11. صلاة المزامير 2
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،صباح الخير!
اليوم يجب أن نغير قليلًا طريقة إجراء هذه المقابلة العامة بسبب فيروس الكورونا. لقد تم فصلنا عن بعض، وفُرض وضع الكمامة الطبيّة من أجل الحمايّة وأنا هنا بعيد بعض الشيء ولا يمكنني أن أتحرك كالمعتاد فأقترب منكم، لأنّه يحدث في كلّ مرة أقترب فيها، أنكم تأتون إلّي جميعًا فتُفقد المسافة وهناك خطر انتقال العدوى إليكم. آسف لهذه الترتيبات، ولكنها من أجل سلامتكم. بدلاً من أن أقترب منكم وأصافح وألقي التحية، لنحيّ بعضنا من بعيد، لكن تعلمون أنني قريب منكم في القلب. أرجو أن تفهموا لماذا أفعل هذا. ثم، بينما كان القراء يقرؤون المقطع من الكتاب المقدّس، لفت انتباهي ذلك الطفل أو الطفلة الذي كان يبكي. ورأيت الأم تحضن الطفل وترضعه وفكرت: “هكذا يفعل الله معنا، مثل تلك الأم”. بأي حنان حاولت أن تحرك الطفل وأن ترضعه. إنّها صُوَرٌ جميلة. وعندما يحدث هذا في الكنيسة، عندما يبكي طفل، نعلم أن هناك حنان الأم، كما هو الحال اليوم، يوجد حنان الأم التي هي رمز حنان الله معنا. لا تسكتوا أبدًا طفلًا يبكي في الكنيسة لأنّه الصوت الذي يجذب حنان الله. شكرًا على شهادتك.
نكمل اليوم التّعليم في صلاة المزامير. بدايةً نلاحظ أنّه غالبًا ما يظهر في المزامير وجهًا سلبيًّا، وجه “الشرير”، أي تلك أو ذلك الذي يعيش كما لو أنّ الله غير موجود. إنّه إنسان دون أي مرجعيّة إلى المتعالي، ودون أي رادع لغطرسته، ولا يخشى حكمًا في ما يفكر فيه وما يفعله.
لهذا السبب يُقدّم سفر المزامير الصّلاة على أنّها الواقع الأساسي في الحياة. إنّ الصِّلة مع المطلق والمتعالي – التي يسميها معلّمو الحياة النسكية “مخافة الله المقدّسة” – هي التي تجعلنا بشرًا بكلّ المعنى، وهي الحد الذي يخلصنا من أنفسنا، فيمنعنا من الاندفاع إلى هذه الحياة بطريقة مفترسة وشرهة. الصّلاة هي خلاص الإنسان.
بالطبع، هناك أيضًا صلاة زائفة، صلاة نصلِّيها فقط لننال إعجاب الآخرين.هذا أو هؤلاء الذين يذهبون إلى القداس فقط لإظهار أنهم كاثوليك أو لإظهار أحدث صنف قاموا بشرائه، أو ليكونوا شخصيّة اجتماعية جيدة. يذهبون إلى صلاة زائفة. وقد حذر يسوع منها بشدّة (را. متى 6، 5-6؛ لو 9، 14). لكن عندما نستقبل روح الصّلاة الحقيقي بصدق وعندما ينزل الروح إلى القلب، إذّاك تجعلنا الصّلاة نتأمل في الواقع بأعين الله نفسه.
عندما نصلّي، يصبح كلّ شيء “كبيرًا”. هذا الأمر غريب في الصلاة، ربما نبدأ بشيء خفي ولكن في الصلاة يصبح هذا الشيء كبيرًا وله قيمة، وكأنّ الله يأخذه في يده ويبدله. أسوأ شيء يمكن أن نقدّمه لله وللإنسان أيضًا، هو أن نصلّي صلاة مُتعَبَة مُنهَكة، وبصورة معتادة.أن نصلّي مثل الببّغاوات. لا. أن نصلّي من القلب. الصّلاة هي مركز الحياة. إن وجدت الصلاة فعلًا، الأخ أيضًا والأخت، وأيضًا العدو، يكتسبان أهميّة في نظري. يقول مثل قديم للرهبان المسيحيّين الأوائل: “طوبى للراهب الذي، بعد الله، يعتبر جميع الناس مثل الله” (إفاغريوس البنطي، ميثاق في الصلاة، رقم 123). من عَبدَ الله أحبّ أبناء الله. من احترم الله احترم الناس.
لذلك فالصّلاة ليست مُهدئًا للتخفيف من هموم الحياة، أو، على أيّ حال، الصّلاة من هذا النوع ليست بالتأكيد مسيحيّة. بل الصّلاة تعلّم كلّ واحد منّا الإحساس بالمسؤوليّة. نرى ذلك بوضوح في صلاة “أبانا” التي علّمها يسوع لتلاميذه.
حتى نتعلّم طريقة الصّلاة هذه، فإنّ سفر المزامير هو لنا مدرسة كبيرة. رأينا كيف أنّ المزامير لا تستخدم دائمًا كلمات مشذّبة ولطيفة، بل تحمل غالبًا أثر جراح الحياة. ومع ذلك، كانت كلّ هذه الصّلوات تُستخدم أولاً في هيكل القدس/أورشليم، ثم في المجامع. حتى الصلوات الأكثر حميمية وشخصية. يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة: “تعابير صلاة المزامير تصاغ في ليتورجيا الهيكل وقلب الإنسان معًا” (رقم 2588). وهكذا فإنّ الصّلاة الشخصية تُستمد وتتغذّى من صلاة شعب إسرائيل أوّلًا، ثمّ من صلاة شعب الكنيسة.
حتى المزامير، في صيغة المتكلم المفرد، التي تحمل الأفكار والمشاكل الأكثر حميمية للفرد، هي إرث جماعي، يصلّيها الجميع ومن أجل الجميع. صلاة المسيحيّين لها هذا “النفس”، هذا “الشد” الروحي الذي يضمّ معًا الهيكل والعالم. قد تبدأ الصّلاة في الضوء الخافت في حنايا الكنيسة، لكنها تنتهي وتكتمل في شوارع المدينة. وبالعكس، يمكن أن تولد في أثناء الأشغال اليومية وتكتمل في الليتورجيا. أبواب الكنائس ليست حواجز، بل “ستائر” قابلة للاختراق، وجاهزة لسماع صراخ الجميع.
العالم حاضر دائمًا في صلاة سفر المزامير. تتكلّم المزامير، على سبيل المثال، عن الوعد الإلهي بخلاص الأكثر ضعفًا: “مِن أَجْلِ اْغْتِصابِ البائِسينَ وتَنَهّدِ المَساكين أَقومُ الآنَ، يَقولُ الرَّبّ وأُنعِمُ بِالخلاصِ على مَن إِلَيه يَتوقون” (12، 6). أو تُحذر من خطر المال في العالم: “الإِنسانُ في التَّرَفِ لا يَفْهَم بل يُشبِهُ البَهائِمَ العَجْماء” (48، 21). أو، أيضًا، تفتح الأفق على نظرة الله للتاريخ: “الرَّبّ يُحبِطُ مَساعِيَ الأُمَم ويُبطِلُ أَفكارَ الشُّعوب. أمَّا مَساعي الرَّبَ فلِلأبَدِ قائِمة وأفْكارُ قَلبِه مدى الأجيالِ باقِيَة” (33، 10 – 11).
باختصار، حيث يوجد الله، يجب أن يكون هناك أيضًا الإنسان. الكتاب المقدّس حاسم في ذلك: “أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه”. هو دائمًا يسبقنا. وهو ينتظرنا دائمًا لأنّه يُحبنا أولاً، وينظر إلينا أولاً، ويفهمنا أولاً. هو ينتظرنا دائمًا. “إِذا قالَ أَحَد: (إِنِّي أُحِبُّ الله) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا. لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه.إذا كنت تصلّي العديد من المسابح في اليوم ثم تكلمت عن الآخرين، وبعد ذلك امتلأت بالضغينة في الداخل، والكراهية للآخرين، فهذا تصنُّع فقط، وليست حقيقة. إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا” (1 يو 4، 19-21). يعرف الكتاب المقدّس ويذكر الشخص الذي يبحث عن الله بإخلاص، ومع ذلك لا يتمكن أبدًا من لقائه. لكنه يؤكد أيضًا أنّ دموع الفقراء لا يمكن أن تضيع أبدًا، وأنه أمر مؤلم عدم لقاء الله. لا يتحمل الله “إلحاد” من ينكر الصورة الإلهية المطبوعة في كلّ إنسان.هذا الإلحاد اليومي: أنا أؤمن بالله ولكن مع الآخرين أحافظ على مسافة وأسمح لنفسي أن أكرهم. هذا إلحاد عملي. عدمُ الاعتراف بالإنسان أنّه صورة الله هو تدنيس، وازدراء، وأسوأ إهانة يمكن حملها إلى الهيكل والمذبح.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، لتساعدنا صلاة المزامير حتى لا نقع في تجربة “الأشرار”، أي أن نعيش، وربما أيضًا أن نصلي، وكأنّ الله غير موجود، وكأنّ الفقراء غير موجودين.
* * * * * *
قِراءةٌ من سفر المزامير (مز 36، 2-4. 6. 8-9)
“تُوَسوِسُ المَعصِيةُ لِلشريرِ في صَميمِ قَلبِه فإِنَّ مَخافةَ اللهِ لَيسَت نُصبَ عَينَيه. لأَنَّه تَمَلَّقَ نَفسَه حتَّى لا يَجِدَ إِثمَه مَمْقوتًا في عَينَيه. كَلامُ فمِه إِثمٌ وخِداع وقد عَدَلَ عنِ التَّعَقُّلِ والإِحْسان. […] يا رَبُّ في السَّماءِ رَحمَتُكَ وإلى الغُيومِ أمانَتُكَ […]. اللَّهُمَّ ما أَثمَنَ رَحمَتَكَ! إِنَّ بَني آدَمَ يَعتَصِمونَ بِظِلِ جَناحَيك. مِن دَسَمِ بَيتِكَ يَشبَعون ومِن نَهرِ نَعيمِكِ تَسْقيهم”.
كلامُ الرّبّ
* * * * * * *
Speaker:
تأمّل قداسةُ البابا اليَومَ أيضًا في صلاةِ المزاميرِ في إطارِ تعليمِهِ في موضوعِ الصّلاة. قال قداستُه: يُقدم سفرُ المزاميرِ الصّلاةَ على أنّها واقعٌ أساسيٌّ في الحياة. الصّلاةُ تربطُنا بالله، وتجعلُنا بسببِ هذهِ الصلةِ بشرًا بكلِّ معنى الكلمة. ومن ثم تُخلصُنا من حدودِ أنفسِنا، وتمنعُنا من الضياعِ في هذهِ الحياةِ والاندفاعِ إليها بطريقةٍ مفترسةٍ وشرهة. الصّلاةُ هي خلاصُ الإنسان. الصلاةُ ليست مُهَدِّئاً للتخفيفِ من همومِ الحياة، بمعنى الهربِ منها، بل تزيدُنا إحساسًا بالمسؤوليّة. لذلك في صلاةِ المزاميرِ نجدُ أنّ العالمَ حاضرٌ فيها بكلِّ صعابِه. فتتكلمُ عن وعدِ الله بخلاصِ الفقراء، وتُحذرُ من خطرِ المالِ في العالم، وتُبينُ لنا رؤيةَ اللهِ للتاريخ. تُظهرُ لنا صلاةُ المزاميرِ أنّه حيث يوجدُ الله، يوجدُ الإنسانُ أيضًا. والله لا يتحملُ من يُنكرُ الصورةَ الإلهيةَ المطبوعةَ في كلِّ إنسان. عدمُ الاعترافِ بصورةِ اللهِ في الإنسان، هو تدنيسٌ للإنسان، وازدراءٌ، وأسوأُ إهانةٍ يمكنُ أن نحملَها معنا إلى الهيكلِ والمذبح. وأنهى قداسةُ البابا تعليمَه قائلًا: لتُساعدنا صلاةُ المزاميرِ حتى لا نقعَ في تجربةِ “الأشرار”، فنعيشَ، وربما نُصلي، وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود، وكأنَّ الفقراءَ غيرُ موجودين.
* * * * * *
Speaker:
أحيّي المؤمنينَ الناطقينَ باللغةِ العربية. من المهمِ ألّا نتوقفَ عن الصّلاة. لأنّه بدونِها لا يمكنُ أن تكونَ لنا علاقةٌ مع الله. فالصّلاةُ هي الوسيلةُ التي من خلالِها تقتربُ روحُنا من خالقِها. ليباركْكُم الرّبُّ جميعًا ويحرسْكُم دائمًا من كلِّ شر!
* * * * * *
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2020