Pixabay CC0

كلمات يسوع السَّبع على الصّليب

أبتِ، إغفر لهم، لأنهّم لا يدرونَ ما يفعلون!” (لوقا 23/ 34)

Share this Entry

مقدّمة

 

سبعُ كلماتٍ تلفَّظ بها الرَّبُّ يسوع على الصّليب، في آلامه، وكانت كُلُّها حياةً لنا. لم يتكلَّم أثناء المحاكمة، ولا أثناء التَّعذيب والاستهزاء إلَّا نادرًا، لأنَّ هناك غلب عليه الصَّمت إذ تنازل عن كرامته وحقّه. أمَّا على الصَّليب فتكلَّم من أجلنا. وكان لكلّ كلمةٍ هدفٌ ومعنًى.

نلاحظ في كلمات يسوع على الصَّليب عنصر العطاء. عجيبٌ يسوع، وهو في مظهر الضُّعف والانهزام، يعطي المغفرة لصالبيه، والفردوس للّص، وابنًا روحيًّا ورعايةً للعذراء، وبركةً ليوحنَّا أن يأخذ مريم إلى بيته، وأعطانا اطمئنانًا على تمام الخلاص. قدَّم لنا كلَّ شيء في الوقت الَّذي لم يقدّم له البشر سوى مرارةً وخلَّا.

ألـمُلفِتُ للنَّظر أنَّ الكلمة الأولى والأخيرة موجَّهتان إلى الآب، وموضوعهما المغفرة والرّعاية. فالمسيح على الصّليب كان يعمل لأجلنا ليس فقط عمل الفداء، بل كان يصنع الخير لكلّ إنسان.

في كلمته الأولى أعطانا تعليمًا عمليًّا عن المسامحة، والمغفرة، ومحبَّة الأعداء. وفي كلمته الأخيرة “في يديكَ أستودع روحي”، أعطانا تعليمًا في انتقال النَّفس بعد الموت إلى الله. وفي كلمته الثَّالثة أعطانا تعليمًا عن الرّعاية الحقَّة، وعن التَّنفيذ الصَّادق العمليّ للوصيَّة الخامسة بإكرامه لأمّه.

يكفي أن يكون عدد هذه الكلمات “سبعة”، العدد الَّذي يرمز إلى الكمال. فلننتقل الآن إليها لنتأمَّل فيها واحدةً فواحدة.

 

“أبتِ، إغفر لهم، لأنهّم لا يدرونَ ما يفعلون!” (لوقا 23/ 34).

فاه ربّنا يسوع من على صليبه بهذه الكلمات، وهو مسمَّرٌ بالأوجاع والآلام “أبتِ، إغفر لهم، لأنهّم لا يدرون ما يفعلون!” (لوقا 23/ 34)يسوع لا يعرف أيَّ شعور بالحقد تجاه صالبيه، بل طلب لهم الغفران؛ إنّه مدرسةٌ في الغفران والتشفّع إلى الله تجاه مَن أساء إليه. لذلك شريعة يسوع ليست كبريتًا ونارًا ينزلهما من السماء على الأرض، بل المسامحة والرحمة والمحبّة الَّتي لا تعرف الحدود، ولا تدخل في مقاييس البشر. هويّة المحبَّة في منطق يسوع، أن لا نحبّ من يحبّنا وحسب، بل أن تكون المحبّة متَّجهة نحو مَن لا يحبّنا؛ وهنا تكمن صعوبة العيش بالمحبَّة؛ يقدّم لنا يسوع بدوره حلًّا لهذه الصعوبة المعضلة بقوله: “إغفر لهم يا أبتاه”، والحلّ يكمن في قوله: “إنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”، أي أن يحاول الإنسان فهم الآخر، وهكذا تكون المحبَّة كاملة وشاملة ومجّانيَّة.

كم هو جميل موقف يسوع من أعلى الصّليب، مُتَّهمٌ كمُجرِم يُصدِر كلمة العفو الملكيّ. كلمة قالها يسوع كخَتْمٍ عمليّ لكلّ ما علَّم به عن الصَّفح والغفران. من هنا ما علَّمه يسوع عن الغفران يُطبّقه على نفسه؛ ألم يُعلّمْنا في الإنجيل: “إن كنتَ تُقدّم قربانك على المذبح وذكرت أنَّ هناك لأخيك عليكَ شيئًا إذهب صالح أخاك ثمّ عُد وقرّب قربانك” (مت 5/ 24)… يسوع يُعلِّم ويعمل. يسوع لا يُحمّل الناس أحمالًا ثقيلة ولا يمسّها بإحدى أصابعه (لوقا 11/ 46)؛ ما يُعلّمه يُطبّقه بأعماله (من النشيد الوطنيّ اللبنانيّ: “قولنا والعمل”). لم يتكلّم يسوع بالسُّوء على أحد، لم يَدِن أحدًا، ولم يحكم على أحد… منطق يسوع دومًا: “أُعفوا يُعفَ عنكُم” (مت 6/ 14)… “لا تدينوا فلا تُدانوا” (لوقا 6/ 37)… “إصفحوا عن بعضكم بعضًا بالمحبَّة”، “أحبُّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم (لوقا 6/ 27).

موقف يسوع على الصّليب شفع بالعصاة- الأثمة… لقد طلب من الله أبيه المغفرة لمن صلبوه، أي لرؤساء اليهود، والحاكم الرّومانيّ، والجنود، والجمهور الذي هتف: إصلبه! ٱصلبه!! (لوقا 23/ 21)، يُصلّي يسوع من على الصّليب للآب كي يغفر لصالبيه، ويُعلّل يسوع توسّله بالقول “لا يعلمون ما يفعلون”، وهذا الجهل لقتل القدّوس البارّ يُذكّر به بطرس يوم العنصرة الشَّعب اليهوديّ: “ولكنّكم أنكرتم القدّوس البارّ والتمستم العفو عن قاتل (برأبّا)، فقتلتم سيّد الحياة، فأقامه الله من بين الأموات (يتابع بطرس) “وإنّي أعلم، أيّها الإخوة، أنّكم عملتم ذلك عن جهالة. وهكذا رؤساؤكم أيضًا” (أع 3/ 14-17).

يقول بولس الرَّسول الذي كان مجدِّفًا وساخرًا ومضطهِدًا للكنيسة عن حالته قبل ٱرتداده: “ولكنّي نلت الرحمة لأنّي كنت أفعل ذلك عن جهالة، إذ لم أكن مؤمنًا” (1 تيم 1/ 13). منطق يسوع تجاه مَنْ يدّعون المعرفة والحقيقة “الجهل أعمى عيونهم”، لأنّهم لا يؤمنون… ولم يعرفوا بأنَّ الكتب تُخبر عنه… لم يتصفّحوا جيّدًا الكتب المقدّسة، ما قالته التوراة والأنبياء والمزامير كما شرح بعد قيامته على طريق عماوس (لو 24/ 13- 35).

يجعل يسوع مِن جهلهم أساسًا لطلب الغفران. إنّه يرى في الجهل بابًا ننفذ منه إلى الاهتداء والتوبة… لذا يسوع على الصّليب هو “حمل الله” (يو 19/ 36)؛ وهو “حملٌ بلا عيب ولا دنس” (1 بط 1/ 19)، الَّذي أخذ على عاتقه خطيئة العالم ورفعها (يو 1/ 29). فمع يسوع تمَّت المصالحة مع العالم؛ بصليبه كان التكفير الحقيقيّ والتطهير الحقيقيّ، ويسوع “الطاهر” “البارّ” “القدُّوس” يُنقّي ويُطهّر كلّ ما هو ملوّث وغير نقيّ… ينقّي كلّ إنساننا…

صلّى يسوع على الصَّليب إلى أبيه، فحقّق ما علّمنا إيّاه: “أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وصلّوا من أجل مضطهديكم” (مت 5/ 44).

غَفَرَ يسوع كما علَّمنا في صلاة الأبانا أن نغفر بعضنا لبعض ليغفر لنا أبونا السماويّ جهالاتنا، وإن لم نغفر بعضنا لبعض لن يغفر لنا (مت 6/ 15). هذا الغفران ينبغي أن يكون من دون قيد أو شرط، سبعين مرَّة سبع مرَّات (مت 18/ 22)، غفرانًا بلا حدود، كي نتسامح كما سامحنا الله في المسيح (أف 4/ 32).

نرى في الكنيسة الأولى إسطفانوس أوّل الشهداء يصلّي صلاة يسوع، عندما رجموه وجرّوه إلى خارج المدينة، قال: “يا ربّ، لا تُقم عليهم هذه الخطيئة” (أع 7/ 60). كذلك القدّيس بولس في رسائله يأمر المؤمنين بأن يباركوا المضطهِدِين، ولا يبادلوا الشرّ بالشرّ: “باركوا الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا” (روم 12/ 14)، “نُشتَم فنُبارِك، نُضطهَد فنَحتمِل” (1 كور 4/ 12). بادَلَ يسوع الشرَّ بالخير.

علَّمنا يسوع مِنْ على صليبه لا الغفران فحسب، بل المحبّة عامَّة، ومحبّة أعدائنا خاصَّة. وهكذا يشهد أمام الخلق أجمع بأنَّ المحبّة أقوى من الخطيئة، وأقوى من الموت. لذلك ٱنطلاقًا من المحبَّة (جديد يسوع)، أن يكون لنا مع الآخرين: التصرّف اللَّبِق، العاقل والمتواضع تجاه من ٱرتكب خطأً تجاهنا، وأن نتحاشى الثَّرثرة وجرح بعضنا بعضًا، إنّما ليكن تصرّفنا كلُّه بالمحبَّة، مدركين بأنَّنا جميعًا بحاجة إلى الغفران أمام الله، لذلك نحن مدعوّون إلى توبة القلب، وإنْ غفرنا جهالات بعضنا البعض يغفرْ لنا يسوع جهالاتنا…

Share this Entry

الأب شربل رعد

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير