في قراءة النبي أشعيا التي أصغينا إليها، يعدنا الله وعدًا مليئًا بالرّجاء، وهو يخصّنا ويهمّنا جدًّا: “أَمَّا أَنتُم فتُدعَونَ كَهَنَةَ الرَّبّ ويُقالُ لَكم خَدَمَةُ إِلهِنا. […] فأُعْطيهمِ المُكافَأَةَ في الحَقّ وأُعاهِدُهم عَهداً أَبَدِيّاً” (61، 6. 8). أن نكون كهنة، أيّها الإخوة الأعزّاء، هذه نعمة، نعمة كبيرة جدًّا، وليست النعمة لنا في المقام الأوّل، بل هي نعمة للناس [1]، ومن أجل شعبنا، هي نعمة كبيرة حقًّا إذ يختار الله، من بين قطيعه، البعض ليرعوا خرافه وليكونوا بصورة حصرية آباء ورعاة. والله نفسه هو الذي يعطي الكاهن مكافأته: “أُعْطيهمِ المُكافَأَةَ في الحَقّ” (أشعيا 61، 8). وهو، كما نعلم، يدفع جيدًّا، ولو أنّ له طريقته في الدفع، مثلًا، يبدأ فيدفع للأخرين أولًا، ومن ثمّ للأوّلين، إنّه أسلوبه.
قراءة سفر الرّؤيا تقول لنا ما هي مكافأة الله. إنّها حبّه ومغفرته غير المشروطة لخطايانا بثمن دمه المسفوك على الصّليب: “الَّذي أَحَبَّنا فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا مَملَكَةً مِنَ الكَهَنَةِ لإِلهِه وأَبيه” (1، 5-6). لا يوجد مكافأة أكبر من صداقة يسوع، لا تنسَوا هذا. ولا يوجد سلام أكبر من مغفرته، وهذا كلّنا نعلمه. ولا يوجد ثمن أغلى من ثمن دمه الثمين، الذي يجب ألّا نسمح لأنفسنا بأن نحتقره بسلوك لا يليق.
إن قرأنا بقلوبنا، أيّها الإخوة الكهنة الأعزّاء، فهذه هي دعوات الله لنا لنكون مخلصين له، ونكون مخلصين لعهده، ونترك أنفسنا نُحَبّ، ونترك الله يغفر لنا. إنّها دعوات ليس فقط لأنفسنا، بل أيضًا حتى نتمكّن بهذه الطريقة من أن نخدم، بضمير نقي، شعب الله الأمين والمقدّس. الناس تستحق ذلك وتحتاج إليه أيضًا. إنجيل لوقا يقول لنا إنّه بعد أن قرأ يسوع مقطع النبي أشعيا أمام أهله وجلس، “كانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه” (4، 20). حتى سفر الرّؤيا يكلّمنا اليوم على عيون شاخصة إلى يسوع، على جاذبية لا يمكن مقاومتها في الرّب يسوع المصلوب والقائم من بين الأموات الذي يقودنا لنسجد له ونعترف به: “هاهُوَذا آتٍ في الغَمام. ستَراه كُلُّ عَينٍ حَتَّى الَّذينَ طَعَنوه، وتَنتَحِبُ علَيه جَميعُ قَبائِلِ الأَرض (1، 7). ستكون النعمة الأخيرة، عندما يعود الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات، هي نعمة التعرّف عليه على الفور: سنراه مطعونًا، وسنعرفه من هو، ومن نحن، نحن خطأة، ولا شيء آخر.
”أن نثبّت عيوننا على يسوع“ هي نعمة يجب أن ننميها بكوننا كهنة. في نهاية اليوم من المفيد لنا أن ننظر إلى الرّبّ يسوع، وأن ينظر هو إلى قلوبنا وإلى قلوب الناس الذين التقيناهم. إنّها ليست مسألة محاسبة وتدقيق في خطايانا، بل هي مسألة تأمّل محبّ ننظر به إلى يومنا بنظرة يسوع ونرى بالتالي نعمة اليوم، والعطايا وكلّ ما صنعه من أجلنا، لكي نشكره. ونبيّن له أيضًا تجاربنا حتى نعرفها ونرفضها. كما نرى، علينا أن نفهم ما يرضي الرّبّ يسوع وما يريده منا هنا والآن، في تاريخنا الحالي.
وربما، إذا ثبتنا أمام نظرته المليئة بالعطف علينا، ستكون هناك أيضًا إشارة منه لنا لنبيّن له أصنامنا. تلك الأصنام التي أخفيناها، مثل راحيل، تحت ثنايا ردائنا (راجع تكوين 31، 34-35). لنترك الرّبّ يسوع ينظر إلى أصنامنا المخفية – كلّنا لدينا أصنام، كلّنا! – وأن نترك الرّبّ يسوع ينظر إلى هذه الأصنام المخفية يجعلنا أقوياء أمامها وينتزع منها قدرتها.
في الواقع، نظرة الرّبّ يسوع تجعلنا نرى أنّنا نمجد أنفسنا فيها [2]، لأنّه هناك في هذه المساحة التي نعيش فيها كما لو كنا وحدنا، يدخل الشيطان، ويضع فينا عنصرًا شريرًا للغاية: فهو لا يجعلنا فقط ”نُرضِي“ أنفسنا بإرخاء العنان فينا لهوى، أو لتنمية هوى آخر، بل يقودنا أيضًا إلى أن نستبدل حضور الأقانيم الإلهيّة، حضور الآب والابن والرّوح الذين يسكنون فينا، بتلك الأصنام المخفية. إنّه شيء يحدث بالفعل. على الرّغم من أنّ المرء يمكن أن يقول لنفسه إنّه يميز تمامًا بين ما هو صنم ومن هو الله، فإنّنا في الواقع نأخذ مساحة من الثالوث الأقدس ونعطيها للشيطان، فتصبح نوعًا من السّجود غير المباشر: سجودٌ نخفيه، لكنا نستمر بالإصغاء إلى أحاديث الشيطان ونستهلك منتجاته، إلى أن لا تبقى فينا حتى زاوية صغيرة لله في النهاية. لأنّه هو هكذا، يمضي ببطء. ثمّ تكلّمت مرّة أخرى على الشّياطين ”المهذّبة“، التي قال عنها يسوع أنّها أسوأ من الذي تمّ طرده. لكنّها ”مهذّبة“، فهي تقرع الجرس، وتدخل وشيئًا فشيئًا تستولي على البيت. يجب أن نكون حذرين منها، هذه هي أصنامنا.
يوجد في الأصنام في الواقع شيء – عنصر – شخصي، عندما لا نزيل القناع عنها، وعندما لا ندع يسوع يُبيّن لنا أنّنا فيها نبحث عن أنفسنا، وبالطريقة السيئة، وبدون سبب، وأنّنا نترك مساحة يتدّخل فيها الشرير. يجب أن نتذكر أنّ الشيطان يطلب منا أن نعمل مشيئته وأن نخدمه، لكنّه لا يطلب منا بصورة دائمة أن نخدمه ونسجد له، لا، هو يعرف كيف يتحرّك، إنّه دبلوماسي كبير. يكفيه أن نسجد له من وقت لآخر، حتى يصير هو ربّنا الحقيقي، وسيشعر حتى أنّه إله في حياتنا وفي قلوبنا.
بعد أن قلت هذا، أودّ أن أشارككم في قدّاس الميرون المقدّس هذا، ثلاثة مجالات مخفيّة لعبادة الأصنام، فيها يختبئ الشّرّير ويستخدم أصنامه لكي يضعفنا في ممارسة دعوتنا، وفي كوننا رُعاة، وشيئًا فشيئًا، يفصلنا عن حضور يسوع المحيّي والمحبّ، والرّوح القدس والآب.
Messe Chrismale 14 avril 2022 @ Vatican Media
مجال أوّل لعبادة الأصنام الخفيّة فينا هي الروحانيّة الدنيويّة. إنّها تقترح علينا “حياة، وثقافة، ثقافة سريعة الزّوال، وثقافة المظاهر، وثقافة التبرّج” [3] . معيار هذه الروحانيّة هو روح الانتصار، انتصار من دون صليب. ويسوع صلّى حتّى يحمينا الآب من هذه الثّقافة الدنيويّة. تجربة المجد هذه من دون صليب تتعارض مع شخص الرّبّ يسوع، تتعارض مع يسوع الذي تواضع في تجسّده، وبكونه آية للمعارضة، هو الدّواء الوحيد ضدّ كلّ صنم. أن تكون فقيرًا مع المسيح الفقير و”لأنّ المسيح اختار الفقر“، هذا هو منطق المحبّة ولا يوجد منطق آخر. في مقطع إنجيل اليوم، رأينا كيف وضع الرّبّ يسوع نفسه في مكان صلاته المتواضع وفي قريته الصّغيرة، التي عاش فيها طوال حياته، ليعلن الإعلان نفسه الذي سيعلنه في نهاية التّاريخ، عندما سيأتي في مجده، ويحيط به الملائكة. يجب أن تبقى عيوننا ثابتة في المسيح، الآن وهنا في قصّة يسوع معي، كما ستكون في حينها عند عودته. الرّوح الدنيويّة هي أن نذهب ونبحث عن مجدنا الخاصّ، وبهذا نحرم أنفسنا حضور يسوع المتواضع والمُهان، والرّبّ القريب من الجميع، والمسيح الذي يتألّم مع كلّ الذين تألّموا، والذي يسجد له شعبنا ويعرف من هم أصدقاؤه الحقيقيّون. الكاهن الدّنيوي ليس أكثر من مجرّد عابد أصنام في هيئة كاهن. الكاهن الدّنيوي ليس أكثر من مجرّد عابد أصنام في هيئة كاهن.
مجال آخر لعبادة الأصنام الخفيّة تمتد جذوره حيث تُعطَى الأولويّة لبراغماتيّة الأرقام. يُعرف الذين لديهم هذا الصنم المخفي بحبّهم للإحصاءات، التي يمكنها أن تمحو كلّ ميزة شخصيّة في المناقشة، فتُعطَى الأفضليّة للأكثرية، ويصبح العدد في النهاية هو معيار التّمييز، هذا سيّء. لا يمكن أن تكون هذه الطّريقة الوحيدة للعمل ولا المعيار الوحيد في كنيسة المسيح. لا يمكن أن نحوِّل الأشخاص إلى أعداد، والله لا يعطي الرّوح ”بحساب“ (راجع يوحنّا 3، 34). في إعجابنا هذا بالأرقام، في الواقع، نحن نبحث عن أنفسنا، ونُسَرُّ بالتحكّم الذي يضمنه لنا هذا المنطق الذي لا يهتمّ بالوجوه ولا بالمحبّة، بل بمحبّة الأرقام. إحدى ميّزات القدّيسين الكبار هي أنّهم عرفوا كيف يُخفوا أنفسهم، حتّى يتركوا كلّ المجال لله. إخفاء النفس هذا، ونسيان الذّات، والرّغبة في أن ينسانا الآخرون هي ميزة الرّوح القدس، الذي ليس له صورة، لأنّه ببساطة كلّه حبّ، ويترك صورة الابن تظهر، وفيها صورة الآب. إخفاء شخصيّة الرّوح، الذي هو من نفسه لا صورة له، ولا هو مظاهر، لأنّ ليس له صورة، هذا ما يهدف إليه صنم الأعداد الذي يهتم بأن يكون كلّ شيء مظاهر، ولو بطريقة مجرّدة وحسابيّة، ومن دون تجسّد.
مجال ثالث لعبادة الأصنام الخفيّة، وهي مرتبطة بما سبق، هو روح الوظيفة، وهي روح مغريّة، فيها يكون الكثيرون ”متحمّسين للتقدّم في الوظيفة أو في خريطة الإنجاز، أكثر من اهتمامهم للعمل نفسه“. عقليّة الوظيفة لا تقبل السّرّ، فهي تهدف إلى الفعاليّة. وشيئًا فشيئًا، يَستبدل هذا الصنم فينا حضور الآب. يستبدل الصّنم الأوّل حضور الابن، ويستبدل الصّنم الثّاني حضور الرّوح القدس، وهذا الصّنم يستبدل حضور الآب. أبونا السماوي هو الخالق، ليس من يجعل الأمور ”تعمل“ فقط، بل ”يخلق“ مثل أب، بحنان، ويتحمّل مسؤوليّة مخلوقاته ويعمل حتّى تزداد حرّيّة الإنسان. لا يعرف ”الوظائفيّ“ أن يفرح بالنِّعَم التي يفيضها الرّوح القدس على شعبه، وفيها يمكنه هو أيضًا أن يجد غذاءً له مثل عامل يستحق أجرته. الكاهن الذي لديه العقليّة الوظائفيّة لديه غذاؤه الخاصّ، وهو الغرور. في الوظائفيّة، نحن نترك جانبًا السّجود للآب في الأمور الصّغيرة والكبيرة في حياتنا، ونُسَرّ بفعاليّة برامجنا. مثلما فعل داود عندما جرّبه الشّيطان، وقرّر أن يجري الإحصاء (راجع الأخبار الأوّل 21، 1). هؤلاء هُم عُشّاق خِطَّة الطّريق وخِطَّة المسيرة، وليست المسيرة نفسها.
في المجالَين الأخيرَين لعبادة الأصنام الخفيّة (براغماتيّة العدد والرّوح الوظائفيّة) نحن نستبدل الرّجاء، الذي هو مجال الّلقاء مع الله. نضع بدله الأدلّة التجريبيّة التي تدلّ على المجد الباطل من قِبَل الرّاعي. هذا تصرّف يفكّك وحدة الشّعب مع الله، ويشكّل صنمًا جديدًا قائمًا على الأرقام والبرامج: الصنم هو دليل “سلطاني، وسلطاننا” [4] ، برنامجنا، وأرقامنا وخططنا الرعويّة. أن نخفي هذه الأصنام (كما تصرّفت راحيل) وألّا نعرف كيف نكشفها في حياتنا اليوميّة، يُضِرُّ بأمانة عهدنا الكهنوتي ويجعل علاقتنا الشخصيّة مع الرّبّ يسوع فاترة. قد يقول قائلٌ: ماذا يريد هذا الأسقف الذي يكلّمنا على أصنام اليوم، بدلاً من أن يكلّمنا على يسوع؟
أيّها الإخوة الأعزّاء، يسوع هو الطّريق الوحيد حتّى لا نخطئ فنعرف ما نشعر به، وإلى أين يقودنا قلبنا…، يسوع هو الطّريق الوحيد لنميّز جيّدًا، فننظر إلى أنفسنا أمامه، كلّ يوم، كما لو كان قد جلس اليوم أيضًا في كنيسة رعيّتنا وقال لنا إنّ كلّ ما سمعناه اليوم قد تحقّق. وكون يسوع المسيح آية للمعارضة- لكنّه ليس دائمًا أمرًا فيه دماء وقسوة، لأنّ الرّحمة نفسها هي آية معارضة، وكذلك الحنان، أكثر من ذلك بكثير – أقول إنّ يسوع المسيح، يساعدنا لكشف الأصنام، فنرى حضورها، وجذورها وطريقة عملها، وبهذه الطريقة يبيدها الرّبّ يسوع، هذا هو الاقتراح: أن نعطي مساحة حتّى يستطيع الرّبّ يسوع أن يبيد أصنامنا المخفيّة. ويجب أن نتذكّرها، وأن نكون حذرين، حتّى لا ينمو من جديد زؤان هذه الأصنام التي عرفنا كيف نخفيها في ثنايا قلوبنا.
وأودّ أن أختم وأطلب إلى القدّيس يوسف، الأب العفيف جدًّا ومن دون أصنام مخفيّة، أن يحرّرنا من كلّ رغبة في التملّك، لأنّ هذه الرغبة في التملّك، هي الأرض الخصبة التي فيها تنمو هذه الأصنام. وأن يحصل لنا أيضًا على النعمة لكي لا نستسلم في مهمّة تميّيز الأصنام الشّاقّة هذه، التي نخفيها باستمرار أو هي تتخفّى. ولنطلب أيضًا إلى القدّيس يوسف، عندما يرتابنا الشكّ ونتساءل كيف نعمل الأمور بشكل أفضل، أن يتشفّع بنا حتّى يُنير الرّوح القدس حُكمَنا، كما أنار حُكمَه عندما وقع في التجربة ونوى أن يترك مريم ”سِرًّا“ (λάθρᾳ)، حتى نعرف بقلب نبيل كيف نُخضع للمحبّة ما تعلّمناه من الشريعة [5] .
***********
©جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
[1]لأنّ كهنوت الخدمة هو في خدمة الكهنوت العام. اختار الله البعض حتى “يقوموا باسم المسيح بالخدمة الكهنوتية للبشر بشكل رسمي” (المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، الدرجة الكهنوتية، 2؛ راجع دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، 10). “في الواقع، الخدام الذين مُنحوا سلطة مقدسة يخدمون إخوتهم” ( نور الأمم، 18).
[2] راجع التعليم المسيحي في المقابلة العامة، 1 آب/أغسطس 2018.
[3] عظة البابا فرنسيس في القدّاس الإلهي في كنيسة القدّيسة مرتا، 16 أيّار/مايو 2020.
[4]J.M. Bergoglio, Meditaciones para religiosos, Bilbao, Mensajero, 2014, 145.
[5]راجع رسالة رسوليّة، بقلب أبوي، 4، ملاحظة 18.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana