Wikimedia Commons

تجليس “يسوع الملكي” بحسب مرقس

«هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ؛ تَبارَكَتِ المَملَكَةُ الآتِيَة، مَملَكةُ أَبينا داود! هوشَعْنا في العُلى!» (مر 11: 10)

Share this Entry

مُقدّمة

في عام 383م سُئل القديس هيرونيموس الذي إشتهر بترجمته للكتاب المقدس من لغاته الأصلية اليونانية والعبرية إلى اللغة اللاتينية (الشهيرة بالفولجاتا) التي إنتشرت في كل أنحاء العالم (340-420) من البابا داماسيوس عن معنى كلمة “هُوشَعْنا”، فأجابه هيرونيموس بإنّ كلمة “هُوشعنا في العُلي” بحسب المزمور: «خَلِّصْنا أيّها الرَّبُّ إِلهُنا ومِن بَينِ الأُمَمِ اْجمَعْنا لِنَحمَدَ اْسمَكَ القُدُّوس ونَفتَخِرَ بِتَسبِحَتِكَ» (106: 47) فهي تعني “خَلِّصْنا” و “في العُلي” بحسب الكتاب المقدّس لا تُعني السماء فقط بل تعني كل مكان، فالله حاضر في كل مكان. فيصير معنى “هوشعنا في الأعالي” خَلِّصنْا الآن، أنت أيها الحاضر في كل مكان.

  1. رمزيّة الأُنُوس (مر 11: 2- 7)

يروي مرقس معجزة شفاء يسوع لبَرطيماوُس الأعمى في 10: 46-50، إذ: «لمـَّا سَمِعَ بِأَنَّهُ يسوعُ النَّاصِريّ، أَخذَ يَصيح: “رُحْماكَ، يا ابنَ داود، يا يَسوع!”» (10: 47). يلي هذا النص مباشرة، في الإصحاح الـحادي عشر إذ يلتقي يسوع بجمع بقرية بيت فاجي وهناك سيتم قبول الفكر الجديد الذي يقدمه يسوع. ثم يرسل يسوع بعض من تلاميذه “لإيجاد الجحش” (أُنُوس باليوناني) الذي يتكرر بالنص أربع مرات بإلحاح، وفي العهد القديم يتكرر 111 مرة بمعنى إيجابي. فهذا الحيوان يحمل معنى الوداعة فهو يعمل بصمت. وتتحقق فيه نبؤة زكريا الواردة في 9: 9- 10 بصفتي الربط والبكورية: «جَحْشاً مَربوطاً ما رَكِبَه أَحَد، فحُلاَّ رِباطَه وأتِيا بِه» (11: 3). رمزية الجحش قوية كتابيًا، إذ أن يسوع هو الملك الآتي لتأسيس مملكة ليس بالعنف ولا بالقوة بل بوداعة إذ يضع ذاته أمام الآخرين. والآن لابد من “فك رباط” هذا الجحش البكر لأن الملك الجديد سيستخدمه فلم يركبه أحد من قبل. إذن سيفتتح هذا الملك عالم جديد، ليست بالحصان رمز القوة والسلطة، بل بوداعة الجحش رمز الخدمة والأصغريّة. نحن أمام “ملك جديد” وجحش بكر، فهناك مَن لا يرغب بعدم فك الجحش وهناك مَن يرغب في التسلط ومَن لا يرغب في الخدمة، وأنت ماذا تودّ أنّ تكون اليوم؟

تعبير “وضع الرداء على الجحش” الرداء يرمز كتابيًا للشخص، أي وضع الذات أمام الجديد الذي سيقدمه يسوع وافتتاح مملكة جديدة واختياره ليمُلك على العالم البشري. بجلوس يسوع على الجحش يصير كعرشه له ويظهر يسوع كخادم وليس كمتسلط. يشير الجمع المرافق للملك، بالرغم من أنه لم يفهم بالكامل الجديد الذي يحمله يسوع، إذ قام بفرش ثيابه مما يعني قبول يسوع كملك على إسرائيل.

  1. أُوصنَّا-هُوشَعْنا (مر 11: 9)

استعان الجمع أثناء استقباله ليسوع بترنيم كلمات بَرطيماوُس الذي كان أعمى سابقًا قائلين: «هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ» (11: 9) هتافهم هو علامة على عدم الفهم لهوية يسوع الحقيقية، كملك إلهي فيريدونه ملك بحسب عرش داود، لذا سيصرخون ثانية بعد أيام قليلة “أصلبه” لعدم فهمهم نوعية الملوكية الإلهيّة. يدخل يسوع أورشليم لبدء بناء الهيكل الجديد وإقامة العلاقة الجديدة مع الآب في يسوع الابن.

  1. دور الله-الآب (مر 14: 34- 36)

ثم في الإصحاح الـ 14 بحسب السرد المرقسيّ يقدم لنا رواية خاصة لآلام يسوع، فهو أقدم الأناجيل. سنتوقف فقط على ما يقتصر مرقس فقط على سرده دون تنويه باقي الإنجيليين. يقدم الانجيلي يسوع بمشاعره البشرية والتي يعاني فيها من استعداده للآلام بسبب حبه للبشر وعبوره بالموت ظلمًا. وهنا يسوع يعلمنا كيف يواجه هذه الآلام من خلال الصلاة. فقط مرقس يشير لصلاة يسوع لأبيه قائلاً: «أَبَّا، يا أَبَتِ، إِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير، فَاصرِفْ عنَّي هذِه الكَأس. ولكِن لا ما أَنا أَشاء، بل ما أنتَ تَشاء» (14: 36). “آبّا” بالأرامي، بتعبير طفولي يشير لأبوة وحنان الآب ومناداته باسمه الحقيقي أي “ابي”. إذن عدم الشك حتى في الأوقات الصعبة فهو حاضر الآب.

يسوع، لدى مرقس، لم يتكلم حينما أتى يهوذا مقبلاً إياه، فاستقبله صامتًا ولم يتحدث مع الذين اتوا ليعتقلوه بالعنف موضحًا بوداعة: «لِتَتِمَّ الكُتُب» (14: 49). يُسلم يسوع ذاته بدون مقاومة كاستعداد لبدء عالم جديد. ويذكر مرقس حدث آخر وهو: «تَبِعَه شابٌّ يَستُرُ عُريَه بِإِزار فأَمسَكوه. فتَخَلَّى عنِ الإِزارِ وهَرَبَ عُرْياناً” ويشير إلى صفة باليوناني (نيانكسوس باليوناني) أي شاب صغير العمر ويُعتقد إنه مرقس الإنجيلي. وفي هذا الوصف تشبيه استباقي ليسوع الذي سيترك الموت والقبر والأكفان منتصراً. فالعالم الأرضي سيحصل على الملابس فقط ولن يمكنه أن يمسك بالشاب. وهو ما يريد أن يسلمه لنا يسوع حياة شبابية ذات قلب حي. أمام الشهادات الزائفة، يتخذ يسوع موقف الصمت ويدل على ايجابيته وقوته، إذ لا يستجيب على العنف بآخر بل يتحلى بالـ”صمت نبيل” فهو يعلم بالنهاية، فالانتصار يدوم للحق.

يشير مرقس لوجود التلاميذ حول يسوع أثناء القبض عليه، إلا أنّ الإنجيلي يميز بأنه لم يتواجد أي منهم. ثم تأتي اللحظة المأساوية في حوار يسوع مع أبيه قائلاً: «أَلُوي أَلُوي، لَمَّا شَبَقْتاني؟” أَي: إِلهي إِلهي، لِمَاذا تَركتَني؟» (14: 34)، فهو يحيا قمة الظلم. مَن يحيا حقيقة لابد وأن يُرفض بالأخص الاقرب منه. وهنا يحمل الإنجيل دعوة لنا بأن نصرخ للآب مع يسوع، معبرين عن الألم الواقع علينا. إلا أن قائد المئة الوثني اعترف بهوية يسوع الحقيقة: «كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!» (14: 39).

الخلّاصة

نودّ أن نختتم رواية آلام يسوع بإعلان مرقس عن الانشقاق العكسي للهيكل: «فَانشَقَّ حِجابُ المَقدِسِ شَطْرَيْنِ مِن الأَعلى إِلى الأَسْفَل» (14: 38)، يستخدم ذات الفعل عند معمودية يسوع انشقت السموات (باليوناني سكيزو) فعل يشير إلى أن ما تم انشقاقه لا يمكن اصلاحه بتاتًا. من الأعلى هو مكان مجد الرب، بسبب التوافق الذي تمّ بين السماء والأرض بموت يسوع. كل الحواجز التي كانت تمنع الشعب من رؤية مجد الرب تمَّ إزالتها، فمن الآن وصاعداً بيت الآب مفتوح للجميع. أسبوع آلام مقدس تحيوه وأنتم في منتهي الملء والنعمة مع المصلوب والقائم لأجلنا!

Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير