“لا تتخلّوا أبداً عن صلاة الوردية”: هذا ما نصح به البابا فرنسيس خلال اختتام مئويّة ظهورات العذراء مريم في فاطيما سنة 2017.
عن هذا الموضوع، نشر القسم الفرنسيّ في زينيت ما كتبه الأخ مانويل ريفيرو: “ما مصدر هذا التعلّق بصلاة المسبحة أو الوردية؟ يشهد ملايين الكاثوليك في القارّات الخمس على النِعَم التي حصلوا عليها عبر التأمّل في أحداث حياة يسوع مع أمّه العذراء مريم وكلماته.
إنّ مَن يمتهنون التجارة يعرفون جيّداً أنّ الزبائن غير الراضين لا يُجدّدون عمليّات الشراء، على الرغم من الإعلانات أو العادة. وإن داوم مؤمنون من جميع الأعمار والطبقات الاجتماعية على صلاة الوردية، فهذا يعني أنّها تُزوّدهم بالنِعم التي يحتاجون إليها.
ومع كونه غير مرئي إنّما قريب ويعمل، إنّ الله هو مَن نُناديه في التجارب، حتّى ولو سأل كثرٌ “أين الله في معاناتنا؟” فالصلاة هي مصدر نِعم، والإنجيل يُظهر إلهاً مخفيّاً يُبرز قدرته في انمحائه. وسرّ التجسّد الذي هو أساس المسيحيّة، يُظهر تواضع ابن الإنسان وتصاغره بما أنّه أصبح إنساناً حُبّاً بنا. وقد استقبلته العذراء مريم في الإيمان باسمنا، مِن هنا تعلّق المسيحيّين بصورة أمّ المسيح.
الصلاة بوجه الوباء
في زمن الوباء الصعب والأزمة الاقتصاديّة، تتّجه أنظار الكنيسة نحو والدة الإله كما حصل سنة 1571 خلال معركة ليبانتو، عندما عهد البابا بيوس الخامس بالكنيسة لصلاة أخويّات الورديّة. وقد حصل النصر كنِعمة من الله عبر صلاة أمّ المسيح. من هنا أساس عيد سيّدة الانتصار في 7 تشرين الأوّل، والمعروف بعيد سيّدة الورديّة. وانطلاقاً من هذا العيد المريميّ، يحمل كلّ شهر تشرين الأوّل خَتم الورديّة.
كما وتتّجه أنظار الكنيسة نحو يسوع الذي أتى لأجل المرضى، فيما يعهد الكاثوليك بذواتهم لشفاعة والدة الإله. ومن أقدم الصلوات التي تدلّ على ثقة المسيحيّين في رحمة العذراء مريم: “إلى حمايتك نلتجىء يا والدة الله القدّيسة”.
ومع كون الوردية صلاة تأمّلية، تقتصر المسبحة على الصلاة ليسوع، المخلّص الوحيد والوسيط الوحيد بين الله والبشر، مع إيمان مريم الذي هو إيمان الكنيسة. وينظر المؤمن إلى يسوع بعينَي أمّه مريم وقلبها. إنّ صلاة الورديّة تحمل في قلبها يسوع المسيح. ومَن يعدّون حبّات المسبحة ينضمّون إلى قلب مريم للتأمّل هناك بأحداث حياة يسوع التي تحملنا نحو الناصرة وبيت لحم وأورشليم… كما حدّد ذلك الإنجيليّ لوقا: كانت مريم تحفظ كلّ ذلك في قلبها.
وبدون العذراء مريم، تصبح الكنيسة ميتماً. إلّا أنّ المسيحيّين ليسوا يتامى، بل إنّهم تلقّوا الروح القدس الذي وعدهم به يسوع، وتلقّوا أيضاً والدة يسوع كأمّهم الروحيّة التي تسهر عليهم، كما ساهمت بولادة المسيح ونموّه، وكانت معلّمة له.
الصمت الداخليّ
يتساءل بعض الأشخاص عن معنى تكرار “السلام عليك يا مريم”. لكنّ الهدف من ترداد كلمات الملاك جبرائيل لمريم ليس إلّا صمتاً داخليّاً يهدف إلى تهدئة الضجيج الداخليّ، لا بل إسكاته، كما إسكات “الخطابات والأفلام” التي لا تنفكّ تدور في رؤوسنا. لذا، من المُناسب أن نسمح لكلمة الله بأن تسكننا وأن تُنقّينا. ومع ترداد الأبانا والسلام، يصل المؤمن إلى إحلال الصمت في داخله للإفساح بالمجال أمام يسوع في قلبه، وهذا كلّه على صورة العصفور الذي يحرّك جناحَيه بالطريقة والحركة نفسها نحو السماء: إنّ مَن يُصلّي يردّد الصلوات نفسها، لأنّ نفسه ترتفع نحو الله، ونحو إخوته في البشريّة.
صلاة تجمع وتُنير
إنّ صلاة المسبحة تُسهّل الاتّحاد بالله في الوِحدة. وهي تجمع أيضاً المسيحيّين كما يشهد على ذلك وجود الأخويّات مثلاً.
من ناحية أخرى، وفيما يختصّ بالأولاد، يمكن القول إنّ عدد الذين يجدون السلام عبر هذه الصلاة كبير، مع أنّ الأنظمة التعليميّة نادراً ما تُفسح بالمجال أمام الصلاة الداخليّة. فلمَ لا نفكّر في تقديم المسبحة هديّة لمناسبة المناولة الأولى والتثبيت؟ ستكون هذه هديّة يحتفظ بها الولد طوال حياته.
إنّ الإيمان هو النور في ظلمات المرض والموت. وككاهن، أقف مُتأمِّلاً بالقدرة التعليميّة والروحيّة للمسبحة خلال المرض والحزن والحِداد.
وأذكّر المرضى والمحتَجَزين في السجون بوجوب الصلاة على نيّة الكنيسة والعالم، ليصبحوا بذلك فاعِلين في التاريخ، لأنّ الأحداث تتعلّق أيضاً بالتدبير الإلهيّ الذي يستجيب للصلاة.
أمّا خلال السهرة مع الميت فيمكن التأمّل بأسرار الحزن والمجد، ممّا يجعل العائلة تعبر من الحزن إلى نور الإيمان، من التعب إلى قوّة النِعم، ومن اليأس إلى الشراكة مع الله والأقرباء الذين ينتقلون إلى منزل الآب، خاصّة وأنّ الموت يمثّل قمّة الوجود ويمثّل العبور، أو الفصح، مِن هذا العالم نحو الآب”.