Pixabay CC0

تأمّل الوعي الكامل وتقليد التصوّف المسيحي

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة – الجزء الثامن والخمسون

Share this Entry

“سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم ليس كما يعطيه العالم أعطيكم أنا”(يو14/ 27)

تأمّل الوعي الكامل وتقليد التصوّف المسيحي

تلقى تقنية “تأمّل الوعي الكامل”Mindfulness-La Meditation de pleine conscience  في السنوات الأخيرة، رواجاً كبيراً. نسمع عنها في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي حتى أنّ عدداً كبيراً من المعالجين النفسيين يروّجون لها كتقنية علمية من أجل الإسترخاء والتخلّص من القلق والكآبة، ويتجرّأ بعضهم ويتكلّمون باندفاعٍ عن ثورة الوعي الكامل Mindful Revolution .

الأب دان بوركDan Burke  رئيس مؤسّسة أفيلا للتدريب الروحيAvila Institute for spiritual Formation، في حديثٍ مصوّر بعنوان: ” تأمّل الوعي الكاملMindfulness وتقليد التصوّف الكاثوليكي”[1]، يُعطي رأيه في “تأمّل الوعي الكامل” على ضوء تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والروحانية المسيحية.

يطرح الأب “بورك” في بداية حديثه سؤالاً : “ما هو تأمّل الوعي الكامل وهل يجوز للكاثوليكي أن يمارس هذه التقنية؟” وينطلق من الإعلان الصادر بخصوص العلاقات بين الكنيسة والديانات غير المسيحية، Nostra Aetate في المجمع الفاتيكاني الثاني في 28 تشرين الأول 1965، ليؤكّد أنّ الكنيسة الكاثوليكية لا ترفض شيئًا من كلّ ما هو صحيح ومقدّس في هذه الأديان. نقرأ  بخصوص الأديان المختلفة غير المسيحية:

 “منذ الأزمنة الأكثر قدمًا حتى اليوم ، نجد عند مختلف الشعوب تصوّرًا معينًا لهذه القوة الخفيّة الموجودة في سياق الأشياء وفي أحداث الحياة البشرية ، حتى الإعتراف باللاهوت الأسمى، أو حتى بالأب في بعض الأحيان.  يخترق هذا الإدراك والإعتراف حياتهم بالمعنى الديني العميق. أما بالنسبة للأديان المرتبطة بتقدّم الثقافة، فهي تسعى جاهدة للإجابة على نفس الأسئلة بمفاهيم أكثر دقّة وبلغة أكثر تفصيلاً.  هكذا ، في الهندوسية ، يدقّق الرجال في الغموض الإلهي ويعبّرون عنه من خلال خصوبة الأساطير التي لا تنضب وبالجهود المؤثرة للفلسفة. إنهم يسعون إلى التحرّر من المخاوف الإنسانية، إمّا بأشكال الحياة الزهدية، أو بالتأمّل العميق، أو باللجوء إلى الله بمحبة وثقة. في البوذية ، وفقًا لأشكالها المختلفة ، يتم التعرف على القصور الجذري في هذا العالم المتغيّر ويتمّ تعليم طريقة يمكن من خلالها للناس ، بقلبٍ متديّن وواثق، أن يكتسبوا حالة التحرّر التام، أيّ تحقيق الإستنارة الأسمى من خلال جهودهم الخاصة أو من خلال مساعدةٍ تأتيهم من علو. وبالمثل ، فإنّ الأديان الأخرى التي نجدها في جميع أنحاء العالم تحاول، بطرقٍ مختلفة ، التغلّب على قلق القلب البشريّ من خلال اقتراح طرقٍ، أيّ عقائد وقواعد حياتية وطقوس مقدسة.

 “لا ترفض الكنيسة الكاثوليكية أيّ شيء حقيقي ومقدّس في هذه الأديان. إنها تراعي باحترام صادق طرق العمل والعيش هذه ، وهذه القواعد وهذه المذاهب التي ، على الرغم من أنّها تختلف في كثير من النواحي عمّا تحمله وتقدّمه بنفسها، إلا أنها غالبًا ما تعكس شعاعًا من الحقيقة يُنير جميع الناس. ومع ذلك ، فإنّ الكنيسة تعلن ، ولا بدّ لها أن تعلن بلا انقطاع ، المسيح الذي هو “الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6) ، حيث يجب أن يجد البشر ملءَ الحياة الدينية وفيه كان الله مصالحًا كلّ الاشياء (2كو5/ 19).  لذا ، فإنها تحضّ أبناءها، من خلال الفطنة والمحبة، من خلال الحوار والتعاون مع أتباع الديانات الأخرى، وفيما يشهدون للإيمان والحياة المسيحية ، يعترفون بالقيم الروحية والأخلاقية والإجتماعية الثقافية ويحافظون عليها.”[2]

 يحدّد الأب “بورك” ماهية “تأمّل الوعي الكامل” فيقول إنّه المسار النفسي الذي  يشدّ انتباهنا للتجارب والإختبارات الخارجية والداخلية التي تحصل في اللحظة الحاضرة، من خلال تمارين للتأمّل لها جذور في البوذية. ويلفتُ إلى تعليم مشابهٍ في الشكل، عن أهميّة اليقظة الروحية والصلاة الدائمة في المسيحية فيستشهد بآيةٍ من الكتاب المقدّس تقول: “فلا ننمْ إذًا كالباقين، بل لنسهرْ ونصحُ” (1تس5/ 6) “لأنّ إبليس خصمكم كأسدٍ زائر، يجول ملتمسًا من يبتلعه”(1بط5/ 8).

ويشرح أنّ في الكتاب المقدس آياتٍ عديدة يدعو فيها الرب يسوع إلى اليقظة الدائمة كما نقرأ مثلاً في إنجيل متى(6/ 33-34) أن لا نقلق بخصوص الغد بل أن نهتم بالحريّ باليوم الحاضر الذي فيه نجاهد فنتقدّس بنعمة الربّ.

ويعطي الأب “بورك” مثالاً توضيحياً ليبيّن لنا التباين بين “تأمّل الوعي الكامل” والتأمّل المسيحي فيقول: هناك صديقان، أحدُهما هو مدير لمطعمٍ مصنّفٍ بخمسة نجوم والآخر يقطن بالقرب من المطعم نفسه. في أحد الأيام، يذهب مدير المطعم ليزور صديقه هذا وقد دعاه لتناول العشاء عنده. عندما جلسا الى المائدة، لاحظ أنّ الطعام يبدو غريبًا وفيه أمور مريبة بالرغم من أنّه مقدّم بشكلٍ لائق في صحون نظيفة وغالية الثمن. فسأل صديقَه: من أين أحضرتَ الطعام؟ فأجابه بحماسة: من بقايا الطعام الذي يقدّمونه في المطعم الخمسة نجوم القريب من هنا. لا شكّ أننا نجد غرابة في هذا النوع من الطعام، بالمقابل إذا أراد مدير المطعم بدوره أن يقدّم طعاماً ، يمكننا تصوّر النوعية الجيّدة التي يقدّمها لزبائنه. فإذا دعيت إلى تناول العشاء فأيّهما تلبّي دعوته؟ يوضحُ هذا المثل ، مع كلّ احترامنا للأديان، بحسب الإعلان الصادر بخصوص العلاقات بين الكنيسة والديانات غير المسيحية، Nostra Aetate، أنّ ما في الديانات غير المسيحية هو قبسٌ أو شعاعٌ من الحقيقة أو هو انعكاس الشعاع الذي هو ملء الحقيقة والإيمان بالمسيح. ففي الكنيسة المقدّسة نجد ملء الحقيقة وما هو حقٌ من خارج هو أمر جيد بلا شك، إلاّ أنّه يبقى قبسًا منها أو انعكاسًا ضئيلًا لها. يقول الربّ “أنا هو الطريق والحق والحياة. لا أحد يأتي إلى الآب إلا بي”(يو14/ 6). نلاحظ الجذرية في كلام الرب على أنّه ملء الحقيقة في كنيسته.

اليقظة والصلاة وتمييز الأرواح

إذًا ردًّا على السؤال: هل يمكنني ككاثوليكي ممارسة “تأمّل الوعي الكامل”؟ يجيب الأب “بورك” بسؤال: لماذا تمارس هذه التقنية ولديك مائدة الخمسة نجوم؟ ويقول أنّ لدينا في الكنيسة الكاثوليكية كلّ نعم وبركات التقليد الرسولي، أيّ كلّ ما هو بحاجة إليه المؤمن بشريًا وروحياً من أجل الخلاص. (صلاة يسوع- مسبحة الوردية- الرياضات الإغناطية- Lectio Divina- تأمّل تيريزا الأفيلية- يوحنا الصليب- الهدوئية-…)

يعلّمنا القديس “إغناطيوس دي لويولا” مثلاً ممارسة قديرة اسمها “تمييز الأرواح” نتعلّم فيها كيف نكون متيّقظين في اللحظة الحاضرة. نتعلّم كيف نصغي ونتعرّف إلى حركة العدو الذي يسعى كي يجرّنا إلى اليأس والنرجسية. فنتعلّم كيف نرفض هذا الأمر وكيف نجاهد ونتصدّى له. ونتعلّم كيف نميّز عمل الله الذي يسعى كي يجذبنا إليه ونقتني الفضائل الإلهية في نفوسنا أيّ الإيمان والرجاء والمحبة. هكذا نتعلّم كيف نصبح يقظين بالكامل من خلال اليقظة والصلاة.

أن نكون يقظين في اللحظة الحاضرة، يعني أن نكون يقظين لحقيقة حضور الله بيننا، وليس لذواتنا ولترفِنا الشخصي بالمفهوم الأرضيّ، بل لعمل الروح القدس فينا ولحضور الله الرب يسوع المسيح الله المتجسّد الذي بروحه يذكّرنا ويعلّمنا ويرشدنا ويقدّسنا. هذه هي الوليمة العامرة. فإذا كنتُ كاهناً وأتى إليّ أحدُهم يسألني: أريد أن أمارس “تأمّل الوعي الكامل”Mindfulness  فهل هناك مشكلة بالنسبة للكنيسة؟ أجيب بحسب تعليم الكنيسة، أنّ في “تأمّل الوعي الكامل” عناصر جيّدة لكن الوليمة العامرة المشبِعة، هي في الكنيسة حيث القوة الفائقة الوصف والحكمة الإلهية التي علّمنا إياها “اغناطيوس دي لويولا”، تيريزا الأفيلية، يوحنا الصليب، مع احترامنا لتعليم هذه التقنية.

إذا كان لدينا الكنز كلّه فلماذا نستعطي؟

تعلّمنا الكنيسة أن نكون حاضرين ويقظين لله ولمن هم حولنا. نحن من العالم، لكنّنا لسنا من العالم. إنّ “تأمل الوعي الكامل” محدود لإنه يسعى لتحقيق أفضل ما يمكن على المستوى البشري. بالمقابل يعلّمنا تمييز الأرواح والتقليدُ الصوفي الكاثوليكي، كيف نكون نحن أنفسنا، حضور المسيح في العالم وفي الوقت نفسه أن لا ننجرف فيه بل على العكس أن نمشي بعكس التيّار لنتخطّاه فنتعرّف على المسيح وتكون لنا علاقة شخصية معه ونكون له شهودًا في هذا العالم.

في الختام يدعو الأب “بورك” كلّ من يهتم بالتأمّل وكلّ من يودّ معرفة تمييز الأرواح، أن يزور مؤسّسة أفيلا للتدريب الروحي التي تحيي كلّ سنةٍ دورات في تمييز الأرواح وحيث يمكنهم أن يستمعوا إلى شهادات أشخاصٍ شاركوا في هذه الدورات وتغيّرت حياتهم.

وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: “إن عطش أحدٌ فليُقبل إليّ ويشرب.

من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من جوفه أنهار ماء حيّ” (يو7/ 37-38). حقًا !

المجد للمسيح !

يتبع

[1]Dan Burke, Mindfulness and Catholic Mystical Tradition

https://www.youtube.com/watch?v=MS-lqFRq6Sg&t=375s

[2] http://www.vatican.va/archive/hist_councils/ii_vatican_council/documents/vat-ii_decl_19651028_nostra-aetate_fr.html

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير