“صلبوا “الحياة

 أَلَم يحن الوقت كي يشكر الانسان الله على نِعَمِه وعطاياه، بالرُّغم ما يحّل ويحصل بالعالم؟

Share this Entry

أُصلُبهُ، أُصلُبهُ” هي صَرَخات أبناء أورشليم، الَّذين استقبلوا المسيح المَلِك، مُتَّكلين عليه أن يمنحهم الخلاص من نير الحُكم الرُّوماني، خاب ظنّهم، إذ أنّهم اعتبروا الخلاص زمنيّ وماديّ فقط، وفاتهم أنّ الخلاص الحقيقيّ، الَّذي أتى من أجله إبن الإنسان، هو خلاص الذَّات، والتحرُّر الداخليّ، والحدّ من الخطيئة، والانتصار قدر المستطاع على الضُّعف، للإستعداد إلى الدُّخول إلى ملكوت السَّماوات.

قبْلَ الحُكم على يسوع بالموت، صَدَحَت أصوات النَّاس وصُراخهم، في أرجاءِ ساحاتِ أورشليم، فتلقَّفها أصحاب السُّلطة والسُّلطان، وحكموا عليه بالموت.

كم يطالب وينفّذ إنسان هذا العصر “بصَلب أخيهِ على الصَّليب فوق الجلجلة يوم الجمعة العظيمة.

هذا المشهد الرَّهيب صنع حدثًا تاريخيًّا وزمنيًّا، طَبَعَ حياة البشريّة، بشتّى أنواع حالات التَّقارب الإنسانيّ – الإلهيّ. إنّها حقيقة تمَّت على الصَّليب من قِبَل المصلوب، من أجل خلاص الإنسان، كلّ إنسان يؤمن بقُدرة المسيح المائت على الصَّليب، ولكنّه المُنتصِر على الموت بالموت.

هذا المشهد الرَّهيب يوم “الجمعة الحزينة” أو “العظيمة”، عبَّر من خلاله إبن الإنسان عن تضامنه وحضوره وقُربِه وحبّه للبشريّة، عندما قَبِلَ أن يكون “التَّضحية” والفِداء، أيّ سَفَكَ دمَهُ من أجل مغفرة الخطايا، وإعطاء الخلاص لأبناء الأرض. أَلا يحقّ لنا أن نردّد “نسجدُ لكَ أيّها المسيح ونباركُكَ، لأنّكَ بصليبكَ المقدَّس خلَّصتَ العالم”؟ أَوَليس هذا أصدق وأجلّ تعبير عن حبّ الله للبشريّة؟ أَلا تُقاس المحبّة بالعطاء والبَذل والتَّضحية وتحمُّل الألم والحضور الدائم؟” هكذا أَحبَّ الله العالم، فبَذَلَ إبنه الوحيد” (يو٣: :١٧).

أينَ إنسان هذا العصر، أينَ المؤمنين بيسوع المسيح، من هذا الفِداء والحبّ في زمن إنتشار كلّ أنواع الأوبئة؟ هل لدى كلّ مؤمن الجرأة للوقوف أمام ذاته، ومواجهة نفسه لا سيّما في هذه الظروف العصيبة والخطرة، الَّتي تمرّ بها الكرة الأرضيّة؟ هل المؤمن على استعداد بأن يكفّر عن خطاياه و”رذائله”، وأن يقرّر التَّعويض بالنَّدامة الصَّادقة والتَّوبة العميقة والجدّية، والتَّعويض الظَّاهر، المُعبَّر عنه بتغيير السُّلوك والتَّفكير والأداء، وفعل الخير والرَّحمة والعدل؟ أَم سيبقى متمسّكًا “بحالته” التَّعيسة والمُزرية، بسبب خطواته الشِّريرة والسَّيِّئة، الَّتي تضرب حالة الإنسانيّة بالصَّميم، والعلاقة مع الله.

صلبوا “الحياة”، وأشبعوها موتًا بسبب جَهلِهم، لكن المسيح انتصرَ على الموت، بإعطاء الحياة، لكلّ مُحتاج “أَلحَقَّ ٱلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ حَبَّةَ الحِنْطَة، إِنْ لَمْ تَقَعْ في الأَرضِ وتَمُتْ، تَبْقَى وَاحِدَة. وإِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يَفْقِدُهَا، ومَنْ يُبْغِضُهَا في هذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّة.( يو١٢ : ٢٣). مات الله، لكنّه أعطى الحياة “فكما أنّ الآب له الحياة في ذاته، فكذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته وأَولاه سلطة إجراء القضاء لأنّه ابن الإنسان […] أمّا الَّذين عملوا الصَّالحات فيقومون للحياة وأمّا الَّذين عملوا السَّيّئات فيقومون للقضاء” (يو ٥: ٢٦-٢٨).

مات الله، ومع هذا لم تَمُت من حياة الإنسان، الضَّغينة والحقد والكراهية والإزدراء والبغض والانتقام والاستغلال، وكلّ أنواع الشُّرور، المُتربّصة بحياة كلّ شخص يرفض حبّ الله ووصاياه، من أجل حياة سلامٍ وأمانٍ. نَعَم، مات الله، ويبقى الإنسان يبحث عن ملذّاته الفانية، وتعلّقه المُستمرّ في حفنات الماديّات، الَّتي جلبت له التعاسة، والأنانيّة، أكثر من الرّاحة والطمأنينة والأمان.

نَعَم، مات الله، ليُعطي الحياة لخليقته. أخذَ “موت الإنسان” “وخطاياه”، ليعطيه حياته. فهل يعي هذا الحبّ الكبير والمجّاني والكامل؟ أَلا يجب أن يستيقظ الضَّمير الإنسانيّ، لا سيّما في هذه الظروف القاهرة، بالتَّعاضد والتَّعاون، من أجل عيش الأخوّة الإنسانيّة، للحدّ من الإحباط والخوف واليأس والقنوط، والموت النفسيّ والجسديّ؟ هل يمكن للإنسان تحمّل آلام وعذابات وجروح الحياة اليوميّة؟ هل يمكن للمؤمن أن يرى آلام السيّد المسيح، أليمة وخيّرة، قاتلة ومُحيِيَة، هوان ومجد؟

أَعطِ يا ربّ المؤمن الشَّجاعة والقُدرة على التَّحمّل، والصَّبر وعدم الجحود.

“أعطِ يا ربّ الَّذين يشاركونكَ مصير الصَّليب، أيّ الَّذين يتعرَّضون للإضطّهاد والظُّلم، ويعانون آلامًا مُختلفة، وقد قَسَت عليهم الحياة، من قِبَل قساوةِ قلوبِ البشر، فما من راحمٍ ومعين. نَعَم، يا ربّ وحّد آلامهم بآلامِكَ. وهَبهم نعمة التحمّل والصَّبر على معاناتهم، مُرسلاً لهم المُعزّي، وإخوتهم المؤمنين العاملين باسمِكَ”.

 أَلَم يحن الوقت كي يشكر الانسان الله على نِعَمِه وعطاياه، بالرُّغم ما يحّل ويحصل بالعالم؟ أَلَم يحن الوقت كي يحدّ النَّاس من الثَّرثرة والنَّقد اللاّذع، والنَّميمة، والانتقال إلى الصَّمت والصَّلاة والعمل؟ أَلَم يحن الوقت كي ينظر الإنسان إلى الحياة بطريقةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ؟

نَعَم، صلبوا” الحياة”، لكنّ الله أعطى “الحياة…”

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير