“البابا لم يذهب إلى العراق لوحده، بل الكنيسة برمّتها هي التي ذهبت معه إلى هناك، قُرب الشهداء”: هذا ما أكّده الكادينال فرناندو فيلوني خلال مقابلة أجرتها معه الزميلة آن كوريان مونتابون من القسم الفرنسي، بعد الرحلة الرسولية إلى العراق (5 – 8 آذار).
الحاكم الأعلى لجمعيّة فرسان القبر المقدّس في القدس، والذي كان ضمن البعثة البابويّة في بلاد دجلة والفرات، عاد إلى هذا الحدث التاريخيّ الذي “قد يُولّد صفحة جديدة في العلاقات بين الإتنيّات والقبائل والأديان والسياسات”.
فَمَن كان سفيراً بابويّاً في البلد بين 2001 و2006، ومَن ألّف كتاباً حول تاريخ الكنيسة في العراق، يُكرّم جميع المسيحيّين الذين “بقوا هنا”: “على الرغم مِن كلّ العنف والصعوبات ومشاكل الماء والكهرباء والهاتف، إنّهم هنا… أرى أنّهم ما زالوا يؤمنون أنّ مستقبلاً هنا ممكن”.
خلال اللقاء في أور، عدا عن الممثّلين العديدين لمختلف الديانات، كانت هناك عائلة يهوديّة. وقد أشار الكاردينال إلى أنّ هذا الأمر لم يُذكَر. “إنّ الواقع العبريّ على أرض إبراهيم لم يُنسَ. حتّى البارحة، كانت هناك معارضة بين العالم المُسلم والعالم اليهوديّ، لكن الآن ثمّة إتاحة. إنّها بذور صغيرة، لكنّها ستكبر”.
بالنسبة إلى ما بقي محفوظاً في قلب الكاردينال خلال الرحلة الرسولية، هناك صورتان: الزيارة إلى أور (إذ لم يكن سهلاً جمع مسؤولين من مختلف الديانات فيما كانوا يعيشون توتّرات)، واختبار الشهادة في بغداد، تحديداً في كنيسة السريان الكاثوليك: “فالجراح لا تندمل بسهولة… والعراق حمل الكثير من الشهادات الصامتة”. وأضاف: “إنّ وجود الجميع في أور جنباً إلى جنب، سنّة وشيعة ومسيحيّين… شكّل رسالة بحدّ ذاتها”.
فيما يتعلّق بالصلاة في الموصل (على نيّة ضحايا الحروب)، قال فيلوني إنّها “صورة رائعة أخرى، مع بُعد إنجيليّ إن تذكّرنا دمار نينوى المُحدَث في دمار هذه المدينة وكنائسها وجوامعها… ما زلت أحتفظُ أيضاً بصورة حماسة سكّان قره قوش وفرح العيش لديهم بعد أن “قُضي عليهم”.”
أمّا لدى سؤاله عن كيفيّة عيشه هذه الرحلة ضمن البعثة البابويّة، أجاب العميد السابق لمجمع أنجلة الشعوب (من 2011 إلى 2019)، والممثّل الشخصيّ للبابا في العراق سنة 2014: “هناك شعوران طبعاني. أوّلاً، كنتُ شاهِداً. كان في داخلي انتظار، منذ سنوات، منذ أن رأيتُ البلد مُدمَّراً جرّاء الحرب ونتائجها. كان هناك أيضاً ترقّب لدى العراقيّين المسيحيّين الذين كانوا ينتظرون مبادرة قويّة من البابا، منذ أن زرتُ بلدهم كممثّل عن الحبر الأعظم سنة 2014. وأنا شاهد على هذه اللحظة المهمّة وعلى فرحهم الذي شاركتُ فيه. ثانياً، يُخالجني شعور رجاء: فهذه الأرض كانت أرض صراعات لامتناهية سواء كانت سياسيّة أو عسكريّة أو دينيّة… يسرّني للغاية أن تكون وجهة نظر أخرى قد أُعطِيت للعلاقات، وليس ضمن توتّر بين الأكثريّة والأقليّة بل في الاتّكاء والارتكاز على الحوار والاحترام والكرامة”.
من ناحية أخرى، ومقارنة بالفترة التي أتى خلالها فيلوني إلى العراق كسفير بابوي (2001)، تكلّم الكاردينال عن لقائه أشخاصاً عرفهم منذ عشرين سنة، لاسيّما فتاة كانت حينها مولودة جديدة وبدون ذراع. وشاهدها الكاردينال تكبر حتّى سنة 2006. أمّا هذه السنة، فقد رآها شابة على كرسي مُدولب، فيما البابا ألقى عليها التحيّة. وقال لها فيلوني: “أعرفك منذ صغرك، وتسرّني رؤيتك مجدّداً”. وأضاف خلال المقابلة: “تأثّرت لرؤية أنّها تحمل غنى كيانها حيث تعيش، على الرغم مِن إعاقتها”.
لكن ماذا عن الصدى الذي نقله البابا للكاردينال فيلوني خلال هذه الرحلة؟ شرح فيلوني: “في لحظة من اللحظات، كلّمتُ البابا الذي قال لي: “لقد قرأتُ كتابك”. وهذا أسعدني لأنّني أعتقد أنّ كتابي حول الكنيسة في العراق كان مرجعاً لمعرفة حياة هذه الكنيسة وتاريخها وجمالها. أتخيّل أنّ هذه الرحلة كانت بالنسبة إلى البابا أكبر رحلة تحمل معانٍ. لم تكن فقط رحلة رعويّة للمؤمنين الذين كانوا بحاجة إلى دعمه، بل رحلة إلى العالم المُسلم وإلى مكان الكِسر بين السنّة والشيعة، حيث مازالت الجراح حيّة. بدون الرغبة في إعطاء دروس لأحد، وبدون الإدلاء بخطابات كبيرة، كان البابا صورة. مع إبراهيم، وواضعاً نفسه حتّى قبل الانقسام، أظهر أنّ هناك جذراً يمكن أن نلتقي عنده لنتحاور. هناك طريق آخر بديل للانقسامات”.