Pixabay - CC0

التواصل من خلال لقاء الأشخاص أينما هم وكيفما هم

رسالة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي لوسائل التواصل الاجتماعيّة

Share this Entry

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

إنّ الدعوة “هلُمَّ فانظُر” التي ترافق أوّل لقاءات مؤثِّرة ليسوع مع التلاميذ، هي أيضًا طريقة كلّ تواصل بشري حقيقي. لكي نتمكّن من أن نروي حقيقة الحياة التي أصبحت قصّة (را. رسالة اليوم العالمي الرابع والخمسين للاتصالات الاجتماعية، 24 كانون الثاني/يناير 2020)، من الضروري أن نخرج من الافتراض المريح لـ “ما نعرفه” ونتحرّك، لنذهب وننظر، ونقيم مع الأشخاص، ونصغي إليهم، ونجمع اقتراحات الواقع، التي ستفاجئنا على الدوام في بعض جوانبها. لقد نصح الطوباوي مانويل لوزانو غاريدو[1] زملائه الصحفيين قائلاً: “افتح عينيك بذهول على ما ستراه، ودع يديك تمتلآن من نضارة الحيويّة، لكي وعندما يقرؤك الآخرون، يلمسون بأيديهم معجزة الحياة النابضة”. لذلك أرغب في أن أكرّس الرسالة، هذه السنة، للدعوة “هلُمَّ فانظُر”، كاقتراح لأي تعبير تواصلي يريد أن يكون واضحًا وصادقًا: في تحرير صحيفة ما كما في عالم الويب، في الوعظ العادي في الكنيسة كما في التواصل السياسي أو الاجتماعي. “هلُمَّ فانظُر” هي الطريقة التي من خلالها نُقِل الإيمان المسيحي، بدءًا من تلك اللقاءات الأولى على ضفاف نهر الأردن وبحيرة الجليل.

استهلك نعل حذائك

لنفكر في موضوع المعلومات الكبير. لطالما اشتكت الأصوات اليقظة من خطر الرتابة في “صحف نسخة عن بعضها البعض” أو في أخبار مشابهة تلفزيونيّة وإذاعية وعلى المواقع الإلكترونية، حيث يفقد نوع التحقيق والتقرير المساحة والجودة لصالح معلومات اعتياديّة وسائدة، ذات مرجعية ذاتيّة، وأقل قدرة على مواجهة حقيقة الأشياء وحياة الأشخاص الملموسة، وغير قادرة على فهم أخطر الظواهر الاجتماعية أو الطاقات الإيجابيّة التي تنبعث من قاعدة المجتمع. هناك خطر بأن تؤدي أزمة النشر إلى تركيب المعلومات في غرف الأخبار، أمام أجهزة الكمبيوتر، في محطات الوكالات، وعلى الشبكات الاجتماعيّة، بدون الخروج إلى الشارع على الإطلاق، وبدون “استهلاك نعال الأحذية”، وبدون لقاء الأشخاص للبحث عن قصص أو التحقق من مواقف معينة وجهًا لوجه. إذا لم ننفتح على اللقاء، فإننا نبقى مجرّد متفرجين خارجيين، على الرغم من الابتكارات التكنولوجيّة التي لديها القدرة على وضعنا أمام الواقع المعزز الذي يبدو لنا أننا منغمسون فيه. كلّ أداة هي مفيدة وثمينة فقط إذا دفعتنا لكي نذهب وننظر إلى الأشياء التي لن نعرفها بطريقة أخرى، وإذا وضعت على الإنترنت معارف لا يمكن تداولها بطريقة أخرى، وإذا سمحت بلقاءات لن تحدث بدون ذلك.

تفاصيل الأخبار في الإنجيل

على التلميذين الأولّين اللّذين أرادا أن يتعرّفا عليه، بعد معموديته في نهر الأردن: أجاب يسوع ” هَلُمَّا فَانظُرا!” (يو 1، 39)، ودعاهما لكي يكونا في علاقة معه. وبعد أكثر من نصف قرن، عندما كتب يوحنا، الشيخ، إنجيله ذكّر ببعض تفاصيل “الأخبار” التي تكشف عن وجوده في المكان وأثر تلك الخبرة على حياته فكتب: “وكانَتِ السَّاعَةُ نَحوَ الرَّابِعَةِ بَعدَ الظُّهْر” (را. نفس المرجع، 39). في اليوم التالي – يتابع يوحنا – أخبر فيليبس نَتَنائيل عن لقائه مع المسيح. فقال له صديقة مشكّكًا: “أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شَيٌ صالِح؟”. لكنَّ فيليبس لم يحاول إقناعه بالحجج بل قال له: “هلُمَّ فانْظُرْ” (را. الآيات 45-46).  فقام نتنائيل ورأى ومنذ تلك اللحظة تغيّرت حياته. هكذا يبدأ الإيمان المسيحي. ويُنقل بهذه الطريقة: كمعرفة مباشرة، تولد من الخبرة، وليس عن طريق الإشاعات. “لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً”، هكذا قال الناس للمرأة السامريّة، بعد أن كان يسوع قد توقف في قريتهم (را. يو 4، 39-42). إنَّ الـ “هلُمَّ فانْظُرْ” هي أبسط طريقة لمعرفة واقع ما. هذا هو التحقق الأكثر صدقًا في كلّ إعلان، لأنه لكي أعرف عليّ أن ألتقي وأن أسمح للشخص الذي أمامي بأن يحدّثني، وأن أسمح لشهادته أن تبلُغني.

شكرًا لشجاعة العديد من الصحافيين

إنَّ الصحافة أيضًا، كرواية للواقع، تتطلب القدرة على الذهاب إلى حيث لا يذهب أحد: حركة ورغبة في الرؤية. فضول وانفتاح وشغف. وبالتالي علينا أن نشكر العديد من المهنيّين على شجاعتهم والتزامهم – الصحافيون والمصورون والمحررون والمخرجون الذين غالبًا ما يعملون في خطر كبير – إذا كنا اليوم نعرف، على سبيل المثال، الحالة الصعبة للأقليّات المضطهدة في مختلف أنحاء العالم؛ وإذا تم شجب العديد من أشكال الاستغلال والظلم ضد الفقراء وضد الخليقة؛ وإذا تمّت رواية العديد من الحروب المنسية. ولذلك ستكون خسارة ليس للمعلومات وحسب، وإنما للمجتمع بأسره وللديمقراطيّة إذا غابت هذه الأصوات: سيكون إفقارًا لبشريّتنا.

إنَّ العديد من وقائع الكوكب، ولاسيما في زمن الجائحة هذا، تدعو عالم الاتصالات لكي “يأتي وينظر”. هناك خطر سرد الجائحة، وكذلك كلّ أزمة، بعيون العالم الأكثر ثراء فقط، والحصول على “حسابات مزدوجة”. لنفكر في مسألة اللقاحات، وكذلك بالرعايّة الطبيّة بشكل عام، وفي خطر استبعاد السكان الأكثر فقرًا. من سيقول لنا عن انتظار الشفاءات في أفقر قرى آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا؟ هكذا تخاطر الاختلافات الاجتماعيّة والاقتصاديّة على المستوى العالمي بأن تطبع ترتيب توزيع اللقاحات المضادة لفيروس الكورونا. مع الفقراء دائمًا أخيرين والحق في الصحة للجميع، الذي تم تأكيده من حيث المبدأ، مُفرغًا من قيمته الحقيقيّة. ولكن حتى في عالم الأكثر حظًا، تبقى المأساة الاجتماعيّة للعائلات التي انزلقت سريعًا إلى الفقر مخفيَّةً إلى حد كبير: إنّ الأشخاص الذين يتغلبون على العار ويصطفّون أمام مراكز كاريتاس لينالوا طرود الطعام يجرحون ولكنّهم لا يشكِّلون خبرًا.

فرص وأشراك الشبكة

يمكن للشبكة، بتعبيراتها الاجتماعيّة التي لا تُعدّ، أن تضاعف القدرة على الرواية والمشاركة: عيون كثيرة مفتوحة على العالم، وتدفق مستمر للصور والشهادات. تمنحنا التكنولوجيا الرقميّة إمكانيّة الحصول على معلومات مباشرة وفي الوقت المناسب، وتكون مفيدة جدًا في بعض الأحيان: لنفكر في بعض حالات الطوارئ التي تنتقل فيها الأخبار الأولى وإعلانات الخدمة العامة إلى السكان مباشرة على الشبكة. إنها أداة رائعة تجعلنا جميعًا مسؤولين كمستخدمين ومُنتفعين. يمكننا أن نصبح جميعًا شهودًا على أحداث كان من الممكن أن يتم تجاهلها من قبل وسائل الإعلام التقليديّة، ونقدّم مساهمتنا المدنيّة، ونُظهر المزيد من القصص، حتى القصص الإيجابيّة. بفضل الشبكة لدينا الفرصة لنروي ما نراه، وما يحدث أمام أعيننا، ونشارك الشهادات.

لكن مخاطر التواصل الاجتماعي دون التحقق أصبحت الآن واضحة للجميع. لقد تعلمنا منذ فترة طويلة كيف يمكن التلاعب بسهولة بالأخبار وحتى بالصور، لآلاف الأسباب، وأحيانًا حتى لمجرد نرجسية مبتذلة. هذا الوعي النقدي لا يدفعنا إلى اعتبار هذه الأداة شرّيرة، وإنما إلى قدرة أكبر على التمييز وحسٍّ أكثر نضجًا بالمسؤوليّة، سواء عند انتشار المحتويات أو عند تلقيها. جميعنا مسؤولون عن الاتصالات التي نقوم بها، وعن المعلومات التي نقدمها، وعن التحكم الذي يمكننا أن نمارسه معًا على الأخبار الكاذبة، لنكشفها. جميعنا مدعوون لنكون شهودًا على الحقيقة: لنذهب ونرى ونشارك.

لا شيء يحل مكان الاطلاع شخصيًّا على الوقائع

في التواصل، لا شيء يمكنه أبدًا أن يحل مكان الاطلاع شخصيًّا على الوقائع. هناك بعض الأشياء التي لا يمكن تعلمها إلا من خلال اختبارها. في الواقع، لا يتواصل المرء بالكلمات فقط، وإنما بالعيون ونبرة الصوت والتصرّفات. لقد كان سحر يسوع القوي على الذين التقوا به يعتمد على حقيقة وعظه، لكن فعاليّة ما كان يقوله كانت لا تنفصل عن نظراته ومواقفه وحتى عن صمته. لم يصغِ التلاميذ إلى كلماته فحسب، بل كانوا يرَوه يتكلم. في الواقع، فيه – الكلمة المتجسِّد – أصبح الكلمة وجهًا، وسمح لنا الله غير المنظور بأن نراه ونسمعه ونلمسه، كما كتب يوحنا (را. 1 يو 1، 1-3). تكون الكلمة فعّالة فقط إذا “رأيتها”، وفقط إذا أشركتك في خبرة ما وفي حوار. لهذا السبب كان الـ “هلُمَّ فانْظُرْ” ولا يزال جوهريًّا.

لنفكر في مقدار البلاغة الفارغة السائدة حتى في عصرنا، في كلّ مجال من مجالات الحياة العامة، في التجارة كما في السياسة. “يمكنه أن يتحدّث إلى ما لا نهاية وألا يقول شيئًا. دوافعه هما حبتان من القمح في مكيالين من القش. عليك أن تبحث النهار كلّه لكي تعثر عليهما، ومتى وجدتهما هما لا تستحقان عناء البحث”[2]. إنّ كلمات الكاتب المسرحي الإنجليزي تصلح أيضًا بالنسبة لنا نحن المسيحيّين العاملين في مجال الاتصالات. إنَّ بُشرى الإنجيل السارة قد انتشرت في جميع أنحاء العالم بفضل لقاءات شخصية وجهًا لوجه، وقلبًا لقلب. رجال ونساء قبلوا الدعوة عينها: “هلُمَّ فانْظُرْ”، وأذهلهم “المزيد” من الإنسانيّة التي ظهرت في نظرات وكلمات وتصرفات الأشخاص الذين شهدوا ليسوع المسيح. جميع الأدوات مهمة، ومن المؤكد أن ذلك المحاور العظيم الذي كان يُدعى بولس الطرسوسي كان سيستخدم البريد الإلكتروني والرسائل الاجتماعيّة؛ لكن إيمانه ورجاءه ومحبته هي الأمور التي أثارت إعجاب معاصريه الذين سمعوه وهو يعظ وكانوا محظوظين بأن يقضوا معه بعض الوقت وأن يلتقوه ويروه في اجتماع أو محادثة فرديّة. وقد تحققوا، إذ ورأوه يعمل في الأماكن التي كان فيها، من مدى صحّة وخصوبة إعلان الخلاص الذي حمله بنعمة الله. وحتى حيث لم يكن من الممكن مقابلة معاون الله هذا شخصيًّا، شهد التلاميذ الذين أرسلهم على طريقة عيشه في المسيح (را. 1 قور 4، 17).

قال القديس أغسطينُس: “بين أيدينا الكتب، والحقائق في أعيننا”[3]، فيما كان يحثُّ المؤمنين على أن يجدوا في الواقع تحقق النبوءات الموجودة في الكتاب المقدس. وهكذا يتكرر الإنجيل اليوم مرة أخرى، في كلّ مرة ننال فيها شهادة واضحة من أناس تغيرت حياتهم بسبب لقائهم بيسوع. منذ أكثر من ألفي عام، نقلت سلسلة من اللقاءات سحر المغامرة المسيحيّة. لذلك فإن التحدي الذي ينتظرنا هو التواصل من خلال اللقاء مع الأشخاص أينما كانوا وكيفما كانوا.

علمنا يا ربّ أن نخرج من أنفسنا،

وأن ننطلق في البحث عن الحقيقة.

علمنا أن نذهب ونرى،

علمنا أن نصغي،

وألا نعزز الأحكام المسبقة،

وألا نستخلص استنتاجات متسرعة.

علمنا أن نذهب إلى حيث لا يريد أحد أن يذهب،

وأن نأخذ الوقت الكافي لنفهم،

وأن نولي الاهتمام للجوهري،

وألا نسمح للفائض بأن يلهينا،

وأن نميِّز المظهر المخادع عن الحقيقة.

امنحنا النعمة لكي نتعرّف على مساكنك في العالم

والصدق لنخبر بما رأيناه.

أُعطيت في روما، قرب القديس يوحنا في اللاتران، في الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2021، عشية تذكار القديس فرانسيس دي سال.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021

 


[1] صحافي إسباني، ولد عام 1920 وتوفّي عام 1971، وتمَّ إعلان تطويبه عام 2010.

[2]ويليام شكسبير، تاجر البندقية، الفصل الأول، المشهد الأول.

[3]العظة 360/ب، 20.

 

 


© Copyright – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير