“يطلب منا الربّ هذين الأمريْن فقط: أن نحبّه، عزّ وجلّ، وأن نحبّ القريب”- القديسة تريزا الأفيلية
يروّج مؤخّرًا في الأوساط المسيحية المكرّسة والعلمانية على السواء، وتحت غطاء علم النفس، ل”تأمّل الوعي الكامل” كتقنيةٍ علمانية مفيدة تحضّر للتأمّل المسيحيOraison Chrétienne وتسهّله. ولا ترى هذه الأوساط تناقضًا البتّة بين “تأمّل الوعي الكامل” والتأمّل في التقليد المسيحي. فهل هذا الأمر صحيح خصوصًا بعد أن تأكدّت لنا الجذور البوذية لهذه التقنية وعدم حياديتها؟
في المقالة السابقة، تكلّمنا عن الخطوات الثمانية الأساسية لتأمّل الوعي الكامل، كما حدّدها الأخ “باتيست للصعود” من كرمل بوردو. وقد أشار إلى أنّ هذه التقنية لا تتوافق مع التأمّل المسيحي وتحديداً مع التأمّل Oración أو “الصلاة العقلية” كما تعلّمها القديسة تريزا الأفيلية. ويؤكّد كما غيره من الباحثين، أنّ “تأمّل الوعي الكامل” مستمدّ من تقاليد روحية تعمل بشكلٍ ضمنيّ على هدم الرغبة وعلى ذوبان الشخص. وهذا مسارٌ معاكس للمسيحية.
حوار صداقة مع يسوع
يطرح الأخ “باتيست للصعود” 10 أسئلة يحاول من خلالها تبيان أوجه التناقض الجوهري بين المساريْن بالرغم من التشابه الظاهري بينهما.
السؤال الأوّل: هل نحن نمارس التأمّل كي نهتمّ بأرواحنا؟ يشرح الأخ “باتيست” أن ّ كلمة تأمّلMéditation تعني “أن نرعى أو أن نهتمّ ب”. إذًا يبدو للوهلة الأولى أنّ “تأمّل الوعي الكامل” والتأمّل المسيحي يتفّقان معاً على رعاية نفوسنا. بالفعل ألا يهدف التأمّل المسيحي إلى السلام الداخلي، الفرح والتحرّر وما شابهها من ثمار الروح القدس؟ كذلك ألا نقرأ في الكتب أنّ التأمّل يهبنا السعادة؟؟
في الحقيقة إنّ التأمّل بحسب القديسة تريزا الأفيلية هو حوار صداقة مع يسوع. تقول في كتاب السيرة: “وما التأمّل، في رأيي، إلاّ حديث صداقة نُجريه غالبًا على انفراد مع من نعرف أنّه يحبّنا”(السيرة- ف8). يقول الأب سيرويي P.Serouetإنّ التأمّل عند القديسة تريزا “ليس مجرّد ممارسة تقوم بها الروح، أو وسيلةً للكمال الشخصي، أو موّلد غبطةٍ ذاتية، بل إنّه البحث الدائب عن إلهٍ نريد الإتحاد به لنعطيه للآخرين، ونريد مخاطبته لنحدّثه عن الآخرين”.
إذًا ما يميّز التأمّل المسيحي بشكلٍ أساسي أنّه تأمّل واعٍ لحضور الله باختيار حرٍ للإرادة وبحضورٍ شخصيّ كامل أي بكامل اليقظة الروحية، أيّ أنّ قوى النفس تكون مشدودة للربّ وفي قمةّ اليقظة وهي ليست مشلولة. إنّه ليس تأمّلاً فارغًا بل هو امتلاء بحضور الله الثالوث. تصف القدّيسة تريزا هذا الأمر قائلةً:
“كان يعتريني فجأةً شعورٌ بحضور الله فلا أشكّ في حالٍ أنّه في داخلي، أو أنّه يغمرني كلّيًا بهذا الحضور. لم يكن الأمر مجرّد رؤيا. وأظنّ أنّ ذلك يُدعى“لاهوتًا صوفيًا”[1]، تكون فيه النفس معلّقة فكأنّها خارج ذاتها كلّيًا. الإرادة يحرّكها الحبّ، الذاكرة تكاد تكون، كما أظنّ، ضائعةً، والعقل، في اعتقادي، لا يستدلّ، لكنّه لا يتيه. غير أنّه وأكرّر القول، لا يعمل بل كأنّه مروعٌ لكثرة ما يدرك، لأنّ الله يريده أن يفهم أنّه لا يفهم شيئًا ممّا يصوّره له، عزّ وجلّ”(السيرة، ف 10)
وما يميّزه أيضًا العلائقية والغيْرية أيّ أنّه علاقة حبّ بشخص الله ومنفتح على الآخرين أيضًا، هدفه الإتحاد بالله في كمال المحبة. بما أنّ الله هو نبع المحبة، نستمدّ منه المحبة، فيتوّسع القلب ويتمدّد ليُشرك الآخرين بمحبة الله. هي إذًا ليست منا بل هي عطيّة من الله.
من يُهلك نفسه من أجلي يجدها
يقول الأخ “باتيست للصعود” إذا كان المقصود في حوار الصداقة مع يسوع، رعاية أحدٍ ما، فالتأمّل المسيحي يدعونا أن نهتمّ بيسوع وبأعضائه المتألّمة في جسده السرّي، الكنيسة، وليس الإعتناء بأنفسنا. وإذا أحسسْنا بثمار السلام والفرح وما شابهها، فهذه بالتأكيد ليست إلاّ نتيجة لهذا الهدف الأساس وهو اللقاء بالربّ يسوع. تعبّر عن هذا النكران للذات والإهتمام بالربّ، القدّيسة إليزابيت للثالوث قائلةً : “إلهي، الثالوث الذي أعبده، ساعدني كي أنسى ذاتي بالكلية”. أيضًا ما تقوله القديسة تريزا للطفل يسوع: ” نحن نتأمّل لأننّا عرفنا أنّ يسوع يرغب أن يُحَبّ ! “
في الحقيقة إنّ الإهتمام بالنفس في الصلاة أمرّ معاكس لتعليم الإنجيل. يقول الربّ: “من يُهلك نفسه من أجلي يجدها … لأنّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟”(مت16/ 26-25). وقال أيضًا للقديسة تريزا: “إهتمي بشؤوني وأنا أهتمّ بشؤونك”.
هذا هو مفتاح السعادة والقداسة، يقول الأخ “باتيست”، إنّ الله الكلّي الرحمة والكلّي الطوبى، أراد أن يُشركني في حياته الإلهية، أراد بمجّانية حبّه أن يُستعبد لحبّي ويُشركني معه في خلاص العالم. بالفعل في التأمّل المسيحي، حتى ولو كنّا في عزلةٍ عن العالم، فنحن نصلّي من أجل العالم. في التأمّل المسيحي، أهتمّ وأنتبه ليسوع لأحبّه وأجعل الآخرين يحبّونه. بينما في “تأمّل الوعي الكامل”، أنا أرعى نفسي وأهتمّ بها فقط. لا غيْرية ولا علائقية، لا مع الثالوث القدوس ولا مع الآخرين. إنّه تأمّل محايد، فارغ ومتمحور حول الذات.
هذا ما جعل القدّيسة تريزا الأفيلية في إحدى تأمّلاتها تحاول أن تعزّي المسيح المتألّم في بستان الزيتون عبّرت عنه قائلةً: “كنت أجدُني مرتاحةً إلى التأمّل في صلاة الربّ في بستان الزيتون.كان يطيبُ لي أن أكون في صحبته هناك. كنتُ إذا استطعتُ، أتأمّل عرَقه وغمّه هناك.كنتُ أتمنّى أن أمسحَ ذلك العرق المتصبّب المؤلم. لكنّني أذكر أنّي ما كنتُ أتجرّأ أبدًا على فعل ذلك، لأنّ خطاياي الجسيمة كانت تتمثّل في ذهني فتردعُني” (السيرة، ف9)
يتبع
[1] اللاهوت الصوفي في مفهوم القديسة هنا هو “حدْسٌ بسيط لحقيقةٍ فائقة الطبيعة يعطيه الله بواسطة نورٍ مواهب الروح القدس، أو بواسطة نعمةٍ حاليةٍ خارقة”