رأي كاثوليكي في تأمّل الوعي الكامل

الجزء الخامس والخمسون لسلسلة مقالات تسلل العصر الجديد في الكنيسة

Share this Entry

“أيّها الأحبّاء، لا تصدّقوا كلّ روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؟” (1 يو4/ 1)

نلفتُ أولاً إلى أنّ ما سنورده من معلومات في هذه المقالات حول تقنية “تأمّل الوعي الكامل”Mindfulness، إشكالياتها ومحاذيرها، ليست من اجتهادنا الخاص، بل ترتكز على أبحاث جديّة قام بها إكليروس وعلمانيون كاثوليك متخصّصون في مجال الروحانيات الجديدة وممارساتها وتقنياتها، وهم معروفون بمحبتهم للكنيسة المقدّسة وبأمانتهم لاستقامة الإيمان الكاثوليكي.

ثانيًا نشير كذلك إلى أن “تأمّل الوعي الكامل” قد يبدو مشابهاً شكليًا بالتأمّل التريزياني، نسبةً إلى القديسة تريزا الأفيلية، أو بالهدوئية Hesychasme المعروفة لدى الآباء الشرقيين، إلاّ أنّه يختلف عنها جوهريًا و يتناقض معها. وسنبيّن هذا بإذن الله في مقالاتٍ لاحقة.

تقنية بوذية في قالبٍ علماني

يشرح الشمّاس “برتران شوديه”Bertrand Chaudet ، على موقع الأب “دومينيك أوزينيهDominique Auzenet [1]، من مطرانية مانس في فرنسا، إشكاليات الروحانيات الجديدة العلمانية والتوفيقية. ويؤكّد على عدم حيادية أغلب ممارساتها، مع العلم أنّ  المروّجين لها، يدّعون أنها علمية وأنّ لا أساس عقائدي لها ولا علاقة لها بأيّة ديانة. ويبيّن “شوديه” أنّها تستوحي من معتقدات ديانات الشرق الأقصى وممارساتها ومن تيّارات خفائية وباطنية ومعتقدات كالحلولية والإنتقائية التي تتناقض جوهريًا مع الإيمان المسيحي.

يتكلّم “شوديه” كذلك عن ممارسات منحرفة مثل تقنية “تأمّل الوعي الكامل” Mindfulness  ويعتبر أنّه بالرغم من كلّ تأكيدات المروّجين لها الذين يقولون إنها علمانية محايدة وغير دينية، فإنّ هذه التقنية لها من دون أدنى شكّ جذورٌ بوذية. بالفعل إنّ “تأمّل الوعي الكامل” طريقة بوذية في التأمّل تدّعي العلمانية أيّ أنّ لا علاقة لها بأيّ منظومةٍ دينية. تحدّد “منظّمة من أجل تنمية تأمل الوعي الكامل”Association pour le développement de la mindfulness ماهيتها فتقول إنّ “تأمّل الوعي الكامل يعني توجيه الإنتباه بشكل معيّن في الوقت المحدّد بدون أيّ حكمٍ مسبق” بحسب مؤسسّها جون كابات- زينJon Kabat –Zin إنّ مصطلح الوعي الكامل (بالسنسكريتيةsamyag-smitri  ) ينبثق من تعاليم “سيدرتا غواتاما” ويعني الوعي اليقظ للأفكار الشخصية، الأعمال والدوافع. وهي تلعب دوراً أساسيًا في البوذية حيث تؤكّد أنّ الوعي الكامل هو عامل أساس للتحرّر (أي الإستنارة الروحية (Bodhi. وهو يفترض الإنتباه الصحيح أو الوعي الكامل بالتركيز على اللحظة الحاضرة وبفحص المشاعر التي تظهر للنفس، يعني كيفية ظهورها، وكيفية ديمومتها في الزمن، وكيفية زوالها. بعدئذٍ يفحص الشخص المادة، الأحاسيس، العادات الفكرية الإيجابية أو السلبية ، الوعي، وكيفية ظهور الأفكار ودوامها وزوالها. يبقى المراقب فيها حياديًا وصامتًا (في الصمت العقلي) وهو يفحص ظهور واختفاء الأحاسيس الطيّبة، الحيادية والمزعجة، بدون تقييمٍ لها وبدون السعي للحفاظ على الإحساس الطيّب أو السعي لإبعاد الإحساس المزعج. يتعلّم المراقب الإفراز وعدم الإكتراث كي يتحرّر تدريجيًا من المادة، المشاعر، الإدراك الحسّي، الوعي والتكيّفات العقلية. يكتسب هكذا قناعة أنّ لهذه الظاهرة دائمًا مظهرًا مزدوجًا من فرحٍ وحزن، إذاً ليس هناك من رضى نهائي. كذلك إنّ الانتباه إلى حركة التنفّس الطبيعية ((anapana sati: شهيق، استراحة قصيرة، زفير، استراحة قصيرة، ليس هدفًا بحدّ ذاته لكنّه يسند بفعالية حيوية “تأمّل الوعي الكامل”. ينصح البوذا بمراقبة الشعور داخليًا (في الفكر) وخارجيًا (في الجسد). مثلاً إذا رأى المراقب فكريًا: “ما هو ساخن”، يمكنه أن يرى أيضًا في جسده تمدّدَ الأوعية الدموية، التعرّق، الخ. بعدئذٍ، إذا رأى المراقب في فكره “ما هو بارد” يمكنه أن يرى أيضًا في جسمه تقلّص الأوعية الدموية، قشعريرة، الخ. هذه المرحلة مهمّة، لأنّ الممارس يتعلّم فيها، بحسب رأيهم، أن يرى بشكلٍ مباشر كيف يتبادل الفكر بشكلٍ سريع عدّةَ معلومات مع جسمه من خلال اللاوعي. يختبر الوعي الكامل الجسد والروح في مكوّنيْن اثنيْن: الوعي واللاوعي، بهدف تنقية وتطهير الكلّ.

ويوضح “شوديه” أنّ في البوذية يتموضع الوعي الكامل فيما بعد الشكل الأول للحكمة أيّ الإخلاص، وفيما بعد الشكل الثاني أيّ  منطق العقل. هي الشكل الثالث للحكمة وتسمّى bhavanamaya panna وهي الرؤية المباشرة للحقيقة النهائية في كلّ شيء. حتى ولو ادّعت أنها خارج كلّ مفهوم ديني، إلا أنّ الأنتروبولوجيا التي يرتكز عليها هذا التأمّل، ليست محايدة أبدًا. هي من التقليد البوذي و تستعير مصطلحات وتقنيات دينية. لم يتجرّد هذا التأمّل من عناصره ومكوّناته الروحية لأنه مسار لبلوغ الوعي الروحي يسمّونه bodhi.

إذًا Mindfulness ليست تقنية علمانية كما يدّعون، والتي يروّجون لها بشكل مقنّع ليكسبوا ثقة الناس ويوسعوا نطاق انتشارها. يتمّ ذلك تحت غطاء طبيّ علمي، يبيّن مفاعيل إيجابية لهذه التقنية بمواجهة الضغط النفسي، القلق، الإنهيار العصبي وما شابهها. لكن هذه الدراسات المسمّاة علمية، هي غير موضوعية بأغلبيتها لأنّها ترتكز على دراسات لباحثين غير حياديين يكونون أحيانًا هم أنفسهم موضوع البحث أو ممارسين لههذه التقنية. كما تؤكّد على ذلك الباحثة “سوزان برينكمان” من رهبانية الكرمل العلمانية Suzanne Brinkmann, OCDS في كتابها: “مرشد كاثوليكي في تأمّل الوعي الكامل” [2]. كما يمكننا مراجعة موقعٍ كندي ينشر دراسات علمية وشهادات ومقالات تبيّن الآثار السلبية للتأمّل وممارسات أخرى شرقية آسيوية ومستحدثة.[3]

بشكلٍ أوّلي وكمقدّمة، يمكننا اختصار إشكاليات “تأمّل الوعي الكامل” كالتالي:

-أنّه يتمّ فيه  تعديل مستوى الوعي وصولاً الى مستويات معدّلة للوعيEtats de conscience modifiees هي أدنى من المستويات  الطبيعية.

-يمكن أن يسبّب نزعاً للهوية الشخصية إلى حدّ التبدّد و”اللاشخصنة”dépersonnalisation.

-هناك دراسات عديدة تبيّن صلة التأمّل بالحالات الذُهانيةPsychotique .

-بيّنت دراسات أخرى أنّ لها نتائج سلبية على الصحّة وأنّها تسبّب أمراضًا نفسية وجسدية بدءًا من التشنّجات العضلية إلى الهلوسات. مثلاً وجد “د. برسينجر” عالم النفس في جامعة لورونتين في كندا، سنة 1993 أنّ التأمّل يؤدّي عند بعض الأشخاص، إلى تشنّجات دماغية شبيهة بحالات الصرع.

اليوم كما بالأمس، يجذبنا كلّ ما هو جديد ويتهيّأ لنا أنّنا نكتشف طرقًا مبتكرة وغير مسبوقة. إلا أنّه ليس كلّ ما هو جديد هو حسن ومفيد، علينا أن نغربل ونميّز بحسب روح الله كما ينصح الرسول بولس “كلّ الأشياء تحلّ لي، لكن ليس كلّ الأشياء توافق،”(1كو6/ 12)، “حتى تميّزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة الى يوم المسيح” (فل1/ 10). في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل”، يحذّر البابا فرنسيس  من خطر الإفتتان “باختبارات ذاتية لا وجه لها، تقتصر على بحثٍ داخليّ كموني”(فقرة 90، فرح الإنجيل). من جهته سبق وحذّر القديس البابا يوحنا بولس الثاني من أنّ كلّ تأمل ليس محوره المسيح (غير خريستولوجي)، هو تأمّلٌ عبثي.

سنعود ونتناول بالتفصيل إشكاليات “تأمّل الوعي الكامل”Mindfulness في مقالاتٍ لاحقة إن شاء الله.

يتبع

لمجد المسيح

[1] الأب دومينيك أوزينيه كاهن ومقسّم كاثوليكي في أبرشية مانس في فرنسا، ومسؤول في راعوية “المعتقدات الجديدة والانحرافات البدعوية” التابعة لمجلس الاساقفة الكاثوليك في فرنسا،  مع الشماس برتران شوديه ومتخصّص في البدع وممارساتها ومن بينها بدعة العصر الجديد. له عدّة مواقع على الانترنت مثل: d.auzenet.free.fr,SOS Discernement, Charismata.free.fr ,

[2] Suzanne Brinkmann.OCDS, a Catholic Guide to Mindfulness, paperback, 10 october 2017

[3] http://dangeryoga.blogspot.fr/

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير