- في مصير الإنسان النهائيّ.
في ما يخصّ موت الإنسان الفرد، تطلق النهيويّة المسيحيّة أربعة تأكيدات: على البشر جميعهم أن يموتوا؛ يعني الموت نهاية حالة الحجّ؛ الموت هو نتيجة الخطيئة وعقابها؛ الموت هو حدث يتمّ في وجود الإنسان وعليه تحمّله بصفته من عمله. بالتالي، ليس الموت توقّفًا للحياة، يُمسك بالإنسان من الخارج، بل اكتمالاً فاعلاً للذات، وولادة جديدة. لذا على المؤمن ألاّ يعتبر ساعة الموت ساعة غير اعتياديّة، بل عليه يفكّر “بأعمال الموت” طوال حياته. فالحياة الأكثر عمقًا هي تلك التي تُعاش في الحبّ، والتزام الحياة، وإعطاء الذات. يقال هذا سواء عن الموت في آخر الحياة، أو عن الموت خلالها. أن نموت يعني أن نحيا بحبّ للآخرين. أمّا الموت في نهاية الحياة فيعني تسليمًا كلّيًا بين يديّ الله، واكتمالاً نهائيًّا للحبّ الذي عشناه خلال حياتنا.
يتضمّن موت الإنسان دينونته أيضًا. فكلّ فرد سيُدان، واللقاء مع الله هو ساعة الحقيقة، لحظة قطاف الحياة. في الحقيقة، يحكم الإنسان على ذاته مسبقًا في طريقة عيشه، وفي لقائه الربّ، تظهر حقيقة حياته جليّة. هذه “الدينونة الذاتيّة” لا تعني أنّ الإنسان هو مرجعيّة ذاته الأخيرة، لكون فالنور الذي يفتح أعيننا على حقيقتنا، لا يأتي منا. وحده اللقاء مع الله، يكشف للإنسان داخله. ليست الدينونة عقابًا مُنزلاً من الخارج (على مقياس العدالة الأرضّية)، بل نتيجة مؤلمة للخطيئة بحدّ ذاتها، وألمًا نابعًا من طبيعة الفعل المُذنِب.
بالتطهير ما بعد الموت، يقصد اللاهوت النهيويّ الكاثوليكيّ حدثًا أبعد من حدود الموت، تُزال فيه بقايا الخطيئة من الإنسان. فالإنسان غير الناضج بعد للشراكة مع الله، يُقاد إلى الكمال في عمليّة مؤلمة. صحّحت الكنيسة بعض التصاوير الشيئيّة والمكانيّة للمطهر، وأحلّت محلّها مقولات شخصيّة. لا يجب تصوّر المطهر مكانًا، بل حدثًا يتحقّق في الإنسان. ففي اللقاء مع المسيح الديّان الرحوم، تنحلّ ترسّبات الإثم، وتختفي الأنانيّة. التطهير هو ألم في سبيل الاكتمال. إنه ألم مطوّب، لأنه يحرّر، ويكمّل، ويزيل بقايا الخطيئة التي أصبحت جزءًا من الأنا البشريّة. من هذا المنظار، يبدو واضحًا كيف يغذّي الكلام على التطهير الرجاء المسيحيّ. لذا يمكن للإنسان أن يرجو تحرّره، بعد الموت، من الخطيئة الموجودة فيه، ومن استعبادها له، ومن تشويهها لذاته. يقول كلّ مؤمن: “على الرغم من نقائصي، سيجعلني الله، في نهاية حياتي، ذاك الذي طالما أردت أن أكونه: إبنه المحبوب“.
أخيرًا، يبقى الكلام على الهلاك الأبديّ الكلام الأصعب في النهيويّة المسيحيّة. فهناك إمكانيّة أن يفشل الإنسان نهائيًّا في مسألة اكتماله، ممّا يشكّل خلفيّة مظلمة، عليها ينشأ الرجاء. تشير تسميات الجحيم إلى طابعه السلبيّ. فالجحيم هو نقيض السماء.، و فقدان السعادة الأبديّة، وعدم اكتمال للرجاء، وفشل نهائيّ للحياة، واقصاء عن الشراكة مع الله ومع الخلائق، وتصلّب في الرفض، ونقص في الحبّ. لا يجب اعتبار الهلاك عقوبة مُنزلة من الخارج، بل إنحرافًا ينتهي اليه الإنسان بسبب رفضه الدائم والجذريّ لله. لذلك يحذّرنا الكلام على الجحيم من أن نجعل من أنفسنا عاجزة على الحبّ، ويذكّرنا بقدرتنا على أن نخلق لذاتنا عالمًا فيه تضحي الحياة مع الآخرين عذابًا فقط. بما أن الإنسان مخلوق بحبّ وللحبّ، يعني مثل هذا الوضع أكبر ألم يمكن تصوّره.
لكن هل تشكّل فكرة أن أناس يحضّرون لأنفسهم الجحيم، جزءًا ملزمًا من الإيمان المسيحيّ؟ تتجنّب الكنيسة الجزم في هذا الموضوع، وتتمسّك برجاء الخلاص لجميع البشر، وتصلّي على هذه النيّة. يبقى الإنسان كائنًا “قابلاً للخطأ”، أي مع إمكانيّة أن يرفض الله نهائيًّا، لأنّه من دون ذلك، لا تستقيم جدّية تاريخ حياته الحرّ. لا يمكننا أن نحرم الإنسان من حريّته، ومسؤوليّته عن قراراته وخياراته خلال حياته، مع العلم أنّ هذه الحريّة قد تتحوّل أحيانًا إلى مأساة له. يتفادى إيمان الكنيسة استعمال لغة تقريريّة في موضوع من يخلص ومن يهلك، ويترك الأمر بين يدي الله الآب الرحيم الذي لا تناقض عدالته رحمته. في اعترافنا بالحياة الأبديّة، نعترف بأنّ العالم والإنسان يصلان إلى الكمال بنعمة الله في يسوع المسيح. لا بدّ لنا من التمسّك بهذا الرجاء أمام إمكانيّة الفشل النهائيّ. للأسف تبقى هذه الإمكانيّة محتملة، طالما بقي هناك بشر على الأرض. لكنّ الإيمان لا يمكنّنا من القول أين ومتى وكيف تصبح هذه الإمكانيّة حقيقة. يبقى محور رجائنا، وموضوع صلاتنا، وغاية وجودنا: الحياة الدائمة مع الله.