فرض فيروس كورونا كوفيد-١٩ نسق حياة جديدة على مختلف المستويات والصعد، طاولت مجتمعات العالم بأسره، ممّا سبب ” عزلة ” درامية “ووحدة” قاتمة أثرت على هشاشة تركيبة الإنسان. كما خنق كلّ من “التباعد الإجتماعي ” و” الحجر الصحي “، ولجما، حركة المجتمعات وتفاعلاتها الإجتماعية والعلائقية والاقتصادية والتعليمية وغيرها من النشاطات والاحداث الناجعة التي تصب في تطور ونمو الحياة البشريّة.
ضربت جائحة ” كورونا ” حياة الانسان، ممّا تسبب بوفاة ما يزيد عن المليون انساناً على كوكب الارض، اكثرهم من خلال انقطاع النفس والقدرة على تنشق الهواء. قضى ” الفيروس ” على النَفْس، اي على الاوكسجين، اي على الهواء ، الذي يقدم للشخص القدرة على التنفس ، للعيش بأمان وسلام وبصحة جسدية ونفسية معًا.
قضت ظاهرة ” الفيروس ” بالمطلق على نَفْس الانسان. رأينا بأم العين في ” زمن جائحة كورونا” المستجد، كم عانى مئات الآلاف من المصابين، باختناقات كبيرة ومؤذية ومؤلمة ومنها قاتل. رأينا حاجة فاقدي المناعة، للنّفس وعدم القدرة على التنفس. فكأن النَفْس يهرب والانسان يركض ورائه لاهثاً، مستعطياً الهواء الاصطناعي العليل والقليل والنظيف، في صراعه للبقاء على قيد الحياة. أوليس النَفْس ( عملية التنفس) هو أول عملية يقوم بها الانسان عند خروجه من رحم أمّه ؟ أوليس النَفْس هو المؤشر الأول على أن المولود الجديد على قيد الحياة ؟ أوليس النَفْس هو العلامة الأخيرة التي ترافق الإنسان قبل رقاده الاخير والنهائي ؟
تحدثت الثقافات وتاريخ الفكر والفلسفة في العصور السابقة، عن أنّ التنفس كان له دائماً دلالة، تتجاوز مجرد التنفس. غالبًا ما كان مصطلح ” التنفس” يستخدم كرمز لشيء روحي ميتافيزيقي. وتؤكد بعض الدراسات العلمية واستنتاجاتها، أن هذا الارتباط ما زال موجودًا اليوم في الخيال المشترك للعديد من الثقافات والحضارات: على سبيل المثال أنه عندما يموت الإنسان، تخرج روحه من الجسد مع آخر نَفْس.
ندرك من خلال العلوم الطبية ” أن التنفس هو العملية التي يصل بها الاوكسجين إلى الدم والعضلات لاسيّما الدماغ. فالنَفْس إذًا هو الفعل الذي يحافظ على العضو حياً والذي هو في الفكر المعاصر مقرّ الروح، ويُفهم على أنه ضمير وشخصية كلّ فرد”. النَفْس يغذي الجسد وينقي العقل. إنّه يحمل في داخل الانسان وخلاياه، الطاقة السخية الايجابية. أوليس على الانسان التركيز على أهمية التنفس، لإنها تركيز على الذات، وبإمكانها المساعدة على خلق حالة من الرفاهية والهدوء الداخليين ؟ عندما خلق الله الانسان نفخ من روحه ” وجبل الرب الاله ادم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار ادم نفساً حية” تك ٢ : ٧ .
ادرك الانسان في ” زمن كورونا ” أهمية وضرورة التنفس في حياته. بالمطلق يتنفس الانسان بشكلٍ لا إرادي ولا شعوري. فهم في الآونة الاخيرة، ماهية النفس والتنفس، وانهما فرضا تلقائيًا نفسيهما على الاهتمام الجماعي والمجتمعي، ممّا أدى الى تأجيج الخوف والهلع والاضطرابات، بسبب هشاشة الانسان، والذي يتطلب الرعاية الكافية والمرافقة الصحية والنفسيّة. شعر كلّ من حجر نفسه، بالوحدة، لكن بعضهم استفاد وتعلم كيفية الاستماع والاصغاء الى ذاته، والتأمل بمسيرة حياته. بالمطلق الوحدة يمكن ان تكون إيجابية وفي بعض الأحيان ضرورية. لكن ما عانى منه الناس في الاشهر المنصرمة هو العزلة القاتلة، والتي هي حالة غير طبيعية، ولا تتناسب مع تركيبة وهوية الانسان ورسالته.
نعم، النَفْس هو علامة الحياة، هو تحرير وراحة. إنه عميق وواسع وطويل. من هنا يجب تنظيمه ومراقبته. أحيانًا هو قصير وخفيف بسبب نكسة مفاجئة، وربما للاسف نفقده بطريقة ضاغطة، وربما يكون الاخير.
ألسنا بحاجة إلى ان نغذي قلبنا وعقلنا بالاوكسجين الروحي؟ وإعطاء المعنويات امام المحن والنكبات، الكفيلة بضبط النَفْس والنفس؟ أوليس الخوف يحبس الأنفاس ويهب قوتًا للدفاع ؟ ألا يسبب القلق والخوف من ” فيروس كورونا ” ضيق التنفس النفسي ؟ اي اضطرابات نفسية ؟ إن ضيق التنفس النفسي، يزيد معدل ضربات القلب وترتفع معه حرارة الجسم، ويشعر المريض بضيق في التنفس: التنفس بسرعة ، ضيق في الصدر والاختناق، دوخة وغثيان.
نستنتج انه يجب ان نتنفس ونتنفس دائماً وببطء، ولكن بثبات، لأن من يتنفس باستمرار لا يقوي جسده فحسب ، بل يقوي عقله. من هنا اهمية التنفس بانتظام وثبات. ولكن أين نحن من تنشق الهواء النقي والصحي ؟ الا نتنشق أغلب السموم الناتجة عن ثلوث الهواء بسبب جرائم الإنسان بحق البيئة؟
ليست جائحة كورونا وحدها قاتلة ومغتصبة النَفْس، لا بل بكلّ ما يدور في فلك حياة البشر. لقد جلب الانسان لنفسه أغلب الكوارث الصحية، بالرغم من تقدم الاكتشافات العلمية والطبية.
كيف نستطيع أن نتنفس بطريقة صحيحة وليس بشكل سطحي أمام هول تراكم النفايات العشوائية، التي تحمل السموم القاتلة والضرر الفادح للجهاز التنفسي، حيث يصبح عمله منخفضًا دون المستوى المطلوب؟ ألا يسهم ذلك في إنتشار المرض بين البشر وضعف قدرتهم على المقاومة ؟
تحتاج المجتمعات الى الوقاية الصحيّة والنفسيّة معًا، من أجل المواجهة والتغلب قدر المستطاع على بعض الامراض المعدية. أحيانًا، يجبر بعض أفراد المجتمعات الساعية الى التطور والتنمية المستدامة، الى ” حبس أنفاسهم ( مجازيًا) للأسف، بدل ان يتنفسوا جيداً، امام الاضطرابات والصراعات والصعوبات والنكبات والمفاجآت والكوارث الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والأخلاقية، التي ” تخنق ” وتدمر الحياة اليومية الكريمة. كما تردي أوضاع الناس واحوالهم على جميع المستويات والأصعدة، بسبب تفشي ظاهرة الفساد القذر والعنف الاجرامي والبؤس المقدح والتعصب المقنع والارهاب القاتل ، وتعنت المتحكمين وفجور المتسلطين بمسيرة البشرية، الذين يتعرضون لحقوق المواطنين، لابسين أقنعة العدالة والرحمة والتضامن . قتلت ” كورونا” الإنسان، أمّا الانسان فقتل البيئة والحيوان وأخيه الانسان، اي الحياة التي اوجدها الله للبشر آجمعين. لنتنفس جيداً….وبثبات…. “لنتنفس ” القيم والمبادئ…
والحرية والتسامح والأخلاق والأخوّة ، وقبول الآخر المختلف، واحترام حياته والمحافظة عليها وعدم التعدي على حياة الناس…كم تحتاج مجتماعاتنا الى ” نفس روحي”؟ ليتنا ندرك ما يعاني انسان هذا العصر…” لنتنفس ” الحياة الآمنة والكريمة… لنتابع ” معركتنا” ضد… لنتنفس ونترك الآخرين كي يتنفسوا..
نعم، للحياة….نعم ، لومضات روحية…