مرَّت ثلاثمائة سنة (1721- 2021) على تأليف كتاب “المصباح الرُّهبانيّ في شرح القانون اللّبنانيّ” للمطران عبدالله قراعلي (1672- 1742).
كتب قراعلي هذا الكتاب حين كان مُقيمًا في دير مار أنطونيوس، في وادي قزحيّا، لفترةٍ مِنَ الزّمن. وجاءت مناسبةُ كتابته تلبيةً لرغبةِ الرُّهبان. علمًا أنّ القانون المعنيّ بالشرح هو من تأليف عبدالله ورفاقه، أثبته البطريرك إسطفانوس الدّويهيّ في 18 حزيران سنة 1700.
يتألَّف هذا القانون من خمسة عشر فصلًا، أُضيفَ إليها في ما بعد فصولٌ ثلاثة، ليصبح مجموعها ثمانية عشر. تتألَّف هذه الفصول من بنودٍ صغيرةٍ ومقتضبة، لذلك كان من الضّروريّ شرحها لسبرِ غَوْرها.
جاء تقسيمُ الكتاب مُطابقًا لتقسيم القانون وفصوله الثمانية عشر. وقد يكون مضمونه كناية عن مجموعة محاضراتٍ تثقيفيَّة روحانيَّة، أَلقاها عبدالله على الرُّهبان في فترةِ رئاستِهِ العامّة على الرَّهبانيَّة (1700- 1716).
يوضحُ قراعلي في مقدّمة كتابه أنَّه أعطاه عنوانًا: “المصباح الرُّهبانيّ في شرح القانون اللّبنانيّ”، من حيث أنَّ الرَّاهبَ “المستضيء بشمس المعرفة، وعمل النّجاح، لا يحتاج إلى المصباح”. ويُضيف: “فعليكَ، أيُّها الـمُتَسَكِّعُ بظلمةِ نقصِ المعرفة، الأُنسَ بضوئِهِ والتّأمُّلِ برسومِهِ ومدلولِهِ. فإنَّكَ تجدُ فيه كفايتك الملائمة رتبتك، ومنهُ تتنسَّمُ نسيمَ الرّهبنة، وتطلّعُ على ما يلزم غايتك”.
إنَّ قراعلي الـمُتَعَمِّق في كتابات الآباء، شرقًا وغربًا، والمتشرِّب الرّوحانيَّة النُّسكيَّة، والنّاهل مِنَ الكتاب المقدَّس، والخبير بواقع الحياة الرّهبانيَّة القائمة في لبنان، صاغ من هذه الأمور مجتمعةً شرحًا بمثابة مصباح. يهدفُ هذا المصباح إلى إيضاح مضمون فرائض القانون وتسهيل معرفة غوامضه وبلوغ الكمال.
إعتبر توما اللَّبُّوديّ، تلميذ قراعلي، أنَّ مضمون كتاب “المصباح الرُّهبانيّ“، جاء مُطابقًا لسيرة مُعلِّمه، وبذلك تمَّ فيه ما قاله الرَّبُّ يسوع: “مَن يَعمَل ويُعلِّم فهو يُدعى كبيرًا في ملكوتِ السَّماوات” (متّى 5/19). ويؤكِّد جبرائيل (جرمانوس فيما بعد) فرحات في تاريخ الرَّهبانيَّة، أنَّ عبدالله كان يرعى الرّهبانيَّة بمروج عَمَلِه أَكثر مِنْ عِلْمِه، أي كان قُدْوَةً ومثالًا للرُّهبان بحفظ القانون وعيش مستلزمات الحالة الرّهبانيَّة.
على غرار شهادة معاصري قراعلي، إنَّنا نعتبر أنَّ كتاب “المصباح الرُّهبانيّ“، هو شرحٌ وافٍ لقانون الرَّهبانيَّة، ترتسمُ فيه معالِم روحانيَّة الرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة. ويتَّسمُ هذا الشّرح بأسلوبٍ بسيطٍ ومُسهَب، يستنيرُ بموجبه الرّاهب في كيفيَّة التَّمرُّس على حياةِ الرّهبنة وطريق الكمال والتَّوق إلى الله والاستغراق فيه، والعيش وفق الرُّوحانيَّة والطّريقة الرُّهبانيَّة بحياةٍ مِنْ وَلَعٍ وَوَلَهٍ بالله.
قسَّم عبدالله قراعلي الحياة الرّوحيَّة في مسيرة الرَّاهب إلى ثلاث درجات، وهي: “بتعب كثير”، “بتعب قليل” و”من دون تعب”. تهدفُ هذه المراحل عَبْرَ التّدرُّج في السّلّمِ الرّوحانيّ، إلى تحرير الذّات من الميول وإعادتها إلى صورة الله، وبذلك يعيش الرّاهب بطمأنينةٍ وسلامٍ، وفرحٍ روحيّ، ومَسَرّةٍ بالحُبّ، مُعيدًا في شخصه الفردوس المفقود، وفق قول عبدالله في خاتمة الكتاب “إنَّ الرّهبنة تُشاكِلُ الفردوس”، ويُضيف بأنَّها “صورة الملكوت” و”القُرب إلى الله”.
نظرًا لما تقدَّم، فإنَّنا نعتبرُ أنَّ هذا الكتاب، يشكِّلُ حتَّى يومنا، مصدرًا مُؤسِّسًا لروحانيَّة الرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة، ومُلهِمًا ناشئتها في “التّعليم الرّهبانيّ”، يُسانده مؤلَّفاتٌ أُخرى وضعها الرُّهبان أمثال: “كتاب التّعليم الرّهبانيّ” للأب يواكيم بلاديوس اللّبنانيّ، كتاب “المحاورات الرّهبانيَّة” للمطران جرمانوس فرحات … وكُتبٌ أُخرى وضعها أو عرّبها المؤسّسون وتلامذتهم من الرُّهبان.
رغم أهمِّيَّته العُظمى، بقي هذا الكتاب مخطوطًا حتَّى عام 1956، إذ اعتنى حينها الأب جرجس موراني الحلبيّ اللّبنانيّ بطبعه إستنادًا إلى مخطوطة OR 03/Rm، المحفوظة في دير مار أنطونيوس- روما للرّهبانيَّة المارونيَّة المريميَّة (حملت قديمًا الرقم 83)، وهي بقلم الـمُؤَلِّف والعائدة إلى سنة 1721، وذلك بمناسبة المئويَّة السّادسة عشرة لوفاة القدِّيس أنطونيوس الكبير أبي الرُّهبان (356- 1956).
بمطالعتنا لكتاب “المصباح الرُّهبانيّ“، عصارة الحياة الرّوحيَّة في التّراث الرُّهبانيّ في الكنيسة المارونيَّة، نعود إلى الأصالة الرّهبانيَّة الَّتي رسمها لنا عبدالله قراعلي، والَّتي عاش بموجبها طغمة من قوافل الرُّهبان والنُّسّاك في الرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة عبر تاريخها، الَّذين أَغنوا بدورهم تراث الكنيسة الرُّهبانيّ والنُّسكيّ، ومن بينهم القدِّيسين: شربل، رفقا، نعمة الله وإسطفان وغيرهم من أبناء الرَّهبانيَّة، الَّذين استناروا في مسيرتهم الرُّوحيَّة وجهادهم على هُدَى مصباح كان نورًا لسبيلهم ومُرشدًا في تطلُّعهم نحو قِمَمِ الرُّوح، ومُرتقى الحُبّ.