نعالج في هذه المقالة موضوعًا جديدًا حول القدِّيس شربل، تحت عنوان: “نَسْرٌ محلِّقٌ في فضاء النُّسك”، إستقينا هذا العنوان عن لسان مؤرِّخ الرَّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة، الأب لويس بليبل، في الحوار الَّذي دار بينه وبين الخوري منصور عوَّاد، في طريقهما، سيرًا على الأقدام، نحو دير مار مارون – عنَّايا (الخوري منصور عواد، بركة عن قبر القدّيس شربل، ط 3، 2011، ص 165).
النَّاسك أو الحبيس، هو مَنْ رَغِبَ في حياة التوحُّد والعزلة، والانفراد، وسَمحَ له رؤساؤه أن يحبس نفسه في مكان جغرافيّ مُحَدَّد، يُدعى المحبسة أو الصومعة، عائشًا ضمن حصنها وسورها، وفق أنماط وطرق نسكيَّة توحُّديَّة، أقرّتها الكنيسة باختبارها الطّويل، تُعرف بقوانين الاستحباس.
ينقطع الحبيس عن العالم، ويتغرّب عنه كوسيلة أساسيَّة في سعيه إلى الخلاص، بجهاده المستمرّ وكفاحه ضدّ روح الشرّ (أف 6/ 10- 18) في حياة من صلاةٍ وتوبةٍ، ورجوعٍ إلى الله، وانفتاحِ القلب على كلمة الله، والتأمّل في الأسرار الإلهيَّة، في جَوٍّ من الهدوء والسَّكينة والصَّمت، وممارسة السّجود (المطانيّات)، وسهر الليالي الطوال تَعَبُّدًا، والقيام بالأعمال النسكيَّة المتعبة، من زهد، وتقشّف، وإماتة وصوم وعمل، وقهر النفس وضبط ميولها ونكران الذات، والتزام العفّة والتخلِّي عن الممتلكات، في سبيل التحرّر من ثقل المادّة، وعبوديَّة الأهواء الكامنة في الذات الإنسانيَّة.
يبحث الحبيس عن الله، باتّباع المسيح “المطلوب الأوحد” (لو 10/ 42)، في فقره ووداعته وتواضعه، ويسعى إلى الاتّحاد بالله، والارتقاء نحو الإلهيّات، والبلوغ إلى “ملء قامة المسيح” (أف 4/ 14)، والاستغراق فيه، ملتهبًا بالحبّ الإلهيّ.
يندرج القدِّيس شربل، ضمن حلقة من سلسلة الرُّهبان اللُّبنانيّين الموارنة، الَّذين اختاروا “العيشة الانفراديَّة” منذ سنة 1716، على ما يذكر المطران عبدالله قراعلي، أحد مؤسِّسي الرهبانيَّة، في مذكَّراته عن الرَّاهبَين أنطونيوس بن شوشان، وأنطونيوس بن مبارك، اللَّذَين أقاما في محبسة مار بولا – قزحيَّا، إذ ضيّق عليهما القانون، وأعطاهما الكرم الَّذي بجانب المحبسة، كي يقاتلا الضَّجَر والبطالة، واضعًا لهما أسس الحياة النُّسكيَّة وقواعدها. وهذه القوانين، الَّتي وضعها عبدالله قراعلي، ضُمَّتْ إلى قوانين الرَّهبانيَّة سنة 1732 (المعروفة بالقانون الأسود)، في القسم الثاني، الباب الثالث عشر، وهناك ثلاث عشرة فريضة وضعها النائب العامّ الأب إغناطيوس بليبل سنة 1810، إضافة إلى قانون تقليديّ في ستّة بنود. سار القدِّيس شربل في المحبسة، بموجب هذه القوانين والفرائض بدقّة فائقة، فكان “القانون متجسِّدًا فيه”، بحسب شهادة الأخ الياس المهريني.
نشر الأب ليباوس داغر سنة 1923، كتابًا أسماه “كشف الخفاء عن محابس لبنان والحبساء”، وقد أعاد نشره الأب جوزف قزّي سنة 1988، ضمن سلسلة التراث المارونيّ رهبانيّات – 4 (مركز النشر والتوزيع الكسليك)، يُعتبر هذا الكتاب مرجعًا أساسيًّا، لمعرفة حياة الاستحباس والحبساء والمحابس في تراث وتاريخ الرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة، ومن بينهم محبسة مار بطرس وبولس – عنَّايا وحبساؤها. قطن هذه المحبسة أحد عشر حبيسًا، كان باكورتهم الأب إليشاع الحردينيّ (1831- 1875)، وألمعهم شهرةً القدِّيس شربل، وبعد موته غدت تلك القِمَّة مع دير مار مارون – عنَّايا، مَحَجًّا ومزارًا وخزّانًا للطاقة الروحيَّة، يقصدها المؤمنون طالبين شفاعته وبركته.
بنى المتعبِّدان يوسف أبي رميا، وداود بن موسى عيسى خليفة محبسة عنَّايا، سنة 1798، في محلَّة تدعى الرويس، وهي إلى الغرب من بلدة إهمج. وهي تتألّف من معبد على اسم الرَّسولَين بطرس وبولس، وسِتْ قلالي (غرف)، إضافةً إلى مطبخ وبئر ماء. وَقَفَ العابدان المكان للرّهبانيَّة بعد أن نذرا فيها، ودخلا في شركتها الروحيَّة سنة 1814، في عهد الأب العامّ إغناطيوس بليبل (1811- 1832)، بموافقة البطريرك يوحنّا الحلو (1809- 1823). إلى تلك البقعة النائية من الأرض، حيث اللقاء باللّه، ومكان المحنة والصراع والتجارب مع قوى الشرّ، رحل الأب شربل بقاعكفرا ليعيش عيشة النسّاك أبطال الفضيلة، مُمْتَثِلًا لروح الله، الَّذي يحييه ويلهمه ويوجّهه، على غرار كثيرين مِمَّنْ عطَّروا الجبال والأودية والبراري، بحسن سيرتهم وقداستهم، وَوَلَعِهِم باللّه.
سِيمَ الأب شربل بقاعكفرا كاهنًا في 23 تمّوز 1859، ومن ثمَّ عُيِّنَ في دير مار يعقوب النَّصيبينيّ – دوما، حيث كان ابن عمّته عبوديَّة الأب أفرام بقاعكفرا رئيسًا على الدير (1856-1859)، وبعدها انتقل إلى دير مار مارون – عنَّايا حوالى بداية عام 1860، وكان مثالًا في المحبَّة الأخويّة، وقدوة للرهبان في حفظ القوانين والفرائض الرّهبانيَّة، وبعد جهاد طويل في العيشة الديريَّة، لبَّى نداء الربّ بدخوله محبسة مار بطرس وبولس- عنَّايا، في ربيع صيف سنة 1875، بعدما توفّي الحبيس الأب إليشاع الحردينيّ في 13 شباط من تلك السنة.
عَرَفَ الأب شربل بقاعكفرا، الحبيس الأب إليشاع الحردينيّ المشهور بعلمه وفطنته وقداسة سيرته، فكان يتردّد عليه، ويستمع إلى إرشاداته ونصائحه حول مراقي مراتب الكمال في السيرة النسكيَّة، آخذًا عن فضائله الكثير من المآثر، كما عن شقيقه القدِّيس نعمة الله الحردينيّ الَّذي عرفه في دير كفيفان.
دخل الأب شربل المحبسة – تلك الأرض المقدّسة، زمان رئاسة الأب الياس المشمشانيّ على دير مار مارون – عنّايا، أحد رفاقه في مدرسة دير كفيفان، وفي مدَّة رئاسة الأب العامّ أفرام جعجع البشرّانيّ على الرّهبانيَّة. بهذا الصّدد يقول الأب أنطونيوس شبلي، جامع آثار القدِّيس شربل، إنّه: “بعد أن قضى في الدير (عنَّايا) نحو خمس عشرة سنة، بممارسة الفضائل الرّهبانيَّة، ألهمه الله أن يطلب من رؤسائه الرّخصة في سكنى محبسة عنَّايا” (شبلي، الأب أنطونيوس، مجلّة المشرق، 1922، ص 294)، فأجاب الرؤساء طلبه لسموّ فضائله، ففرح فرحًا عظيمًا، مُحَقِّقًا مشتهى قلبه والدعوة الَّتي كانت تملأ كيانه، فدخل المحبسة مجتازًا باب وحدته رافعًا وراءه جسر العبور. وكان قد سبقه إلى حياة الاستحباس، خاله الأب دانيال البشرّانيّ، بعد الثاني من شهر تشرين الثاني سنة 1874، وقبل الثامن من شهر شباط سنة 1875، ومن ثمَّ عاد وتبعه شقيقه الأب أغسطين البشرّانيّ. إستحبسا معًا في محبسة مار بولا – قزحيّا، وارتقيا إلى سلّم الفضائل وأعلى درجات البطولة.
إِستحبس القدِّيس شربل ثلاثًا وعشرين سنة (1875-1898)، قضاها في عيش النُّسك، بموجب قوانين وفرائض وعوائد الرهبانيَّة، وعُرف عنه إلتزامه الكامل بقانون الحبساء، مدبِّرًا حياته تحت نظر رئيس الدير وإرشاده وطاعته، وما كان يخرج من المحبسة إلَّا بطلب منه للخدمة في الدير، أو لزيارة أحد المرضى والصلاة لأجلهم.
واصل الأب شربل جهاده ومساره الروحيّ، وبناء إنسانه الباطنيّ يومًا فيومًا (2 كور 16/ 4)، وارتقاء سلّم الكمال الرهبانيّ، مركِّزًا حياته في السَّعي إلى اقتناء الفضائل، وتنقية الذات من شوائبها، باحثًا عن وجه المسيح، في حياةٍ مليئة بالتقشُّف والزهد والإماتة وشظف العيش. تمحورت حياة القدِّيس شربل في المحبسة على الصلاة، إذ كان يصرف أغلبيّة أوقاته في الكنيسة، لا يشبع من الصلوات في مواعيدها ومن التأمّلات، في كمالات الله (الصلاة العقليّة) رافعًا عقله (ذهنه) وأفكاره إلى الله، إضافةً إلى بعض العبادات كزيارة القربان، مناجيًا محبوبه قلبًا إلى قلب، وتلاوة ورديَّة العذراء مريم، الَّتي حفظ لها إكرامًا خاصًّا طوال حياته، وغيرها من التقويات.
بعد صلاة نصف الليل، كان يركع الحبيس، الأب شربل، على طبق من قصب، ملفوفٍ بقماش عباءة قديمة، منتصبًا فاتحًا ذراعيه بحالة من الجموديَّة، متابعًا صلاته العقليَّة طوال الوقت الباقي من الليل، وفق عادة الإسكيميّين والنسَّاك في التقليد المارونيّ، على ما يذكر (“كتاب الهدى“، الأب بطرس فهد، حلب 1935، ص63-64)، مترقّبًا بفرح مجيء الربّ مَتَى يأتي في “صباحه العظيم”، راسمًا في ذاته صورة المسيح.
عمل القدِّيس شربل مع إخوته الرهبان، في أراضي الدير، وكرم المحبسة ومعصرته، وفي الفرن، وتأمين الحطب وحمله على ظهره. فكان عاملًا نشيطًا مجتهدًا وغيورًا على أرزاق الرّهبانيَّة. مدركًا أنَّ الحياة الرّهبانيَّة والنسكيَّة تقوم على “الصلاة والعمل”، على ما جاء عنه في شهادة داود جبرايل داود أمام الأب أنطونيوس شبلي: “كان (الأب شربل الحبيس) يصلّي كثيرًا، راكعًا منتصبًا أمام القربان المقدّس، ومتى فرغ من صلاته، يزاول الشغل اليدويّ، في كرم المحبسة. وهكذا كانت حياته فيها: صلاة دائمة، وتقشُّفات متواصلة، وشغلًا يدويًّا، وصمتًا تامًّا، وقراءة روحيَّة”.
ثابر الأب شربل – “بطل التقشُّف”، طوال حياته في المحبسة على الصوم والقطاعة، فكان لا يأكل إلَّا وجبة واحدة بعد الظهر، مقتصرة على بعض الحبوب والبقول، بحسب قانون الحبساء. أمّا كسوته فكانت لبس المسح، والحديد الشائك على خصره، والزيّ الرهبانيّ البسيط والنظيف. إكتفى القدِّيس شربل بالقوت والكسوة الضروريَّين لقيام حياته (1 تيم 6/ 7- 9)، فقيرًا متجرِّدًا عن كلّ شيء. أمّا فراشه فكان عبارة عن بابٍ من خشب، عليه بساط من شعر الماعز، ووسادة من قطعة ثوبٍ رهبانيّ عتيق محشوَّةً خرقًا، وغطاؤه ثوبه الرهبانيّ، وينام أقل من خمس ساعات.
لفَّ صمت داخليّ عميق حياة القدِّيس شربل، فلم يكن يُسمع صوته، أو يتلهَّى مع زائرٍ منقطعًا عن معاشرة الناس، ولا يحادث أحدًا بأمورٍ عالميَّة، بل كان صموتًا قليل الكلام، يُجيب متى سُئِلْ بهدوءٍ ولطف، وبصوتٍ خافت، وبكلماتٍ قليلةٍ ضروريَّة، فتخاله على الأرض، ولكنّ نفسه وفكره في السماء في عالم الأبد، منشغلًا قلبه بالربّ وحده، في عهدِ حُبٍّ أبديّ لا شريك فيه …
كثيرون قصدوا القدِّيس شربل في محبسته، طلبًا للاعتراف والصلاة من أجل مرضى النّفس والجسد، فكان يشفي هذا من خطيئته وفتوره، وذاك من سقمه ومرضه، “بعلاج واحد هو الصلاة”، على مثال القدِّيس مارون. وبهذا الصّدد يقول الأب بولس السبرينيّ: “كان يقصده من كلّ النواحي أهل الأمراض، وأصحاب العاهات والحزانى، وكلّ من ألَمّت به مصيبة طلبًا لنعم الله على يده، لاعتقادهم بصلاحه، وبأنَّ الله يستجيبه”.
بحث القدِّيس شربل طوال حياته، عن “الكنز” المخفيّ بحقل ذاته (مت 13/ 44- 46)، فوجده تاركًا كلّ شيء متَّبعًا المسيح، إلى حيث قلبه (مت 6/ 21)، إلى حياة العزلة في المحبسة، تلك البرِّيَّة الموحِّشة والمؤنسة في آنٍ، منتظرًا بلوغ الكنز المحفوظ له السماء (مت 6/ 20).
أعطى القدِّيس شربل، كيانه وذاتيَّته لله بحبّ كامل، وجود سخاء، محقِّقًا إرادة الربّ بتقديس ذاته وبلوغه الكمال. تناهى القدِّيس شربل إلى ذروة اللقاء باللّه، بعد أن تنقّى، وتطهّر، واستنار، ووصل إلى المشاهدة الإلهيَّة “وجهًا لوجه مع الله” (خر 33/ 11)، بحالة من الانخطاف بالربّ، والانشغاف به، والذهول بسرّه.
القدِّيس شربل، “أعجوبة النسّاك”، يذكّرنا “بما نقرأه في الرّهبانيَّة عن حياة الآباء الأقدمين المدرجة في كتاب “بستان الرُّهبان“، وهي حياة عجيبة سماويَّة”، وفق قول الأب لويس بليبل في حواره مع الخوري منصور عوَّاد (بركة عن قبر القدِّيس شربل، ص 165).