يتفرّد لوقا الإنجيليّ بذِكْرِ توبة أحد المجرِمَين اللَّذينِ صُلِبا مع يسوع، وتصلُّب الآخر في التجديف واللَّعنات. أُحصيَ يسوع مع الأثمة “ثلاثة صلبان ومصلوبٌ واحد على جلجلة الابن له يمين وله يسار” (مار يعقوب السَّروجي). يُعلن الإنجيليّ براءة يسوع على لسان اللّصّ التائب: “نحن بعدلٍ حُكِمَ علينا، لأنَّنا نلقى ما تستوجبه أعمالنا، أمّا هذا الرّجل فلم يفعل شيئًا سيّئًا!” (لو 23/ 41). أحد اللصَّين، الَّذي يُدعى اللصَّ التائب في التَّقليد الكنسيّ، عَرَفَ بحَدْسِهِ سرَّ يسوع وعرف بأنّ تُهمَة يسوع مختلفة عن جريمتِهما كلصَّين، عرف أنَّ يسوع لم يكن عنيفًا، وأنّ وجه الله مرئيٌّ فيه، وهو ٱبن الله. عرف اللّصّ رغم أنَّ يسوع مجرّد من كلّ قوّة وسلطان بأنّه الملك الحقيقيّ، ويريد اللّصّ أن يبقى إلى جانبه ليس فقط على الصليب، إنّما أيضًا في المجد الآتي. هذا اللّصّ سَرَق الملكوت بالتوبة، عرف أن يكون لصًّا في الأرض ولصًّا في السماء (كما على الأرض كذلك كان في السماء).
هذا اللّصّ التائب أضحى مثالًا لكلّ خاطىء كي يتوب وينال الغفران والحظوة لدى الرّبّ، مثل تلك الخاطئة الَّتي دهنت بالطّيب قَدَمَي يسوع (مر 14/ 3). وكان موقف يسوع عندما ٱلتقى زكّا جابي الضّرائب: “اليوم صار الخلاص لهذا البيت، لأنَّ هذا الرّجل هو أيضًا ابنٌ لإبراهيم، فإنَّ ٱبن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع، ويخلّصه” (لو 19/ 9-10).
ينال الانسان ثوابه عند موته مباشرةً، قال يسوع للّصّ “اليوم تكون معي في الفردوس”، الخلاص يتحقّق مباشرة من خلال الإيمان بيسوع المسيح، تكون معي “في الفردوس”، أي حيث يسوع الَّذي مات وقام، وهو عن يمين الله الآب يشفع فينا، ونحن ثابتون على الرّجاء بأنّنا سنكون معه في رفقة من سبقونا ورقدوا. أَلم تكن هذه أُمنية ورغبة وصلاة يسوع للآب في بستان الزّيتون “أن يكون الجميع حيث يكون” (يو 17/ 24). أن نستعيد الفردوس المفقود، هذا الفردوس يبدأ في الزّمن التّاريخيّ الأرضيّ، ويكتمل في الزّمن الأُخرويّ (العتيد المنتظر) السّماويّ. إخوتي ما أجمل ما قاله مار أفرام السريانيّ للربّ بما معناه يكفيني أن أرعى في سياج فردوسك (مار أفرام السريانيّ، منظومة الفردوس 5/ 15). وهنا اللّصّ يعلّمنا أن نعترف بضعفنا وخطيئتنا وليس على مثال آدم الذي نكر خطيئته، فآدم خسر الفردوس أمّا اللّصّ ففاز بالفردوس منتصرًا ظافرًا بصليب الابن مفتاح باب الفردوس.
قال اللّصّ التائب ليسوع: “يا يسوع أُذكرني عندما تأتي في ملكوتك” (لو 23/ 42)، قال هذا بإيمان، فبشّره يسوع بالخلاص. فكان له الخلاص الَّذي تكلّم عنه المارّة ساخرين: “خلِّصْ نفسك! إن كنت ٱبن الله فانزل عن الصليب” (مت 27/ 39-40). يسوع، كونه ٱبن الله، لا ينزل عن الصّليب، بل يبقى مسمّرًا عليه ليمنح الخلاص لكثيرين. يردّنا هذا الكلام إلى تجارب يسوع في الصَّحراء بعد عماده، إذ كان المجرِّب يقول له “إن كنت ٱبن الله” فافعل…، يسوع في موقفه على الصَّليب لا يتراجع لأنّه لا يفكّر بذاته إنمّا ينظر إلى الآخرين الذين يتألَّمون وهو يتعاضد مع آلامهم ويحمل آلام كثيرين، وهو “حمل الله” رافع خطيئة العالم (يو 1/ 29)، ويعلّمنا أن لا نهرب من الآلام، فالصَّليب طريق خلاص بيسوع على الصّعيد الشّخصيّ وعلى الصّعيد الجماعيّ.
النزول عن الصّليب خلاص بشريّ زمنيّ- ماديّ، أمّا يسوع فبشّر اللّصّ التائب بخلاصٍ أعظم بكثير: “اليوم تكون معي في الفردوس”، جواب يسوع هذا اختصر المسافات، وهو يعلّم بأنّه سيكون في شركة الآب في المجد السماويّ، وهو يَعِد بالفردوس (الملكوت) منذ الآن، أي في الشّركة معه في فردوس الآب. يعلّم يسوع بأنّه سيُعيد الإنسان إلى الفردوس الذي خرج منه. يا لها من سرعة = اليوم، يا لها من صُحبة = معي، ويا لها من مكافأة = في الفردوس. فاللّصّ يصير أوّل الدّاخلين إلى الفردوس “كثيرون أوّلون يصيرون آخِرِين وآخِرِين يصيرون أوّلين” (مت 19/ 30).
يترك لنا يسوع فرصةً لنتوب (في اللغة اللبنانيّة بيرخي الحبل)، لذا نجد هذا اللّصّ يُعلن إيمانه بيسوع ويسمّيه باسمه “يسوع”، معلنًا بذلك أنَّه “هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (مت 1/ 21). لندع طيبة ورحمة الله تمسّنا على مثال هذا اللّصّ التّائب. لذلك لننزع عنّا ثقل الخوف ونتمسّك برحمة الله المحبّ، فرحمته شملت اللّصّ فكم بالأحرى نحن أبناء الإيمان بيسوع، لذلك لنتمسّك بهذا الرّجاء الذي لا يخيّب ناظرين بإيمان إلى رحمة الله لنا بيسوع.
إخوتي أُذكّركم: “ليست خطيئة بلا مغفرة إلَّا الَّتي بلا توبة” (القدِّيس إسحٰق السريانيّ).