمسيح. لكن هذا اللقاء شخصي وحميمي للغاية لا يمكن التلاعب بشأنه. في الوقت الحاضر، تواجه الكنيسة تجربةً كبيرة هي “الإعتداء الروحي“: التلاعب بالضمائر وغسل دماغي لاهوتي يؤدّي إلى لقاء إسمي وشكلي بالمسيح وليس إلى لقاءٍ مع شخص المسيح الحيّ! كلّ شخص يلتقي مع المسيح يلتقي بشخص المسيح وليس بالمهندس الروحي الذي يريد التلاعب به والسيطرة عليه. هذا هو التحدّي. أن نقودَ الشخص إلى هذا اللقاء بالمسيح ونحن نعي أننا رسل وأنّ المشكلة الجوهرية ليست أن تكون لنا تقنيات متطوّرة حتى ولو كانت ضرورية، من أجل حضور فاعل يلائم زمننا الحاضر. ليكُن جليًا لنا أنّ الإله الذي نؤمن به، هو إلهٌ يعشق الإنسان ويريد أن يتجلّى من خلال وسائلنا حتى ولو كانت متواضعة، لأنّه هو الذي يعمل ويحوّل وهو الذي يخلّص الإنسان” (البابا فرنسيس في حديثه إلى المجلس الحبري للإتصالات الاجتماعية).
بالفعل، إنّ الخلط بين التقنيات الحديثة والعلوم الإجتماعية الجذّابة، قد سبّب للكنيسة مؤخرًا بفضائح كبيرة.[3] والأجوبة المقدّمة إلى المؤمنين تؤكّد على أمانة هذه التقنيات وعلى شرعيتها الأخلاقية، لكن، ويا للأسف، قد تخترق بعضَها تعاليمُ العصر الجديدNew Age حيث يُستبدل الإنجيل بمصطلحات تقنية، يصفُها قداسة البابا بتجربة “الإسمية” nominalisme. يتمّ بهذه الطريقة إفراغ المسيح من حقيقته كشخص واستبداله بعلمٍ كاذب. ومن خلال هذا الصدع الخفيّ يتسلّل المتلاعبون بنفوس المؤمنين. النتيجة هي “تجربة المفتاح الرؤيوي” La Tentation de la clé apocalyptique.
في حديثه في جامعة كاغلياري، يتابع قداسة البابا فرنسيس في الموضوع نفسه فيقول: “ما هي ردّات الفعل بمواجهة هذا الواقع؟ لنعُد إلى تلميذيْ عماوس: لقد أصيبا بخيبة أملٍ مريرة بسبب موت يسوع، وقد استسلما لهذا الواقع وحاولا الهروب من الحقيقة المفجعة، لذلك تركا أورشليم باتجاه عماوس. اليوم أيضًا يمكننا ملاحظة الأمر نفسه. بمواجهة الكارثة يمكن أن يتولّد لدينا إذعان واستسلام. وأيضًا تشاؤم بخصوص كلّ إمكانية تدخّل فاعلة.”
ويستفيض البابا في الشرح فيقول إنّ هناك دعوة للخروج من ديناميكية الزمن الحاضر الذي يتخلّل هذا المنعطف التاريخي الحالي، بفضح كل مظاهره الأكثر سلبية بعقلية تُشبه تلك التي ميّزت هذه الحركة الروحية واللاهوتية من القرن الثاني بعد المسيح والتي يسمّونها “رؤيوية”… هذه النظرة المتشائمة للحرّية الإنسانية والمسارات التاريخية، تؤدّي إلى شللٍ في الذكاء والإرادة. وهذا الإحباط يؤدّي إلى نوعٍ من الهروب للتفتيش عن جزرٍ أو عن هنيهاتٍ من الراحة. شيء يشبه موقف بيلاطس عندما غسل يديه ليبرّئ نفسه. تصرّف قد يبدو براغماتيًا وعمليًا لكنّه في الحقيقة يتجاهل صرخة العدل والإنسانية والمسؤولية الإجتماعية ويؤدّي إلى الفردانية، إلى النفاق والرياء والإستهتار. هذه هي التجربة التي سوف نتعرّض لها إذا سلكنا في الإحباط وخيبات الأمل.
نجد ردّة الفعل هذه عند الذين خاب أملهم من المتلاعبين، هؤلاء الذين تركوا الجماعات بعد أن وقعوا فريسة للتقنيين المتلاعبين من كلّ الأنواع. إن ردّة الفعل على خيبة الأمل هذه تؤدّي بالمؤمنين إلى هجر الكنيسة.
الجامعة المسيحية والتربية المتكاملة
“إذاً لنتساءل: هل هناك طريقٌ نسلك فيه في هذا الوضع؟ هل نستسلم؟ هل نفقدُ الرجاء؟ هل نهربُ من الواقع؟ هل نغسل أيدينا وننطوي على ذواتنا؟ لا أعتقد فقط أنّ هناك طريقاً نسلك فيه لكن أيضًا أنّ اللحظة التاريخية التي نعيشها تحثّنا للبحث عن آفاقٍ جديدة لمجتمعنا. وهنا دور الجامعة مهمٌ جدًا، لأنها مركز للمعرفة وللتشكيل في الحكمة في معناه الأكثر عمقًا لتربية متكاملة للشخص البشري”.
ويعرض البابا فرنسيس عدّة اقتراحات لتفادي الوقوع في الخطأ، من أجل تربية متكاملة للشخص محورها القيم الإنجيلية وهدفها القداسة. وهذه الإقتراحات ملائمة لجامعاتنا المسيحية.
أ-الجامعة كمركزٍ للتمييز. من الأهمية الكبيرة أن نقرأ الواقع وجهًا لوجه. القراءات الإيديولوجية أو الجزئية لا تفيد لأنها تتغذّى من خيبات الأمل. قراءة هذا الواقع وعيشه أيضًا بدون مخاوف ولا هروب ولا هلع. كلّ كارثة حتى الكارثة الحالية هي عبور ومخاض مؤلم فيه تعب ومشاكل، لكنّه يعِدُ بأفقٍ للحياة والتجدّد وباباً للرجاء. هذه محنة تغيير حقبةٍ من التاريخ وليس مجرّد تغيّرات مرحلية سطحية. هذه الضيقة يمكن أن تتحوّل لزمنِ تطهّر، لنُعيد التفكير بنماذجنا الإقتصادية والإجتماعية، بما فيها تلك الرؤية للتطوّر التي غذّت أوهامنا لاستعادة الإنسانية في كلّ أبعادها. التمييز ليس أعمى وهو ليس إرتجاليًا. هو يتحقّق على أساس معايير أخلاقية وروحية وينتج عنه أن نتساءل عمّا هو خير، بناءً على القيم التي تميّز الإنسان والعالم. في رؤية متكاملة للإنسان في كلّ أبعاده خصوصًا الروحية المتسامية. لا يمكننا أبدًا أن نعتبر الشخص البشري على أنّه “مادة بشرية” كما يقترحُه بخبثٍ المذهبُ العمليّ Le fonctionalisme.
ب-الجامعة كمركزٍ للحكمة. هذه صفة مهمة لتشكيل التمييز وتغذية الرجاء. عندما يرافق المسيحُ القائمُ هذا المسافرَ الغريب، تلميذيْ عماوس الحزينين والمحبطين، لا يحاول أن يُخفيَ حقيقة الصلب ولا الهزيمة بل على العكس يدعوهما لإعادة قراءة للواقع ليقودهما بالتالي إلى نور قيامته (لو24/ 25-26). التمييز لا يعني الهروب، بل هو قر اءة جديّة للواقع بدون أفكارٍ مسبقة.
ت-الجامعة كمركزٍ لنشر حضارة التوعية والتلاقي. إنّ التقوقع على الذات وعلى المصالح الشخصية ليس طريقًا للرجاء أو التجديد، بل هي حضارة الجوار، حضارة التلاقي. إذاً لا لحضارة المواجهة، لكن لحضارة التلاقي. الجامعة هي المكان الأفضل حيث نشجّع، نعلّم ونعيش حضارة الحوار التي تقود بحكمة الإختلافات والتعدّديات، وكلّ ما هو من نتاج العولمة، بحيث أن لا تكون سببًا للصدام، بل سببًا للمواجهة البنّاءة. هذا يعني فهمَ وإبرازَ غنى الآخر، ليس الحذر منه أو عدم اللامبالاة، لكن باعتباره عاملاً للنموّ. إنّ الديناميكيات التي تنظّم العلاقات بين البشر، الجماعات والأوطان، هي ليست غالباً علاقات تقارب ولقاء، بل هي صدامية. بالعودة إلى تلميذيْ عماوس، عندما اقترب يسوع منهما ورافقهما وأصغى إلى إنفعالهما وخيبة آمالهما وحاورهما. بهذه الطريقة تحديدًا، أعاد إشعال فتيلة الرجاء في قلبيهما وفتح لهما آفاقًا كانت موجودة لكن وحده اللقاء بالقائم من الأموات يجعلها آفاقاً مرئية. لا تخافوا أبدًا من اللقاء، من الحوار والمواجهة حتى بين الجامعات وعلى كل المستويات. نحن هنا في حرم كلية اللاهوت… لا تخافوا من الإنفتاح على آفاق التسامي ولقاء المسيح من أجل توطيد العلاقة معه. الإيمان لا ينتقص من العقل ولكنه يجعله منفتحًا على رؤية متكاملة للإنسان وللواقع وهي سور يحمي من خطر اختزال الإنسان في “المادية البشرية”.
ث-عنصرٌ أخير: الجامعة كمركزٍ للتدريب على التضامن. كلمة تضامن ليست فقط مسيحية بل هي من صميم اللغة الإنسانية… ويُخشى في أيامنا هذه أن تمّحى هذه الكلمة من قواميسنا. إنّ تمييز الحقيقة ونحن في وضع كارثي، الترويج لحضارة التلاقي والحوار، توجّه نحو التضامن كعنصر أساسي في تجدّد مجتمعاتنا. اللقاء والحوار مع يسوع وتلميذيْ عماوس يُشعل فتيل الرجاء ويجدّد حياتهما ويقودُ إلى المشاركة: لقد عرفاه عندما كسر الخبز. إنها الإفخارستيا، التي فيها الله يقترب من الإنسان في حضور دائم ليشركه في حياته الإلهية.
إذًا، على المراكز التعليمية المسيحية من جامعات ومعاهد تنشئة وإكليريكيات أن تفرز ما يُعرض عليها من معارف لأنّ جوهرَ نشاطاتها محوره المسيح أولاً وآخراً أي البشارة بالخبر السار، وأن تكون في الوقت نفسه، مراكز للحكمة والتلاقي والتضامن من أجل الخير العام، في شركة الحياة الإلهية بالمسيح يسوع ربنا وإلهنا.
يتبع –
لمجد المسيح !
[1] https://w2.vatican.va/content/francesco/fr/speeches/2013/september/documents/papa-francesco_20130921_plenaria-pccs.html
[2] https://fr.zenit.org/articles/l-universite-lieu-d-apprentissage-de-la-solidarite/
[3] نعطي مثالا على ذلك ما حصل في فرنسا من شكاوى مما يسمى بالدورات النفسية الروحية التي تسببت بانقسامات عائلية. صدر على أثرها ما يُسمّى بالكتاب الأسود Le livre Noir عن مركز محاربة التلاعب الفكري CCMM