يُطلعنا ثيودوريطُس أسقف قورش (393- 459) في كتابه “تاريخ أصفياء الله“ على الحياة الرّهبانيَّة في المنطقة الأنطاكيَّة من مطلع القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس، يُعتبر مؤلَّفه الَّذي كتبه في اللَّغة اليونانيَّة سنة 444، من بين الوثائق الأساسيَّة عن الحياة الرّهبانيَّة في المنطقة الأنطاكيَّة أو ما يُعرف بسوريا الشماليَّة.
يزودّنا ثيودوريطُس في كتابه المذكور بتفاصيل وافرة تخصُّ حياة النسَّاك الأنطاكيِّين الأُوَل؛ حول مسكنهم، وطرائق عيشهم، وصلواتهم، وتقشُّفاتهم، وأصوامهم، وزهدهم، ومعجزاتهم، وعلاقتهم مع السلطة الكنسيَّة، وحجّ المؤمنين إلى مراتع جهادهم، وموتهم، وإكرامهم، واصفًا فيه المزايا الرئيسة للنسك الأنطاكيّ، وعارضًا الحركة الرّهبانيَّة الَّتي كانت بارزة بنسَّاكها المتوحِّدين، وبالحياة الديريَّة، وإن كانت هذه الأخيرة في مراحلها الأولى…. كتابٌ يخبرنا فيه القورشيّ عن وجوهٍ متعدِّدة حوالى خمس وسبعين شخصيَّة رهبانيَّة، ومن بينهم، في الفصل الحادي والعشرين، “يعقوب القورشيّ“، تلميذ مار مارون. فيعقوب هذا، يُعتبر مع سمعان العموديّ الكبير، من بين أبرز المتوحِّدين في بلاد سوريَّا في النصف الأوَّل من القرن الخامس.
نخصُّ في مقالنا هذا “يعقوب القورشيّ تلميذ مار مارون“ بحسب كتاب “تاريخ أصفياء الله“. كان قدوم يعقوب لدى “مارون الملهم” (6/ 3) حوالى سنة 406، فتَتَلْمَذ على يده بالتزامن مع وصول ليمنايوس الَّذي “انتقل إلى جوار مارون العظيم” (22/ 2) بحسب شهادة أسقف قورش، ومن المرجّح أنَّ الناسكان قصدا هيكل بلدة كالوته، حيث أقام “مارون الشهير”، البعيدة 50 كلم عن مدينة قورش، والواقعة ضمن منطقة جبل سمعان (تلانيسيوس) حاليًّا، في بلاد سوريَّا الأولى، والَّتي كانت عاصمتها أنطاكيَّة.
يورد مؤلِفُنا في كتابه المذكور، في الفصل السادس عشر، سيرة “مارون الناسك”، الَّذي مات حوالى سنة 410، وذلك قبل أن يتسلَّم ثيودوريطُس زمام أبرشيَّة قورش الجبليَّة عام 423. يُطلعنا الأُسقف الشاب والغيور، أنَّ مارون الناسك جعل حقله “خصيبًا بالكثير من غروس الفلسفة. فكان هو نفسه الزارع لله في جوار قورش، ذلك الفردوس المزهر حتَّى الآن. وكان عملُه في هذه الزراعة على مثال عمل يعقوب العظيم، الَّذي سنأتي في ما بعد على ذكره. ومن ثمَّ يمكن أن يُطلق عليه بجدارة ذلك الصوت النبويّ: “الصِدّيق كالنخلة يزهر وكالأرز في لبنان ينمو (مز 91/ 13)” (16/ 3). ويخبرنا القورشيّ أنَّ براري تلك الأصقاع كانت مليئة من “نضارة الزهور الجميلة العطرة” (14/ 1)، أي إنَّها تفوح بفضائل النسّاك والزاهدين، الَّذين لمعوا كالكواكب بالتقوى. إضافةً إلى اهتمامات ثيودوريطُس الرعويَّة سيكون له اهتمامًا خاصًا برعاية هذا “البستان المزهر” والعناية بكلّ غرسة بمفردها، وبالأخصّ الناسّك يعقوب القورشيّ.
عرف ثيودوريطُس يعقوب شخصيًّا، وكان يزوره بتواتر، وكان هذا الناسك الشهير ينقطع عن “حبّه المفرط للوحدة والصمت” (21/ 32) تحيَّةً لزيارة الأسقف له. كان ثيودوريطُس يحترم يعقوب و”يجلّه” (21/ 31) ويهتمّ به بغيرةٍ فائقة، ويسهر على صحَّته، وكان إلى جانبه في أمراضه يُحدِّثه ويمازحه (21/ 6- 10)، ويلجأ إليه وقت المِحَنْ مستعينًا بصلواته وبركته، لا سيَّما قبل شروعه بمحاربة المرقيونيّين (21/ 15). أمَّا يعقوب فكان بدوره مطيعًا لثيودوريطُس، وينقاد لتوجيهاته، لا سيَّما في ما يتعلَّق “بمرونة نفسه في الحياة النسكيَّة” (21/ 11). وباحَ يعقوب لثيودوريطُس بأسراره الأكثر خصوصيَّة: أي رؤاه (21/ 19- 22)، وبما خصَّه الله به من نِعَمٍ، وبركاتٍ، وإلهامات. فعلاقتهما كانت روحيَّة متبادلة، مفعمة بالاحترام والودّ. وهذا يُظهر خضوع النسَّاك المتوحِّدين للتراتبيَّة الكنسيَّة، ومن أمانةٍ للنظام الكنسيّ، وللأُسقف بوجه خاص، كما هو الواقع اللَّافت لمن يُطالع كتاب “تاريخ أصفياء الله”.
نسج ثيودوريطُس، الآتي من أفاميا – عاصمة بلاد سوريا الثانيَّة – والمتمرِّس على الحياة الرّهبانيَّة المعتدلة، ضمن نظام مرقيانوس الراهب، علاقةً طيِّبة ومميَّزة مع النسَّاك والمتوحِّدين ضمن أبرشيَّته القورشيَّة، رغم أنَّهم يمثِّلون شكلًا آخر من الحياة الرّهبانيَّة، أكثر قساوةً وصرامةً وتقشُّفًا ممَّا اعتاد عليه. فهُم على مثال أبيهم ومدرِّبهم “مارون الإلهيّ” انتهجوا “النسك في العراء- إِبثريوس”، تحت قبَّة السماء، ويقول فيهم القورشيّ – في عرضه لأنواع الحياة النسكيَّة – أنَّهم: “قرَّروا أن لا يكون لهم مغارة، أو كهف، أو خيمة، أو صومعة. فعرَّضوا أجسادهم للأنواء الجويَّة المختلفة، فتارةً هم مسمَّرون تحت وطأة الصقيع، الَّذي لا يُطاق، وتارةً هم يلتهبون بأشعة الشمس. أخيرًا، إنَّ هناك تباينًا في معيشة هؤلاء أيضًا، فمنهم من ينتصبون دومًا واقفين، ومنهم من يقسمون أوقاتهم بين الوقوف والجلوس، ومنهم من يحتمون خلف سورٍ صغيرٍ يرفضون كلَّ معاطاةٍ مع الناس، ومنهم – وهم من دون حماية من هذا النوع – يتعرَّضون لمشاهدة جميع من يرغبون في ذلك” (27/ 1).
يعقوب الناسك، هو أوَّل النسَّاك الأحياء الَّذين يذكرهم ثيودوريطُس القورشيّ، وكان زيبيناس الناسك قد ألبس يعقوب أوَّل ثوبٍ من الوبر (24/3). بدأ يعقوب حياته كمتوحِّدٍ “في صومعةٍ صغيرةٍ بعيدًا عن الضوضاء الخارجيَّة، وصوَّب ذهنه نحو التفكير بالله فهيَّأ بذلك نفسه لممارسة قمَّة الفضيلة” (21/ 4). ومن ثمَّ اختار العيشة في الهواء الطلق (21/ 5)، يقاسي برد الشتاء وحرَّ الصيف مكرِّسًا ذاته بكليتها لله منتهجًا الصلابة مع الذات، ومختارًا دخول الملكوت من الباب الضيِّق، حاملًا صليبه متَّبعًا المسيح من دون أن يلتفت إلى الوراء، “واكتنز لذاته ثروةً طائلةً من الفضيلة في عَيشِه بأقصى الفقر” (21/ 31)، منعزلًا ومنقطعًا عن الناس في حياةٍ من صلاةٍ وتأمُّلٍ وتوبة، في الهدوء والسكينة، وممارسة الفضائل النسّكيَّة؛ من زهدٍ، وتقشُّفٍ، وصومٍ، تمثُّلًا بالمسيح المصلوب، الَّذي كان يُكرَّم على الجبال من قبل النسَّاك – بحسب قول ثيودوريطُس.
تلقَّن يعقوب تعليمه من “مارون الشَّهير”، وعايشه متتلمذًا على يده (21/ 3)، مختارًا الانضواء إلى مدرسته ونمطه النسكيّ الأكثر صرامة مع “اتِّزان عقله” (21/ 31) ومرونته في عيش الفضائل. وبعد أن تدرَّب يعقوب على الأسس السديدة لديه، تنسَّك على جبلٍ بالقرب من القورشيَّة (21/ 5)، وربَّما يدعى المكان “شيخ خورس”، وكان الموقع من دون حصن (21/ 32). لذلك كان يعقوب عرضةً لمرأى جميع المارَّة (21/ 4- 5). يخبرنا ثيودوريطُس أنَّ يعقوب “هو لسواه من النساك مثالٌ لتعاطي الفلسفة” (21/ 2)، وتفوَّق على مارون بطريقة عيشه في العراء بقوله:
“لكنَّ يعقوب قد تخلَّى عن هذه كلِّها: الخيمة والصومعة والحصن، ولم يحتفظ إلَّا بالسماء غطاءً له. فكان يتحمَّل تقلُّبات الجوّ على أنواعها. فتارةً، كنت تراه غارقًا في عاصفةٍ من المطر، ومرَّة مُجَمَّدًا بالصقيع والثَّلج وبالضدّ مشتعلًا وذائبًا تحت أشعَّة الشمس المُحرِقَة. وكان شجاعًا في جميع الأحوال وشتَّى الظروف، يجاهد في جسده كأنَّه جسد غيره ويحاول الانتصار على الطبيعة الجسديَّة بتجرُّدٍ كامل” (21/ 3)، ومرارًا كان يغطِّيه الثَّلج والناس يُخرجُونه منه (21/ 13).
مارس يعقوب أقسى التقشُّفات في عزلته؛ من لبس السلاسل الحديديَّة الَّتي أنهكته مريضًا وكانت تضغط على حقويه ورقبته (21/ 8)، وتطويل شعره كنذير للرَّبّ (21/ 27)، وتحريم نفسه من استعمال النار (21/ 11). أمَّا طعامه فكان ماء الشَّعير، وتناوُل شيئًا من العدس المغلي عند المساء (21/ 12). كلُّ هذه الممارسات من الفقر المدقع، إضافةً إلى العيش في الهواء الطلق، كانت بحدِّ ذاتها من أعمال التوبة العظمى الَّتي اتسم فيها نهج مارون النسكيّ وتلاميذه من بعده، ومن جملتهم يعقوب القورشيّ الَّتي “كانت عظيمة انتصاراته” (21/ 31)، بعد أن تَعِبَ بحياةٍ مليئةٍ بالجهاد الروحيّ.
أمَّا حياة يعقوب الروحيَّة فكانت مُتَّصِفَةً بالصَّلاة الدائمة الَّتي ما كان يقطعها إلَّا فضول الناس الآتين إلى زيارته وسماع إرشاداته والتبرُّك منه (21/ 5). هذا ما كان يُسبِّب له ضيقًا كثيرًا. فعبَّر عنه لثيودوريطُس، بعد أن فاتحه بانزعاج الناس الَّذين صَرَفَهُم من دون نيل بركته. فقال يعقوب: “إنَّني لم أنفرد في هذا الجبل لأجل غيري، بل لأجل نفسي، لأنِّي لمَّا كنت مُثخنًا برواسب خطاياي الكثيرة، فأنا بحاجةٍ ماسَّة إلى مداواتها… وعليه، أفليس من الغرابة، بل من الغباوة القصوى أن أتوقَّف في أثناء ذلك عن مناجاتي هذه كي أتحدَّث إلى الناس؟” (21/ 33). قصد المؤمنون الحجَّاج عزلة يعقوب في حياته وفق شهادة ثيودوريطُس بقوله: “الجميع يعتقدون اليوم أنَّ تلك الأرض لكثرة ما نالها من البركات قد استبدلت بأقدام الناس الآتين إليها من كلِّ صوبٍ للحصول فيها على النِّعَم” (21/ 4). فجاذب وخارق القدَّاسة هذا، جعل من مكان عزلة يعقوب محجًّا للمؤمنين الطالبين صلواته وبركته.
عاش يعقوب الناسك في عزلته متوحِّدًا مع الله، مستغرقًا بالصلاة والتأمُّل في “جمال الله” (21/25)، مأخوذًا به ومشدودًا إليه، ومأسورًا فيه، وملتهبًّا بحبِّه؛ وهذا ما يقوله ثيودوريطُس في معرض حديثه عن يعقوب الناسك: “فإنَّه أيضًا من ميزات المحبِّين أن يحتقروا كلَّ شيءٍ ما عدا حبيبَهم، فيمتزجون بشخص مَن يحبُّون فيعشقونه ويحلمون به في اللَّيل ويذكرونه في النهار”، وعلى هذا النحو كان يعقوب يغوص في “بهاء الحبيب” (21/ 34).
في عالم انغمس في الفراغ الروحيّ والضَّياع الشَّامل، والسَّير الحثيث نحو عبوديَّة المادَّة والتقنيَّة، يمثّلُ يعقوب القورشيّ الوجه الصافي لمدرسة مار مارون النسكيَّة القائمة على اتباع المسيح بالكامل، والتتلمُذ له والامتلاء من حبَّه؛ وجه النُّسكِ والصَّلاة الَّذي يُعيد إلى الانسان إنسانيَّته الَّتي تعرَّى منها ليضحي آلة مسخَّرة. لذا، يدعى يعقوب القورشيّ بحقّ “مُحِبٍّ لله”، لأنَّه جاهد على قدر قوَّته في سبيل تحقيق ملكوت الله في ذاته وفي العالم، شاقًّا الطريق إلى اكتشاف النَّفس الضَّائعة.