مع بداية الحرب اللبنانيّة سنة 1975، “الحاجة لدى الإنسان المتروك” كانت الفكرة التي جعلت بعض الشبّان يتّخذون قرار عدم الاستسلام والنزول على أرض الواقع وأرض الحروب والفقر والتشرّد والإنسانيّة “للاهتمام بالإنسان سواء كان ضعيفاً أو مريضاً أو متروكاً”.
ومع الوقت، ازداد عددهم وكوّنوا نواة اتّخذت لها اسم “رابطة الأخوّة”، كان على رأسها السيّد كمال طعمة الذي سيمَ كاهناً لاحقاً، فتابع المسيرة السيّد كلود الخوري. وقد استطاعت الرابطة المذكورة التعاون مع مؤسسة “كاريتاس لبنان” لتأمين حاجات العائلات وإقامة مخيّمات للأولاد المحتاجين، وكذلك مع اليونيسف حيث تسجّل الأعضاء في دورات تنشئة لإدارة نشاطات للأطفال؛ كما وشاركوا في مخيّمات تطوعية “برنامج التربية على السلام”.
ثمّ مع ملاحظتهم وجود نقص في المساعدة، أصبحوا يبحثون عمّن هم بحاجة إلى المساعدة كمَن تركوا بيوتهم هرباً من الحرب أو مَن تضرّرت منازلهم ولم تعد أهلاً للسكن أو مَن تهجّروا، ليُزوّدوهم بما ينقصهم مِن مأكل.
أمّا سنة 2011 فقد حصل تعديل على فكرة السيّد الخوري الذي أصبح يتساءل “إلامَ يحتاج أخي الإنسان؟”، فابتدأ يفكّر في “ضيعة” قد تأوي المتروكين، المشرّدين، المعنّفين (سواء كانوا صغاراً أو كباراً)، المجروحين بذكائهم وأصحاب الاحتياجات الخاصّة؛ ضيعة تكون مكاناً آمناً يعيشون فيه، حيث تضمّ مشغلاً للخياطة ومشاغل أخرى متعدّدة، بالإضافة إلى أرض للزراعة ومزرعة قد يستفيد منها الإنسان المتروك ليتأهّل، وليبدأ بالعمل مِن جديد.
من هنا، وُلدت “ضيعة الرسالة” التي اجتازت مراحل عديدة حتّى أصبحت منظّمة غير حكوميّة، مُؤسِّسها ورئيس هيئتها الإداريّة السيّد كلود الخوري. أمّا الهيئة الإداريّة فهي تتألّف من السيّدات لودي بطرس الخوري، جولييت سمعان، غنى عبود، مايا بيروتي، جان دارك أبي ياغي، ومن السادة جاك كون، وسام شبيعه، وإيلي أسمر.
ومِن ذلك، إنّ جملة “طرق الله تختلف عن طرقنا” هي خير دليل على سلسلة الأحداث التي تتابعت: فقد تمّ تقديم أرض في منطقة غدراس (كسروان – جبل لبنان) من قبل وَقْف مار ضومط (منطقة العقيبة)، بمباركة سيادة المطران أنطوان نبيل العنداري وغبطة البطريرك بشارة بطرس الراعي؛ مع الإشارة إلى أنّ مساحة الأرض تبلغ 15 ألف متر، والهدف منها بناء مركز للناس المتروكين.
بعد البدء بالعمل على أرض غدراس (أي الحفريات وشقّ الطرقات)، علمت بلديّة منطقة الدكوانة (بيروت) بشخص رئيسها السيّد أنطوان شختورة بالخبر. فما كان من الرئيس إلّا أن قدّم أيضاً “سطحاً” تبلغ مساحته 420 متراً. فانطلقت أعمال البناء التي أسفرت حتّى الآن عن بناء مركز يتألّف من إحدى عشرة غرفة تتّسع كلّ واحدة منها لشخصين، بالإضافة إلى مطبخٍ كبير وغرفة جلوس يجتمع فيها الموجودون. أمّا سطح البناء فهو مُخصّص لمشاغل الزراعة العضويّة، الخياطة، دورات في الكهرباء والسمكريّة وصناعة الصابون، مع الإشارة إلى أنّ البناء ما زال جارياً، وأنّ العمل في غدراس متوقّف حاليّاً (وحتّى الربيع المقبل)، بانتظار الانتهاء من بناء مركز الدكوانة. (الصورة أعلاه هي دراسة للضيعة التي ما زال بناؤها في مراحله الأولى).
لن ننسى هنا أن نذكر أنّ القيّمين على “الضيعة” يُقيمون نشاطات للأشخاص المشرّدين بين الحين والآخر، كدعوتهم لاختيار ثياب يقوم المعنيّون بعرضها ليشعر مَن يأتي لاختيارها أنّه في متجر؛ كما ويزور الأعضاء أشخاصاً مُسنّين لا ينقصهم الطعام والمال، بل الرِفقة بما أنّ أولادهم لا يزورونهم أو أنّه لا أقارب لهم. (يمكن مشاهدة صور النشاطات على صفحة المنظّمة عبر موقعَي فايسبوك https://www.facebook.com/missionvillagelebanon وإنستاغرام Mission Village)
أمّا السبيل لإطعام الموجودين فهو مطبخ صناعيّ كبير! إلّا أنّ أحداً لم يكن يُدرك أنّ هذا المطبخ – الذي سيُطعم الأشخاص يوميّاً ويستقبل أفراداً يأتون للتسلية وتناول الغداء – أراده الله لهدف آخر هذه السنة. عقب الانفجار الذي هزّ بيروت في 4 آب 2020، ومع رؤية السيّد الخوري أنّ الحاجة أصبحت هائلة، ابتدأ المطبخ يؤمّن بين 800 وألف صحن يومي لِمَن فقدوا منازلهم، كما وأمّن حصصاً غذائيّة للذينَ يستطيعون تحضير الطعام في بيوتهم، وذلك بمساعدة أشخاص خيّرين وأصحاب مطاعم تكاتفوا مع بعضهم البعض وتطوّعوا للمساعدة.
فيما يتعلّق بالشقّ الماليّ، تعتمد “ضيعة الرسالة” بالإجمال على مصدرَين:
التبرّعات التي أساسها حساب GoFundMe في ألمانيا وتبرّعات محليّة؛ تقدمات من بعض المعارف، سواء كانت مواداً غذائيّة أو بطانيات وفرشات وخزانات لتجهيز “الضيعة” لاستقبال سكّانها، بالإضافة إلى هبات تنوّعت بين مواد البناء والطلاء والتجهيزات الكهربائية وتطوّع في اليد العاملة.
أمّا المصدر الثاني فهو عبارة عن رعاية سهرات وحفلات غنائيّة لتغذية الصندوق، بالإضافة إلى اشتراكات الأعضاء المنتسبين.
صحيح أنّ الضيافة “جعلت بعضَهم يُضيفون الملائكة وهم لا يدرون” (عب 13 :2)، فافرحي أيّتها “الضيعة” بملائكتك!