أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير وأهلًا وسهلًا!
أشكّر الكاردينال ساندري على كلمات التحية والتقديم. وأشكّر كلّ واحد منكم لحضوره، خاصة الذين أتوا من بعيد.
صلّيتم هذا الصباح أمام ضريح بطرس الرسول، وجدّدتم معًا الاعتراف بالإيمان وقلتم: ”أنت المسيح، ابن الله الحيّ“. وهو العمل الذي قمنا به قبل القداس في بداية حبريتي البابوية، لنظهر، كما قال البابا بنديكتس الخامس عشر، أنّ “كنيسة يسوع المسيح، ليست لاتينية ولا يونانية ولا سلافية، بل هي كاثوليكية، ولا تمييز بين أبنائها وأنّ جميع اللاتين واليونانيين والسلافيّين، والجنسيات الأخرى لهم نفس الأهمية” (رسالة عامة بابوية، العناية الإلهية، 1 أيار/مايو 1917). وبالتحدّيد هو، الذي كان مؤسس مجمع الكنائس الشرقيّة والمعهد البابوي الشرقي، نتذكّره بشكر، بعد مائة عام من وفاته. لقد استنكر وحشيّة الحرب ووصفها بأنّها ”مذبحة عديمة الجدوى“. بقي تنبيهه غير مسموع من قبل رؤساء الدول المشاركة في الحرب العالميّة الأولى. كما بقي نداء القديس يوحنا بولس الثاني غير مسموع لتجنّب الصّراع في العراق.
كما هو الحال في هذه اللحظة، حيث هناك الكثير من الحروب في كلّ مكان، ونداء كلّ الباباوات والرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة ما زال غير مسموع. يبدو أنّ أكبر جائزة للسّلام يجب أن تُعطى للحروب: تناقض! نحن متمسِّكون بالحروب وهذا أمر مأساوي. الإنسانيّة، التي تفتخر بالمضي قدمًا في العِلم، وفي الفكر، في العديد من الأمور الجميلة، تتراجع في نسج السّلام. البطل هو من يصنع الحرب. وهذا يجعلنا جميعًا نشعر بالخجل. علينا أن نصلّي ونطلب المغفرة لهذا الموقف.
كنا نأمل ألّا تكون هناك حاجة لتكرار كلمات مماثلة في الألفيّة الثالثة، ومع ذلك لا تزال البشريّة تبدو وكأنّها تتلمس طريقها في الظلام: لقد شهدنا مذابح الصراعات في الشرق الأوسط وسوريا والعراق، والذين يعيشون في منطقة تيغراي الإثيوبية، وهناك رياح مهددة ما زالت تهب على سهوب أوروبا الشرقية، وتشعل فتيل ونيران السلاح، وتترك قلوب الفقراء والأبرياء شديدة البرد- لكن هؤلاء لا يُحسَب لهم حساب. وفي هذه الأثناء تستمر مأساة لبنان التي تترك الآن الناس الكثيرين بلا خبز، الشباب والكبار فقدوا الأمل وغادروا تلك الأراضي. ومع ذلك، هذه الأراضي هي البلد الأم للكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة: فقد نمت هناك تقاليد ألفية، وتمّ الحفاظ عليها، والعديد منكم، أعضاء هذه الدائرة الكنسيّة، أنتم أبناء هذه الأراضي وورثتها.
لذلك فإنّ حياتكم اليومية تشبه مزيجًا من غبار الذهب الثمين الذي هو ماضيكم ومن شهادة الإيمان البطولي للكثيرين في الوقت الحاضر، جنبًا إلى جنب مع هوان البؤس الذي نتحمل مسؤوليته أيضًا والألم الذي يتسبّب لكم من قبل القوى الخارجية. مرة أخرى، أنتم بذور موضوعة على سيقان وأغصان نباتات عمرها قرون، تحملها الرياح إلى حدود لا يمكن تصورها: عاش الكاثوليك الشرقيون في قارات بعيدة منذ عقود، وقد عبروا البحار والمحيطات وعبروا السهول. وقد أُنشئت الأبرشيات في كندا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينيّة وأوروبا ومناطق المحيط الأطلسي، والعديد من الأبرشيات الأخرى، وعُهد بها، على الأقل في الوقت الحالي، إلى الأساقفة اللاتين الذين ينسقون العمل الرعوي من خلال الكهنة المرسلين وفقًا للإجراءات الصحيحة من قبل رؤسائهم الكنسيّين، البطاركة أو الأساقفة الأعلَيْن أو المتروبوليت ذوي الحقّ الخاص.
لهذا السبب تناولت أعمالكم موضوع البشارة، التي تكوِّن هوية الكنيسة في جميع أجزائها، بل هي دعوة كلّ معمَّد. ومن أجل الرسالة يجب أن نزداد إصغاء إلى غنى التقاليد المختلفة. أفكّر، مثلًا، في مسيرة الموعوظية للبالغين، التي تنّص على الاحتفال بأسرار التنشئة المسيحية المقدسة في شكل موحد: وهي عادة حافظت عليها ومارستها أيضًا الكنائس الشرقيّة للأطفال. في كِلا المسارين، تُرَى أهمية كرازة أسرارية حكيمة التي يجب أن ترافق المعمدين في كلّ عمر من أجل انتماء ناضج وفرِح إلى الجماعة المسيحية. في الكنيسة اللاتينية، نفتقر إلى هذا التّعليم الأسراري. على هذا الطريق، الخدمات المختلفة في الكنيسة ثمينة، وكذلك الانسجام في العلاقات مع الرهبان والراهبات الذين يعملون وفقًا لمواهبهم المناسبة حتى في إطار كنائسكم أيضًا. لقد ركّزتم على كلّ هذه الجوانب في هذه الأيام.
هناك خبرة تمَكِّنُ ”جِبلَةَ“ إنسانيّتِنا من أن تتكوَّن، وذلك ليس بالآراء المتقلبة، ولا بالتحليلات الاجتماعية الضرورية، بل بكلمة الله وبروح المسيح القائم من بين الأموات. هذه الخبرة هي الليتورجيا. وهذا أيضًا يجعلنا نفكّر في السير معًا في السينودس، بل في المسار السينودي. المسار السينودي ليس برلمانًا، لنقولَ بعضُنا لبعضنا آراء مختلفة، ثم نلخِّص ونصوِّت. لا. المسار السينودي هو السير معًا تحت إرشاد الرّوح القدّس، وأنتم، في كنائسكم، لديكم سينودسات، وتقاليد سينودية قديمة، وأنتم شهود على ذلك. في المسار السينودي، يوجد الرّوح. وعندما لا يوجد الرّوح، فهناك برلمان أو استطلاع رأي، لكن ليس سينودس. هذه الخبرة – قلتُ – هي السماء على الأرض، وهذا يقال في الليتورجيا، كما يحبّ الشرق أن يكرّر. لكن جمال الطقوس الشرقية بعيد كلّ البعد عن كونِه واحة للهروب أو للمحافظة. الجماعة الليتورجية تُعرَفُ ليس لأنّها تدعو نفسها إلى الاجتماع، بل لأنها تستمع إلى صوتِ آخر يدعوها، هو الله، وتبقى الجماعة متوجهة إليه، ولهذا السبب بالتحدّيد تشعر بالحاجة الملحة إلى أن تذهب إلى الأخ والأخت لتحمل لهما بشرى المسيح. حتى تلك التقاليد التي تحافظ على استخدام الأيقونسطاس، مع الباب الملكي، أو الحجاب الذي يخفي الهيكل المقدس في بعض لحظات الطقوس، تعلّمنا أن هذه العناصر المعمارية أو الطقسية لا تحمل فكرة بُعدِ الله، بل على العكس، إنّها تمجّد سرّ التنازل (syncatabasi) الذي فيه جاء الكلمة، وجاء إلى العالم.
المؤتمر الليتورجي، للاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للتعليم في تطبيق التعليمات الليتورجية لمجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، هو فرصة للتعرّف بعضُنا على بعض داخل اللجان الليتورجية لمختلف الكنائس ذات القانون الخاص، إنّها دعوة إلى السير مع رئيس هذه الدائرة الكنسية (Dicastero) ومستشاريه، حسب المسار الذي حدّده المجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني. في هذه المسيرة، من المفيد أن يبقى كلّ مكوِّنٍ للسيمفونية الواحدة في الكنيسة الكاثوليكية دائمًا في حالة إصغاء إلى التقاليد الأخرى، وإلى أبحاثهم وإصلاحاتهم، وفي الوقت نفسه يحافظ كلّ واحد على أصالته. الأمانة للأصالة هو ما يكوِّن غنى الكنائس الشرقية السمفوني. على سبيل المثال، يمكننا أن نسأل أنفسنا عن إمكانية إدخال طبعات ليتورجية بلغات البلدان التي انتشر فيها المؤمنون، ولكن في الاحتفال من الضروري أن نعيش الوَحدة وفقًا لما أقرته السينودُسات والموافق عليها من قبل الكرسي الرسولي، وتجنب الخصوصيات الليتورجية التي تُظهر في الواقع انقسامات من نوع آخر داخل الكنائس المعنية. علاوة على ذلك، لا ننس أنّ الإخوة من الكنائس الأرثوذكسيّة والأرثوذكسيّة الشرقيّة ينظرون إلينا: حتى لو لم نتمكّن من الجلوس على نفس المائدة الإفخارستيّة، فإنّنا نحتفل دائمًا ونصلّي بنفس النصوص الليتورجيّة. لذلك لنتنبّه إلى التجارب التي يمكن أن تضر بالمسيرة نحو الوَحدة المرئيّة لجميع تلاميذ المسيح. يحتاج العالم إلى شهادة الشركة: إن قدمنا الشكوك والعثرات بالنزاعات الليتورجيّة – وللأسف كان هناك بعض منها مؤخرًا -، فإنّنا ندخل في لعبة من هو معلّم الانقسام (أي الشيطان).
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أشكّركم على عملكم في هذه الأيام. أنا دائمًا قريب منكم في الصّلاة. بلِّغوا تشجيعي وبركتي إلى مؤمنيكم. ومن فضلكم لا تنسَوا أن تصلّوا من أجلي. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022