المقدمة
حدث بشارة مريم البتول، الذي يسرده لوقا الإنجيلي هو حدث فريد من نوعه. ينفرد فقط الإنجيل الثالث برواية هذا اللقاء المتحاور بين ملاك الرب وأم الله المستقبلية. يتميز حدث البشارة بلاهوت الروح القدس الـمُعلن والواضح في الرسالة التي حملها جبرائيل الملاك لمريم. منذ أن بدأ مار لوقا في تدوين إنجيله وهو يدسّ بين سطوره جوهر كامن للحياة المسيحية عامة وللعلاقة بالرب خاصة ألا وهو الروح القدس. كثيراً ما يُسمى لاهوته بكتابات الروح القدس بسبب كثرة إستخدامه للأقنوم الثالث كمحرك وطاقة لكل الأحداث على المستوى الإلهي والبشري. الروح القدس هو تيار الحب بين أقانيم الثالوث المقدس وأيضًا بين العالمين الإلهي والبشري.
اليوم سنقترب مع لوقا الإنجيلي لنسمع نبضات قلبه الحيّ نص البشارة في 1: 26- 38، حينما يشير لعمل الروح القدس في مريم أم الله مُنتظراً إجابتها. كأن ملاك الرب يقول لها: يا مريم يا إبنة يواقيم أترغبين في حلول الروح القدس عليكِ؟ مقالنا هذا هو تتبع نبضات لوقا البشير الذي يحملنا للدخول في مدرسة الروح القدس على مثال مريم مُتتبعين إجابتها وفي ذات الوقت متسألين أين نحن من عمل الروح القدس الذي بدأ في مريم ونلناه في سر التثبيت المقدس؟
- خطة مريم البشرية
يتوافق حلم مريم الفتاة مع حلم يوسف رجلها لبناء مستقبلهما معًا في شكل أسرة. مريم الصبية كأي فتاة من عصرها، فهي شرقية الأصل، مُتنتمية للديانة اليهودية. تميل للإتحاد برجلها من خلال الزواج كدعوة لحياتها، التي تهدف إلى تأسيس عائلة. فقد أعلنت رغبتها بموافقتها على خطبتها ليوسف، وطموحها أن تصير زوجة له وتنجب أبناء وتصير زوجة وأم يهودية. تَبَعَّت مريم بحلمها فكر عصرها القديم السائد بزمنها. بهذا تُشارك مريم مستقبلها الكثير من الفتيات اللواتي في عمرها، بحسب عادات أهل بلادهل بالشرق القديم. إذ لم يذكر لنا العهد الثاني أي خطط أخرى سوى ما نستنتجه من سرد لوقا البشير القائل: «أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة، إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم» (لو 1: 26- 27). وضوح خطة مريم لإستكمال حياتها الأُسرية مع يوسف رجلها.
- المشروع الإلهي
يتدخل الرب في حياة هذه الفتاة البتول، حاملاً لحياتها ومستقبلها “خبره السَّار” فيدعوها لتعاونه مانحًا البشرية الكثير من الخيرات الخلاصة الغير مُنتظرة. سعى الرب، من خلال هذا الحوار، لتحقيق مخططه العظيم كاشفًا أيضًا عن جوهره الإلهي مانحًا مريم العروس مع رجلها نعمة تحقيق حلمهما البشري ولكن بشكل آخر. أي بشكل يتطابق مع مشروعه الإلهي. في صفحة البشارة المريمية، سيكشف الله عن الجديد من سره كاشفًا عن ذاته بشكل جديد. إذ كان قرار الله أن لا يتواصل بعد مع بشر كالبطاركة والقضاة والأنبياء والملوك، … بل من خلال إبنه وهو الأقنوم الثاني ولكن في مريم الله، منح الله الآب قوته العُظمى التي هي “قوة الروح القدس”.
- قوة الروح القدس
يفاجأنا لوقا الإنجيلي بكشف جديد عن الله وسر الثالوث في لقائه الخاص بمريم. هناك نعمة خاصة سترافق مريم ليتجسد المخطط الإلهي بشكل قوى. جوهر هذا المخطط الإلهي هو “الروح القدس” الذي هو بمثابة قوة إلهية تغمر فكر وقلب وجسد مريم، بل يجعل حياتها تتحول للأجمل وللأفضل. لتنفيذ هذا المخطط الإلهي إختار الله الآب مريم العروس والبتول من جانب. ولدى متى إختار خطيبها كُلي الطهارة من الجانب الآخر. منذ لحظة إختياره لهما تغيّر إتجاه مستقبلهما، الذي كان يقتصر على تكوين أسرة بشكل طبيعي، بل هي الآن مدعوة برفقة يوسف لتشكيل أسرة تنمو بقوة الروح القدس وليس بزرع بشري. نعم تم التدخل الإلهي، من خلال الروح بل كشف الله عن كنز قلبه الصالح بشكل مباشر من خلال حوار ملاكه الـمُرسل لمريم الـمُعلن صراحة: «إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى» (لو 1: 35).
ماذا يريد الله في رسالته للعروس البتول؟ أن تترك ذاتها لعمل الروح القدس بالكامل، دون أن يُجبرها على تغيير خطتها. فهي مدعوة للتمييز وللتفكير أن تقبل في ضعف جسدها، ووهن قلبها، … للروح القدس ليقويها بخطته ليس فقط لخيرها بل لخلاص البشرية بأجمعها. مريم اليوم في حدث البشارة مدعوة أن تُقدم بتولية جسدها وقلبها للرب، فتصير إناء للرب ولروحه ولإبنه في ذات الوقت.
في شخص مريم البتول الفتاة البشرية وأم يسوع، الإله والإنسان، المستقبلية نقترب من إختبار باطني عميق وهو مُقاومتها لإقتراح الرب عليها بمشاعر بشرية إذ اعلنت مريم الإنسانة تساؤلها: «كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟» (لو 1: 34). وهنا يكشف عن ملاك الرب عن الرسالة الإلهية التي تحمل كنز الكنوز، وهو حلول الروح القدس عليها. بهذا تدخل مريم فيما يفوق طبيعتها البشرية وتطرق العالم الإلهي في حالة قبولها. حتى يُمهد الآب دخولها في سره الإلهي متى إنفتحت على ما هو أعظم وغير متوقع بشريًا. من خلال تمييز مريم لكلمة الله الـمُعلنة لها في حلول الروح عليها ثبت حبه الخاص لهذه الفتاة المدعوة لتُمثلنا بشريًا في مخطط الرب العظيم.
قوة الروح القدس، تصير سند يحمل السلام أمام المخاوف التي يستحيل على الإنسان مواجهتها بمفرده. تسلّحت مريم بسلاح قوي وسمحت للروح القدس أن يحتويها فإحتوى معها مخاوفها ومقاومتها التي كانت ستعترض إرادة الرب. يشير هذا التجاوب إلى قبول مريم لعمل الروح فيها وقرارها بألا تنظر لضعفها والمخاوف التي تدور بفكرها. تصير مريم أول هيكل متجسد للروح القدس، بقبولها له. بالإضافة لأنها أصبحت مسكن لقبول إبن الله في أحشائها البتولية، دون أن تعرف رجلاً فقد عرفت فقط الإله من خلال قوة روحه القدوس.
- قوة الكلمة الإلهية
تكلم الله في قلب وجسد من خلال حدث البشارة العظيم الذي حمله الملاك جبرائيل. بواسطة إعلان رسالته السرية في إبنه، أي “الكلمة”. نجد أن هناك دعوة خاصة موجهة إلى مريم، فيطلب بتوليتها المتمثلة في بتولية: قلبها وجسدها، … فيصير الروح القدس هو قوتها. ولا تحتاج لرجل أو لزرع بشري لتصير أمًا لإبن الله. نعم، الروح هو سر قوتها السرية التي تتفاعل ليس فقط في الإتحاد بروح مريم الإنسانة البشرية بل بإنفتاحها عليها تلتمس حب الله متجسداً فيأخذ جسداً من جسدها ومشاعر من قلبها وحياة من حياتها على المستوى البشري، ليس بقدرتها بل بقدرة هائلة وهي قدرة الروح القدس.
- رَدّ أم الله المستقبلية
أعطت مريم، أم الله المستقبلية، رداً مباشراً بكلماتها العذبة التي تؤكد تجاوبها يوسف فقال: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ» (لو 1: 38). نتلمس هنا فعالية قوة الروح القدس الذي هيأها لتتجاوب مع الرسالة الإلهية في حوارها. تفاعل مريم بالتجاوب دون التركيز على المخاطر الّتي ستواجها جراء هذا الرد الجرئ. المخاوف التي تدور حول مريم لهي كثيرة، فهي فتاة، وتنتمي لرجل شرقي، تتبع الديانة اليهودية المتشددة في الحكم على المرأة التي تصير عثرة ويُحكم عليها بالرجم متى عُرف إنها تنتظر مولوداً قبل وجودها ببيت رجلها! نظرة المجتمع لها من أقارب وجيران وصديقات، … إلخ! هل لم تأخذ مريم في إعتبارها كل هذه النتائج؟
حدث البشارة اليوم بحسب سرد لوقا الإنجيلي يشير إلى قرار الله العظيم الذي يحمل الخلاص الشامل لبشريتنا الضعيفة ويُدخلنا في تاريخه الإلهي دون أن نطلبه، من خلال تجسد إبنه من مريم البتول. من خلال هذا التدخل الأبويّ، سيولد يسوع بيننا بل فينا نحن البشر ولأجلنا. تكمن بشارة مريم في: 1) تحرير مريم من مخاوفها البشرية. 2) كشف ما هو إلهي وغير منظور إذ إحتوى الروح القدس ما فيها من بشري ومنحها ما هو إلهي.
الــمُدهش في هذا النص، هو قَبولَّ مريم قوة الروح القدس الـمُعلنة في رسالة حب الآب بشكل يفوق الطبيعة في بساطة قولها: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ» (لو 1: 38). حوار مريم مع الملاك أخرج ما بقلبها وما يحمله من حقيقة بشرية كامنة وهي رغبتها في بناء عالم جديد يقوده روح الرب القدوس. مريم أم الله المستقبلية البسيطة في الفكر والتي لم تصل لدرجة علمية عُظمى في اللاهوت، صارت أم الله بسبب بساطة قلبها الذي تجاوب بحب مع كلمة الله. قوة كلمة الله لم تمنع مريم من الإضطراب ولم تحرمها من توجيه التساؤل بل إنفتحت بكل ما يُسبب قلق بداخلها فطرحت أمام الرب مقاومتها الباطنية أي أفرغت ذاتها من أثقال كانت قد تمنعها من قبول رسالة الرب. في هذا الحوار وُلِدّتْ مريم من جديد لتحمل إبن الله لبشريتها الخاطئة وتحمل بشريتنا ليحل فيها روح الرب.
يتطلب هذا الرد قلب بشري منفتح على عمل الروح القدس. قد أعلن الرب في القِدم لداود، أن مِن نسله سيأتي المسيا، ومريم هنا، التي مِن النسل الداودي ستكون هي القناة التي تساعد على تحقيق هذا الوعد. سيكون إبن داود هو المسيا الموعود به إبن رحمها. من رحمة الرب إختيار يوسف رفيقًا أمينًا لمريم، مُعلنًا أن الإبن لن يأتي بزرع بشري بل من الروح مما يعني أن الروح هو الله في الأقنوم الثالث.
- اليوم نحن وحدث البشارة
مريم، في حدث البشارة، صارت هي نقطة إنطلاق لعمل الروح القدس بالعهد الجديد. هذا العمل الإلهي منذ بدأه لم يتوقف بعد. بالتجاوب المريمي الذي قُدم للرب بحب من قلب وجسد بتوليين، يدعونا لنفكر اليوم في أمرنا أمام بشارة الرب لنا بخبر سار وهو إستمرارية منح روحه القدوس فينا بسخاء كعادة الرب معنا بكرم قلبه الأبويّ. يمكننا أن نتحاور مع ملاك الرب ونجعل من رسالته لمريم رسالة لقلب كلاً منا باحثين عن الجزء البتول في حياتنا لتقديمه للروح القدس ليعمل فينا ويكرسه ليتجسد المسيح الرب، فنصير أبناء لمريم أم يسوع وأمنا ومعها نقول: “نعم ها نحن أصدقاء للرب، فليكن لنا بحسب قولك الإلهي”.
الخلاصة
في هذا العام الـمُكرس لمار يوسف البتول 2021، نشكر الله لأنه صار رفيق مريم منذ إنفتاحها عليه بخبر حلول الروح القدس عليها، ليولد الإبن الإلهي، مُخلصًا لبشريتنا الخاطئة. من خلال ما ذكرناه في مقالنا هذا، مدعوين لنرتكز بنظرنا على الروح القدس الذي حلّ على مريم، الأم المستقبلية لإبن الله. فهي التي أعطت إجابة بالنعم للرب فصارت أم إبنه بقوة الروح القدس وقالت بتعبيرنا البسيط: نعم أقبل أن تحلَّ على قلبي وجسدي وحياتي قوة الروح القدس. بذلك فتحت المجال لعمل قوة الروح لصالحنا نحن البشريين والغير المستحقين له فاستبقت بقبولها حدث حلول الروح القدس بالعنصرة.
اليوم يدعونا الرب، مُعطيًا إيانا بمجانية وبسخاء، لقبول روحه القدوس ليعمل فينا وبنا في العالم البشري. ففيه ننمو ويتم خلاصنا. بالزمن القديم، إختار الرب مريم ويوسف، مانحًا إياهم قوته بالروح القدس ليُحقق سر حبه لنا في إبنه، فهل يجد مكانًا في حياتنا البشرية اليوم؟ مدعوين للتأمل في هذا العيد “ترك مريم ذاتها لعمل الروح القدوس”، وفي ردها الإيجابي على رسالة الرب لها. مدعويين لنستجيب لبشارة الرب لنا. باحثين عن قوة كلمته الإلهية المرتكزة في روحه مُعتمدين عليها وليس على قدراتنا البشرية. قبول مريم لبشارة الله الآب وقبولها الخبر الفائق الطبيعة البشرية بل إختبارها بــ: «ما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله» (لو 1: 37). مما جعلها تُرتل في نشيد التعظيم عمل روح الله فيها قائلة: «لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه» (لو 1: 49). مدعوين بحياتنا لقبول لروح الرب وكما قبلت مريم مخطط الرب، في بشارته، فهو يبشرنا بإبنه مباشرة ليُحقق مخططه و الإلهي في بشرتنا بقوة روحه القدوس. إذن فلنتسلح بروح الرب مثل مريم ونطرح أمامه ما يعوقنا ويجعلنا نقاوم تجسيد مخطط الرب.